عرض /د. مازن النجار
في هذا الكتاب، تقوِّض نعومي كلاين أسطورة انتصار اقتصاد السوق الحرة عالميًا بطريقة ديمقراطية، وتكشف أفكار ومسارات المال، وخيوط تحريك الدمى وراء أزمات وحروب غيّرت العالم في العقود الأربعة الأخيرة.
تفصّل المؤلفة -وهي صحافية كندية مناهضة للعولمة ألّفت بعض أكثر الكتب مبيعًا- كيف تمكنت سياسات “السوق الحرة” الأميركية من الهيمنة على العالم، باستغلال شعوب وبلاد صدمتها الكوارث. وتتعقب التطبيق العملي لهذه الأفكار خلال تاريخنا المعاصر مبينة أن أحداثًا معروفة كانت مسارح متعمدة نشِطة لـ”مبدأ الصدمة”، منها: انقلاب بينوشيه في تشيلي (1973)؛ وحرب جزر فوكلاند (1982)؛ ومذبحة ميدان السلام السماوي ببكين (1989)؛ وانهيار الاتحاد السوفيتي (1991)؛ والأزمة المالية الآسيوية (1997)؛ وإعصار ميتش (1998)؛ وغزو العراق (2003)؛ وكارثة تسونامي (2004)؛ وإعصار كاترينا (2005).
“مبدأ الصدمة” هو رؤية طموحة للتاريخ الاقتصادي في الخمسين عامًا الماضية، ولصعود أصولية السوق الحرة. إن نظام “رأسمالية الكوارث” عنيف ويتطلب الإرهاب أحيانًا ليقوم بعمله؛ فقد مهدت الأزمة المالية الآسيوية (1997) الطريق أمام صندوق النقد الدولي لفرض برامج بالمنطقة وبيع شركات حكومية لبنوك أجنبية وشركات متعددة الجنسيات. كما أتاحت كارثة تسونامي لحكومة سريلانكا طرد الصيادين من قراهم الساحلية لبيعها لشركات الاستثمار الفندقي، وأتاح دمار 11 سبتمبر/أيلول 2001 لجورج بوش شنّ حرب تهدف لإنتاج سوق حرة بالعراق.
يؤكد الكتاب أن السياسات الاقتصادية النيوليبرالية: الخصخصة، وتحرير التجارة، وخفض الإنفاق الاجتماعي؛ التي فرضتها مدرسة شيكاغو -ومنظّرها ميلتون فريدمان(1)- عالميًا كانت سياسات كارثية. ولأن نتائجها وخيمة وتؤدي للكساد وتفاقم الفقر، ونهب الشركات الخاصة للمال العام، فإن وسائلها كارثية تعتمد الاضطرابات السياسية والكوارث الطبيعية والذرائع القسرية لتمرير “إصلاحات” السوق الحرة المرفوضة شعبيًا. تؤرخ كلاين لهذه الكوارث، التي تتضمن برامج لمدرسة شيكاغو أطلقتها انقلابات عسكرية بأميركا الجنوبية؛ والبيع المعيب لاقتصاد الدولة في روسيا لقلّة عقب انهيار الاتحاد السوفيتي.
صدمات ثلاث
يُظهر الكتاب أن رأسمالية الكوارث (هندسة سريعة الطلقات تجريها الشركات لمجتمعات تترنح من الصدمات) لم تبدأ بكارثة 11 سبتمبر/أيلول، بل تعود أصولها إلى جامعة شيكاغو منذ 50 عامًا بقيادة ميلتون فريدمان؛ حيث تخرّج مفكرون محافظون جدد ونيوليبراليون، ولا يزال تأثيرهم عميقًا في واشنطن. اكتشفت المؤلفة علاقات جديدة مذهلة بين السياسة الاقتصادية، وحروب «الصدمة والترويع»، وتجارب سرية مولتها الاستخبارات المركزية تتعلق بالصدمات الكهربائية والحرمان الحسي بالخمسينات، وهي أبحاث ساعدت في كتابة إرشادات التعذيب المستخدمة بمعتقل خليج غوانتانامو. هنا، ترسم كلاين خطًا واضحًا يربط تعذيب السبعينات بأميركا اللاتينية بالتعذيب في أبوغريب وغوانتانامو.
