ما لن يقوله الذكاء الاصطناعي عن المسرح المصري يوم الخامس من سبتمبر 2025م

ما لن يقوله الذكاء الاصطناعي عن المسرح المصري يوم الخامس من سبتمبر 2025م

خاص: بقلم- محسن الميرغني:

يملأ المشهد المسرحي المصري اليوم من الفعاليات والفاعلين المتنَّفذين الذين يروجون لمشاريع مسرحية تبدو فنية، يزعمون أنها موجهة للناس جميعًا، وفي هذا الزعم كثير من مخالفة الصواب وربما الخداع.

فالواقع المسرحي رغم ما فيه من حراك ظاهر ونشاط يتبدى في كثرة المهرجانات والعروض التي تظهر فوق خشبات المسارح الرسمية وغير الرسمية، من أجل استنهاض تلك اللحظة المتوهجة التي عاشتها مسارحنا في الماضي.

تلك اللحظة التي قام بها رواد مخلصون عملوا في الظل والعلن، من أجل ترقية فن المسرح المصري في ظروف أقسى اجتماعيًا وأقل تقنيًا من ناحية الإمكانات والتقنيات الفنية، لكنها كانت لحظة تعتمد في جوهرها على الصدق والحرية النسبية للفنان – رغم ما كانت تُعانيه الذوات المسرحية المفردة من قيود وملاحقات أمنية – لكن تلك اللحظة المفقودة، كانت تحكمها مباديء صّرنا نفتقدها اليوم، من حضور الوعي وترسَّخ اليقين بأهمية ودور المسرح وقيمة رجاله وصدارة فنانيه وضرورة نقَّاده في المجتمع.

اليوم يتحكم في الواقع المسرحي شلل من المنتَّفعين، وينتشر في ربوعه المتنطعين على هذا الفن الجليل، منهم من لا يستحقون أن يقفوا في ضوء المساحات التي يتم زرعهم فيها، بفعل الصدفة أو التخطيط المسبَّق والتجهيز غير المُعلن، لإحكام السيّطرة على المجال المسرحي العام وتقييّده، من خلال وجود أشخاص ذوي ثقة لا كفاءة لديهم، يتم غرسهم عنوة في مواقع قيادية تتحكم في اتخاذ القرار وترسم إجراءات تنفيذه.

هؤلاء الأشخاص يُسّمح لهم وفقًا لما آلوا إليه من مناصب بالسيّطرة على ميزانيات إقطاعات ثقافية رسمية وغير رسمية صغيرة وكبيرة ربما لسنوات طوال، ورغم أن اختيارهم تم ويتم دون معايير مُعلنة أو شروط منَّصفة، بل إن بعضهم يظهر للمشهد المسرحي كقيادة فنية أو مسرحية في ظل غياب تام لأي شفافية وظيفية أو إدارية تبَّرر ظهوره المفاجيء، ويُمكنني أن أقّر بكل ثقة يجهل كثير من هؤلاء أصول الإدارة أو العمل العام، ومع ذلك يتم وضعه على رأس فرقة مسرحية ربما تتبّنى مذهبًا أو فكرًا يجهله أو يتقلد منصب مدير مركز فني له خطة وأهداف منهجية واضحة، لا يعلم هو عنها شيئًا، يحدث هذا لا لشيء إلا لتقييّد الواقع المسرحي والتحكم في معطياته ومدخلاته الفنية، ومنع أي فرصة انطلاق أو تحرر فني من القيود القائمة في الواقع السياسي والاجتماعي الراهن.

لقد تعلمّنا في قاعة الدرس وفي كتّب الأساتذة المخَّلصين لفننا المسرحي أنه لا مسرح بلا حرية، ولا مسرح دون صدق، وأن الحرية والصدق هما الدعامتان الأساسيتان لأي مسرح حُر صحيح ناجح.

فأين نحن في أيامنا هذه من تلك المقولات والشعارات التي تربيّنا عليها في قاعات دروسنا وبين جنبات حياتنا العملية ؟، وأين نحن من صدق مسرحنا وحريته ؟

هل يُصدق الجمهور والنقّاد حقًا ما يُقّدم على خشبات المسارح من أعمال بعضها لا يرقى لأن يوصف بأنها مسرحيات رثة هزيلة فنيًا، وبعضها أعمال لا فنية أصلًا، تكون مصنوعة على عُجالة بهدف ملء الفراغ وسدّ الخانة لتمكيّن أنصاف الموهوبين وأدعياء الرطانة المسرحية من الولوج إلى ساحة الإبداع المسرحي، لكي يحتلوا خشبات المسارح بأعمال لا فن فيها يشبَّع الروح، ولا فكر بها يوقظ العقل من غفلته..