تقارن نعومي كلاين السياسة الاقتصادية الرأسمالية المتطرفة بالعلاج بالصدمة الذي يستخدمه أطباء نفسيون، وعقدت المؤلفة مقابلة مع جيل كاستنر، أحد ضحايا تجارب أساليب استجواب سرية أجراها العالم إيوين كاميرون(2) لصالح الاستخبارات المركزية بالخمسينات، وكانت فكرته استخدام العلاج بالصدمات الكهربائية لكسر إرادة المرضى؛ ثم تعاد برمجتهم، لكن بعد أن كسر كاميرون مرضاه لم يستطع أبدًا إعادة بنائهم. هذه المقارنة مبالغ فيها وغير مقنعة، لكن بالنسبة لكلاين تبدو الدروس المستفادة واضحة: تصاب البلدان بصدمات الحروب والهجمات الإرهابية والانقلابات العسكرية والكوارث الطبيعية، ثم تصاب بصدمة ثانية بواسطة شركات وسياسيين يستغلون الخوف والارتباك الناجم عن الصدمة الأولى لتمرير العلاج بالصدمة الاقتصادية. أحيانًا، عندما لا تنجح الصدمتان الأوليان في القضاء على المقاومة، تُستخدَم صدمة ثالثة: الكهرباء في زنزانة السجن أو بندقية الصدمات الكهربية “تيزر” في الشوارع لمن يجرؤ على المقاومة.
تُعرّف كلاين بميلتون فريدمان (1912-2006) المنظّر الأكبر للرأسمالية المنفلتة، وتنسب له كتابة قواعد الاقتصاد العالمي المعاصر المضطرب. وكما كان كاميرون طبيب العلاج بالصدمة، تعتبر كلاين فريدمان طبيب الصدمة الآخر في معركته لكسب عقول وقلوب الاقتصاديين والنظم الاقتصادية بأميركا اللاتينية. في الخمسينات، بينما يُجري كاميرون تجاربه، كانت مدرسة شيكاغو تطور أفكارها التي ستطغى على نظريات راؤول بريبِش،(3) داعية ما يمكن تسميته اليوم: الطريق الثالث، واقتصاديين آخرين كانت لهم شعبية بأميركا اللاتينية آنذاك. تنقل كلاين تعبير الاقتصادي التشيلي أورلاندو لتلييه(4) عن “الانسجام الداخلي” بين إرهاب نظام بينوشيه وسياساته لتطبيق نظام السوق الحر، ويرى لتلييه أن ميلتون فريدمان مشترك في المسؤولية عن جرائم النظام، رافضًا حجة أنه كان يقدم مجرد مشورة “تقنية”. لقي لتلييه مصرعه عام 1976 بانفجار سيارة مفخخة زرعتها استخبارات بينوشيه بواشنطن، واعتبرته كلاين ضحية أخرى لـ “صبيان شيكاغو” الذين أرادوا فرض رأسمالية الكوارث.
الصدمات تنتج التغيير
في إحدى مقالاته الأكثر تأثيرًا، صاغ فريدمان العقار السري التكتيكي للرأسمالية المعاصرة؛ وهو ما فهمت كلاين أنه “مبدأ الصدمة”. يرى فريدمان أن “الأزمات فقط، حقيقية أو متصورة، تنتج تغيرًا حقيقيًا”؛ فعند وقوع كارثة تُعتمد الإجراءات التي يتم اتخاذها بناء على الأفكار المتاحة؛ حيث يقوم بعض الناس بتخزين سلع معلبة ومياه استعدادًا لكوارث كبرى؛ بينما يخزّن أتباع فريدمان أفكار السوق الحرة. بوقوع الأزمة، نجد فريدمان مقتنعًا بضرورة التحرك سريعًا، لفرض تغيير دائم قبل عودة المجتمع الذي اجتاحته الأزمة إلى “شدة وطأة ظروف ما بعد الكارثة”؛ وهو تنويع على نصيحة مكيافيلي بوجوب إيقاع “الأضرار كلها مرة واحدة”.
تعلم فريدمان لأول مرة كيفية استغلال الصدمة بمنتصف سبعينات القرن العشرين، عندما استشاره الديكتاتور الجنرال أوغستو بينوشيه في السياسات والبرامج الاقتصادية. كان التشيليون حينها مصدومين بعد انقلاب بينوشيه العنيف، كما كانت البلاد أيضًا مصدومة بالتضخم الهائل. أشار فريدمان على بينوشيه بفرض تحول اقتصادي سريع الطلقات، يتضمن: خفض الضرائب، وتحرير التجارة، وخصخصة الخدمات، وخفض الإنفاق الاجتماعي، وتحرير الاقتصاد من الرقابة. كان هذا هو التحول الرأسمالي الأكثر تطرفًا من أية محاولة سابقة، وأصبح يُعرف بثورة “مدرسة شيكاغو”؛ حيث تتلمذ العديد من اقتصاديي بينوشيه على فريدمان، وصاغ هذا الأخير عبارة لهذا التكتيك المؤلم: “العلاج بالصدمة”. وهكذا دواليك، كلما فرضت الحكومات برامج كاسحة لتحرير السوق، كانت الطريقة المختارة هي المعالجة بالصدمة الكاملة مرة واحدة. كذلك، كان التعذيب والقتل -بيد نظام بينوشيه في تشيلي وأثناء حكم الديكتاتورية العسكرية بالأرجنتين- وسيلة لكسر المقاومة للسوق الحرة.
بدأت كلاين تدرس اعتماد السوق الحرة على قوة الصدمة منذ بدء احتلال العراق، وكانت ترسل التقارير من بغداد عن محاولات واشنطن الفاشلة تطبيق استراتيجية «الصدمة والترويع» مع العلاج بالصدمة: خصخصة شاملة، وتحرير كامل للتجارة، وضريبة ثابتة بنسبة 15%، وتقليص كبير لحجم الحكومة، وتدمير البنى التحتية، واللامبالاة حيال نهب ثقافة البلاد وتاريخها. وفي خضم الحرب الأهلية بالعراق، كُشِف مشروع قانون يتيح لشركتي شل وبريتيش بتروليوم السيطرة على معظم احتياطيات البلاد الهائلة من النفط.
سافرت كلاين بعدئذ إلى سريلانكا، بعد أشهر من كارثة تسونامي، لتشهد نسخة أخرى لنفس المناورة: تواطأ مستثمرون أجانب ومقرضون دوليون لاستخدام جو الهلع لتسليم الساحل الجميل لرجال أعمال سارعوا ببناء منتجعات كبيرة، ومُنع الصيادون من العودة لقراهم. وبعد أن ضرب إعصار كاترينا مدينة نيو أورليانز، اكتشف سكانها الذين شتتهم الإعصار أن مساكنهم ومستشفياتهم ومدارسهم العامة لن يُعاد فتحها. كان واضحًا أن هذه أفضل طريقة لتحقيق أهداف الشركات: استخدام لحظات صدمة المجتمعات لبدء هندسة اجتماعية واقتصادية راديكالية. كذلك، أتاحت اضطرابات بولندا وروسيا (بعد انهيار الشيوعية) وبوليفيا (بعد تضخم الثمانينات) للحكومات دس «العلاج بالصدمة» رغم مقاومة الجماهير.
صفحات بيضاء
لدى تغطيتها لإعصار كاترينا الذي ضرب ولاية لويزيانا في 2005، زارت كلاين ملجأ كبيرًا تابعًا للصليب الأحمر بباتون روج، واستمعت هناك للناس الغاضبين المنهكين، يراقبهم جنود الحرس الوطني العصبيون العائدون لتوهم من العراق. كانت الأخبار المتداولة في الملجأ يومها أن العضو الجمهوري بالكونغرس ريتشارد بيكر قال لبعض جماعات الضغط: “أخيرًا، تخلصنا من مساكن نيو أورليانز الشعبية. لم يكن بإمكاننا فعلها، لكن الله فعلها”. كان جوزيف كانيزارو(5) أحد أغنى مستثمري العقارات بنيو أورليانز صرّح بمعنى مشابه: “أعتقد أن لدينا صفحة بيضاء يمكننا البدء عليها من جديد. مع الصفحة البيضاء تأتي فرص كبيرة للغاية”. عجّت المدينة بمجموعات ضغط لصالح شركات تغتنم هذه الفرص: ضرائب أقل، رقابة أقل، عمالة أرخص، مدينة أصغر وأكثر أمنًا؛ وهذا يعني إزالة المساكن الشعبية. مع هذه “البدايات الجديدة” و”الصفحات البيضاء”، كاد يُنسى المزيج السام من ركام وكيماويات ورفات بشرية لا تزال على بُعد بضعة أميال من الطريق السريع.
في تناقض حاد مع البطء الشديد في إصلاح السدود وإعادة الكهرباء، تم المزاد العلني لنظام المدارس بنيو أورليانز بدقة وسرعة تشبه إجراءات عسكرية. بعد 19 شهرًا، كان معظم سكان المدينة الفقراء لا يزالون خارجها، بينما حلت مدارس مستأجرة يديرها القطاع الخاص محل مدارس نيو أورليانز العامة.
كان فريدمان أحد الذين رأوا فرصًا في طوفان نيو أورليانز، ورغم كونه مريضًا في الثالثة والتسعين، وجد عافية لكتابة افتتاحية بوول ستريت بعد ثلاثة أشهر من انهيار السدود، قال فيها: “أصبحت معظم مدارس نيو أورليانز ركامًا وكذلك منازل تلامذتها. تفرق أولئك الأطفال الآن بأنحاء البلاد، هذه مأساة وهي فرصة أيضًا”. كانت فكرته أنه بدلاً من إنفاق أموال إعادة الإعمار لإعادة بناء وتحسين نظام المدارس العامة، ينبغي أن توفر الحكومة للأسر كوبونات (مالية) لتغطية تعليم أبنائها بمدارس خاصة. الغارات على المجال العام عقب الكوارث واعتبارها فرصًا مثيرة للسوق هي “رأسمالية الكوارث”.
مجمع رأسمالية الكوارث
عندما بدأت كلاين دراستها لالتقاء الأرباح الفاحشة بالكوارث الضخمة، ظنت أنها تشهد تغييرًا جوهريًا في اطراد الاندفاع لـ”تحرير” أسواق العالم، ولانتمائها لحركة عالمية انطلقت بسياتل ضد تغول الشركات في عام 1999، ولأنها من مناهضي العولمة، اعتادت رؤية السياسات الملائمة للأعمال تُفرض قسرًا بمؤتمرات منظمة التجارة العالمية، وشروطًا لقروض صندوق النقد الدولي. تقدم كلاين وصفًا دقيقًا للدسائس السياسية اللازمة لفرض سياسات اقتصادية بغيضة على البلاد المقاومة، والخسائر البشرية الناجمة عنها. اللافت أن نتذكر كيف أن كثيرين ممن شاركوا في غزو العراق، شاركوا سابقًا في حلقات مخزية أخرى من تاريخ السياسة الخارجية الأميركية. اكتشفت كلاين أن فكرة استغلال الأزمات والكوارث كانت طريقة عمل حركة فريدمان منذ البداية -هذا الشكل الأصولي للرأسمالية يحتاج دائمًا كوارث ليتقدم.
عندما تُرى من عدسة مبدأ الصدمة، تبدو العقود الأربعة الماضية مختلفة جدًا؛ بعض انتهاكات حقوق الإنسان المخزية ارتكبتها أنظمة معادية للديموقراطية لإرهاب الجمهور أو تُسَخّر بفعالية تمهيدًا لإدخال “إصلاحات” السوق الحرة. في عام 1989، أطلقت صدمة مذبحة ميدان تيانانمين ببكين واعتقال الآلاف يد الحزب الشيوعي الصيني في تحويل جزء كبير من البلاد لمنطقة تصدير شاسعة يشغلها عمال مرعوبون لا يطالبون بحقوقهم. كذلك حرب الفوكلاند عام 1982 خدمت غرضًا مماثلاً لمارغريت تاتشر؛ فالاضطراب الناجم عن الحرب أتاح لها سحق عمال المناجم المضربين وإطلاق أول موجة خصخصة في ديموقراطية غربية.
أي لتطبيق العلاج بالصدمة الاقتصادية بحرية، يتطلب الأمر صدمة جمعية إضافية. يمكن فرض نموذج فريدمان الاقتصادي جزئيًا في ظل نظام ديموقراطي -أميركا في عهد ريغان أفضل مثال- لكن ليتم تطبيق الرؤية بشكلها الكامل، يتطلب ذلك ظروفًا تسلطية.
لم توجد هذه الظروف بالولايات المتحدة سابقًا، ولكن الأيديولوجية التي كانت تُفرّخ في الجامعات الأميركية وتخترق مؤسسات واشنطن وجدت أخيرًا فرصة الظهور في 11 سبتمبر/أيلول. استغلت إدارة بوش الحافلة بتلاميذ فريدمان -كصديقه المقرب دونالد رامسفيلد- الخوف الناجم عن الأحداث لإطلاق “الحرب على الإرهاب”. ولضمان أن تكون مشروعًا هادفًا للربح، أي صناعة جديدة مزدهرة تبث الحياة في الاقتصاد الأميركي المتعثر؛ يمكن فهمها بشكل أفضل كـ”مجمع رأسمالية الكوارث”. إنها حرب كونية تخوضها -على كل المستويات- شركات خاصة تتقاضى المال العام مقابل انخراطها، مع تفويض لا نهائي، في حماية الأرض الأميركية بينما يُستأصَل “الشر” بالخارج.
في سنوات قليلة، وسع المُجَمّع بالفعل مجال سوقه من مكافحة الإرهاب، لحفظ السلام العالمي، للعمل الشُرطي المحلي، للاستجابة للكوارث الطبيعية. الهدف النهائي للشركات بمركز المجمع تحقيق نموذج للحكومة الهادفة للربح، يتقدم سريعًا بظروف استثنائية إلى الأداء الاعتيادي لوظائف الدولة: خصخصة الحكومة، فعليًا.
يعادل مجمع رأسمالية الكوارث ازدهار “الأسواق الناشئة” وتكنولوجيا المعلومات بالتسعينات. تسيطر الشركات الأميركية على المجمع، لكنه عالمي (قدمت خبرات شركات بريطانية في الكاميرات الأمنية وشركات إسرائيلية في الأسوار عالية التقنية). مقترنًا بارتفاع أرباح صناعة التأمين وأرباح صناعة النفط الفائقة، ربما أنقذ اقتصاد الكوارث السوق العالمية من ركود واجهته عقب 11 سبتمبر/أيلول.
تفكيك التسويات والضوابط
بالكاد يذكر وابل الكلمات المكتوبة -في تأبين فريدمان- دور الصدمات في دفع رؤيته الكونية، بل كان رحيله في 2006، مناسبة لسرد القصة الرسمية لعلامته التجارية من الرأسمالية المتطرفة وكيف أصبحت عقيدة ثابتة للحكومات بأنحاء العالم تقريبًا. إنه تاريخ حكاية متخيلة، تم تنظيفها من عنف وثيق متضافر مع هذه الحملة.
تعتقد كلاين أن الوقت حان ليتغير هذا؛ فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتي، كانت هناك محاسبة جادة لجرائم ارتُكبت باسم الشيوعية، لكن ماذا عن جرائم الحملة الأشبه بالمقدسة لتحرير أسواق العالم؟
لا تدعي كلاين أن جميع اقتصادات السوق تتطلب عنفًا واسعًا؛ فمن الوارد أن يوجد اقتصاد السوق الذي لا يتطلب هذه الوحشية أو النقاء الأيديولوجي. يمكن لسوق حرة لمنتجات المستهلك التعايش مع رعاية صحية مجانية ومدارس عامة وشريحة اقتصادية كبيرة -كشركة النفط الوطنية- بيد الدولة. يمكن أيضًا إلزام الشركات بدفع أجور لائقة واحترام حق العمال في تشكيل النقابات، وعلى الحكومات جمع الضرائب وإعادة توزيع الثروة لخفض فروق الدخل الحادة المميزة للدول الخاضعة للشركات.
اقترح جون مينارد كينز(6) هذا النوع من الاقتصاد المختلط الخاضع للضوابط بعد الكساد العظيم. ثورة فريدمان المضادة أُطلقت لتفكيك نظام التسويات والضوابط والتوازنات في بلاد تلو أخرى. برؤيتها من هذا المنظور، نجد لدى رأسمالية مدرسة شيكاغو شيئًا مشتركًا مع الأيديولوجيات الأصولية: رغبة في نقاء متعذر.
وكما أعلن بول بوت(7) أن كمبوديا تحت حكم الخمير الحمر كانت في السنة “صفر”، تحب الرأسمالية المتطرفة البدايات الجديدة تمامًا، ويكون افتتاحها غالبًا بعد أزمات وصدمات. هذه الرغبة في قوة الخلق شبه الإلهية هي سبب هوس مؤدلجي السوق الحرة بالأزمات والكوارث؛ فالواقع غير الكارثي لا يرحب بطموحاتهم. لأربعة عقود، كان محرك ثورة فريدمان المضادة الانجذاب لحرية تتاح بأوقات التغيير الكارثي فقط -عندما تتنحى عادات الناس العنيدة ومطالبهم الملحة عن الطريق-؛ وهي لحظات تتعذر فيها الديموقراطية عمليًا. المعتنقون لمبدأ الصدمة مقتنعون بأن لا شيء سوى كارثة كبيرة يمكن أن ينتج القماشة البيضاء الشاسعة التي يشتهونها. في هذه اللحظات الطيعة، عندما نكون مشتتين نفسيًا ومقتلعين من ديارنا، يبدأ فنانو الانهيار عملهم لإعادة تشكيل العالم.
نعومي كلاين ليست باحثة اقتصادية، ومن ثم لا يمكن الحكم عليها من هذا المنطلق. هناك أجزاء في الكتاب بالغت في تبسيط الأمور، لكن فريدمان ودعاة آخرين للعلاج بالصدمة هم أيضًا مدانون بالتبسيط البالغ فقد بنوا اعتقادهم بكمال نظم السوق على نماذج مثالية تفترض كمال المعلومات والمنافسة ومخاطر الأسواق. يمكن المحاججة ضد هذه السياسات بأقوى من حجج كلاين؛ فهذه السياسات لم تستند إلى أسس تجريبية ونظرية صلبة، وحتى لدى الدفع بكثير من هذه السياسات، كان الاقتصاديون الأكاديميون يشرحون محدودية الأسواق، خاصة عند نقص المعلومات، وهي كذلك دائمًا.
تساؤلات معرفية
هناك فصول أقل إثارة في الكتاب لكنها ربما أكثر إقناعًا؛ في جنوب إفريقيا، أجرت نعومي مقابلات مع ناشطين وخبراء حول السنوات التالية لاستلام حزب المؤتمر الوطني الإفريقي السلطة بجنوب إفريقيا؛ حيث فشل في إنفاذ سياسات إعادة التوزيع الموعودة بـ”ميثاق الحرية” (بيان مبادئ الدولة الأساسية)، لتجد أنه ليست هناك إجابة واحدة: انشغل الحزب بمنع حرب أهلية في السنوات الأولى بعد نهاية نظام الفصل العنصري، فلم يفهم جيدًا مدى أهمية السياسة الاقتصادية. كان خائفًا من تنفير المستثمرين الأجانب، فأخذ بنصيحة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي: خصخصة، وخفض النفقات، ومرونة العمالة، وهكذا. لكن هذا لم يمنع اثنتين من كبرى الشركات بجنوب إفريقيا، أنجلوأميريكان وساوث أفريكان بروَريز، من نقل مركزيهما إلى لندن. وجاء متوسط معدل النمو 5% مخيبًا للآمال (أقل كثيرًا من بلدان شرق آسيا، التي اتبعت طريقًا مختلفًا)؛ كانت البطالة بين الأغلبية السوداء 48%؛ وتضاعف الذين يعيشون بأقل من دولار واحد يوميًا إلى أربعة ملايين بعد أن كانوا مليونين في 1994، عند استلام حزب المؤتمر الوطني للسلطة.
قد تُرى هذه النتائج مؤشرًا على مؤامرة ضخمة، وهو استنتاج تنكره كلاين صراحة؛ فالمؤامرة لا تدمر العالم، بل التحولات الخاطئة والسياسات الفاشلة، مع مظالم صغيرة وكبيرة. لكن هذه القرارات تسترشد بعقليات أكبر، ولم يحدث أبدًا أن قدم أصوليو السوق تقديرًا مناسبًا للمؤسسات اللازمة لجعل الاقتصاد يعمل جيدًا، ناهيك عن النسيج الاجتماعي الأوسع الذي تتطلبه الحضارات كي تزدهر.
تحليلات كلاين الاقتصادية والسياسية ليست شديدة الدقة دائمًا، فتخلط أحيانًا آثام الديكتاتوريات اليمينية ببرامجها الاقتصادية، وترسم صورة بالغة التبسيط لغزو العراق باعتباره صراعًا لفرض الليبرالية الجديدة هناك. لكن نقدًا كثيرًا توجهه كلاين في كتابها يصيب الهدف؛ حيث توضح كيف يرحب أنصار حرية الأسواق بسقوط اقتصادات الشعوب الأخرى ويشجعون ذلك؛ وتكون النتيجة إدانة شعبية قوية للأرثوذكسية الاقتصادية.
ترى كلاين أن لا حاجة بالأسواق لأن تكون أصولية متطرفة؛ في إشارة لإمكانية تعايش المطالب الاجتماعية واقتصاد السوق الحرة الأقل شراسة. وهو طرح يبدو معقولاً لأول وهلة؛ فهناك تجارب ومذاهب اقتصادية غربية تبدي عقلانية في إدارة الاجتماع البشري، أو تتبنى اقتصادًا تراحميًا، أو تطرح رؤى اشتراكية لا صراعية؛ لكن لماذا لا تجد هذه الاتجاهات طريقها للحكم في سياق المسار التاريخي للتجربة الغربية؟ لماذا لم تلتفت المؤلفة للعلاقة الجدلية بين وحشية اقتصاد السوق الحر وبين الرؤية الكونية الغربية بمختلف روافدها وتعبيراتها (الحداثية، النيتشوية، الداروينية، العنصرية، الفاشية، الإمبريالية)؟ وإذا كان نشوء الرأسمالية أهم نتائج مشروع النهب الإمبريالي، فلماذا لا تكون رأسمالية الكوارث هي التطور الطبيعي للرأسمالية الأولى والرؤية الكونية الكامنة وراءها والأكثر تمثيلاً لها؟
بعد تجربة مدرسة شيكاغو الكارثية، التي نظّرت لأسوأ الممارسات والسياسات الاقتصادية، هل ما زالت صفة “العلم” تنطبق على الاقتصاد كمجال معرفي؟!
______________________________
د. مازن النجار – باحث في الاقتصاد السياسي
معلومات الكتاب
العنوان: مبدأ الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث – The Shock Doctrine. The rise of Disaster Capitalism
المؤلف: نعومي كلاين – Naomi Klein
عرض: د. مازن النجار – باحث في الاقتصاد السياسي
الناشر: نيويورك، متروبوليتان بوكس، 2007 – New York, Metropolitan Books, 2007
عدد الصفحات: 500
هوامش
1- ميلتون فريدمان (1912-2006): مفكر اقتصادي أميركي عُرف بأعماله في الاقتصاد الكلي والجزئي والتاريخ الاقتصادي والإحصاء. عُرف عنه تأييده لاقتصاد السوق الحر والخصخصة والعلاج بالصدمة وتقليص دور الحكومة في الاقتصاد. فاز بجائزة نوبل في الاقتصاد عام 1976، ومؤسس مدرسة شيكاغو لاقتصاد السوق الحر النيوليبرالي، المسيطرة حاليًا على مواقع كثيرة بالنظام الاقتصادي العالمي، وتتبنى برامج اقتصادية شديدة الوطأة على الفقراء.
2- إيوين كاميرون (1901-1967): عالم نفس أميركي كندي عُرف بتعاونه مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية التي موّلت أبحاثه حول استخدام الصدمة الكهربائية على أدمغة المرضى النفسيين بهدف تحويل أدمغتهم إلى صفحة بيضاء لإعادة كتابة المعلومات الملائمة عليها.
3- راؤول بريبش (1901-1986): مفكر اقتصادي أرجنتيني وُلد لأبوين ألمانيين، أحد دعاة الطريق الثالث خارج المسارين الرأسمالي والاشتراكي السوفيتي، وساهم في صياغة أسس نظرية التبعية، وعُرف بمساهماته القيمة في الاقتصاد البنيوي.
4- أورلاندو لتلييه (1932-1976): اقتصادي وسياسي اشتراكي ودبلوماسي تشيلي عُرف بمعارضته لنظام الجنرال أوغستو بينوشيه، ولسياسات العلاج بالصدمة الاقتصادية التي اقترحها ميلتون فريدمان واعتبرها لتلييه مكونًا أساسيًا لانقلاب بينوشيه. قُتل لتلييه بواشنطن بمتفجرة زرعتها بسيارته استخبارات بينوشيه.
5- جوزيف كانيزارو، ملياردير أميركي، أسس وترأس عشرات من شركات الاستثمار العقاري. اشتُهر لدى سعيه للاستحواذ على العقارات العامة كالمساكن الشعبية والمدارس في نيو أورليانز، لويزيانا، عقب دمارها في إعصار كاترينا.
6- جون مينارد كينز (1883-1946): اقتصادي بريطاني وصاحب مدرسة في الفكر الاقتصادي، أثّرت أفكاره بشكل أساسي في نظرية وممارسة الاقتصاديات الكلية ووجهت وعقلنت السياسات الاقتصادية لحكومات كثيرة، ويمثل فكره أنضج ما وصلت إليه الرأسمالية. وكان كتابه: “النظرية العامة للتوظيف والفائدة والمال” أحد أهم مائة كتاب في القرن العشرين.
7- بول بوت (1925-1998): مؤسس ورئيس نظام حكم الخمير الحمر في كمبوديا بعد نهاية الاحتلال الأميركي لها (1975-1979). تبنى حكم الخمير الحمر أفكارًا اشتراكية راديكالية بالغة العنف، وأجرى تغييرات اجتماعية اقتصادية تصل حد الإبادة، راح ضحيتها أكثر من مليوني كمبودي (ربع السكان).
المصدر/ الجزيرة للدراسات