هل يكفينا في الموسم المسرحي نجاح عمل فني واحد يقوده نجم ثقيل الحركة كي نُعلن أننا رائعون وعظماء وأباطرة في تقديّس فن المسرح ؟..

فأين جهود بقية صَّناع العمل من مبدَّعين وفنانين بذلوا الغالي والثمين من أجل الوقوف على خشبة المسرح، وربما ذابت ذواتهم وجهودهم ومصاريفهم اليومية في طوفان سطوع النجم الواحد الأوحد على خشبة المسرح بحركاته المتشنجة البطيئة ؟ دون أن يجدوا من ينظر إليهم أو يحتفي بهم ؟ فهل هذه محاولة لاستنهاض المسرح أم أنها ردة بعث يقوم بها مكبّلون ؟!

كيف يمكن لمن يقدم خدمة ثقافية وفنية عامة للناس تمولها المؤسسات الرسمية أن يحجب الناس عن الوصول إلى هذا الفن ويمنعهم من الحصول على هذه الخدمة ؟

كيف يمنع الناس من الدخول إلى الفعاليات الفنية العامة مثل المهرجانات المتتالية التي تحُجب عروضها وافتتاحاتها عن الناس، الناس العاديين، لتُخصص مقاعدها وقاعاتها وصالاتها، للمسؤولين والمدعوين من الرجال الرسميين أو ذوي النفوذ وأهل الولاء من المتنطعين على الفن محاسيّب القيادات دون الناس.. الناس.. كل الناس في الشوارع والمقاهي والبيوت والمحلات..

أين هؤلاء الناس من فعاليات عامة تتم في قاعات مغُلقة ومعّلبة ومحجوبة عن الجمهور ؟

وغرف مكيفة لا يصل إليها إلا المقربون أو المدعوون لتبادل المنفعة وتراسّل المصالح، فاليوم تدعوني لمهرجانك وغدًا أدعوك أنا لمهرجاني، وأُرسل لك تذكرة الطائرة وإقامة الفندق، والدائرة تدور بعيدًا عن الناس.

أؤكد لكم إن سمة البُعد عن الناس صارت هي الغالبة في كافة الفعاليات المسرحية المصرية، التي يزعم أصحابها ومديروها وقياداتها، أنهم يقدمون خدمة ثقافية أو فنية مجانية أو مدفوعة للناس، والحقيقة أنهم لا يخدمون سوى أنفسهم ومشاريعهم التي ابتكروها أو يبتكرونها لتلميع صورهم، وترقية أنفسهم بهدف الدفع بها إلى المحافل والاحتفالات المحلية والعالمية، وليظهروا في صورة الأوفياء المخلصين للمسرح، بينما هم يقتاتون جثته وأشلاءه كما تنهش الضباع بقايا الأسود.

أخيرًا وليس آخرًا أوجه كلمتي للشباب والشابات من هواة ودارسي ومحُبي المسرح في مصر وغيرها من بلدان واقعنا العربي الأسيّر المهموم، نحتفل اليوم الخامس من أيلول/سبتمبر بذكرى رجال ونساء مصريين مسرحيين شرفاء، سُلبت منهم أرواحهم غيلة، وبعض منهم قدموها فداءًا لما يؤمنون به من نبل وصدق وحرية، فرحلوا عنا وهم يعملون ما حسبوا أنه الخير والنماء والعطاء لهذا البلد الكبير مصر.

تمامًا كما يقدم رجال ونساء وأطفال الآن – منذ ما يقرب من عامين – أرواحهم فداءًا لأرضهم، وشرفهم  وحياواتهم ومستقبلهم، وهم يزودون عنا بأرواحهم لحفظ ما تبقى من هواء الكرامة وماء العزة في أيامنا القاحلة التي نعيشها وأيامنا القادمة.

فأرجوا أن تتذّكروا جميع هؤلاء الفرسان الشهداء وأنتم تحلمون بمستقبل أفضل يصنعه المسرح الذي تقدمونه، وأن تضعوا ذكراهم موضع الاحتفاء والتبجيل طوال أعماركم الآتية، ليس من سبيل التكرار أو التقليد الأعمى لما ينتشر “كترند” في مثل تلك المناسبات، أو من تداول مهووس بصور الشهداء وأيقونات الراحلين، التي يستغلها البعض لإقامة فعاليات واحتفاليات زائفة مصنوعة، لكن تذّكروهم على سبيل اليقين والإيمان..

أن العمل الجاد الصادق والفناء حد الموت فيما يقتنع به المرء أنه حق، يمكن أن يضع روحه وجسده وذكراه وعمله موضع الخلود بين الناس، أو عند سدَّرة المنتهى إن كتبت له النجاة في النهاية.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة