خاص : بقلم – د. محمد دوير :
عرضنا في المقالة السابقة لعدة موضوعات أهمها الحداثة وعناصرها ومقولاتها، وتوصلنا إلى دور العقل كمحور لمفهوم الحداثة.
تناولنا أيضًا المفاهيم ذات الصلة مثل الدين واللغة والفردانية.
ثم تناولنا أهم محطات تطورات الاقتصاد كأحد أهم الموجهات للفعل البشري.
وتوقفنا على أعتاب التغيير الذي حدث في العالم في منتصف القرن العشرين..
وفي هذا المقال نكمل المسيرة.. نحو محطة الوصول.. محطة ما بعد الحداثة.
واللحظات التي سبقت ما بعد الحداثة كانت كلها تُنذر بأن ثمة تحولاً أو انقلابًا سوف يحدث، فالسحب الممطرة انتشرت في سماء الحداثة، والقلق الإنساني رسم قوس قزح في سماء الأفكار، وبدت القارة العجوز كامرأة منزوعة الملابس تسير في الطرقات بلا هوية.. أو كما وصفها “رولان بارت”؛ بعد أحداث 68، قائلاً: هذا الرجل ذو المعرفة العميقة يبدو أنه مثل فتاة شاخت مبكرًا.. أي أنه يقصد أننا لم نعد بحاجة إلى معرفة عميقة.
ولكن تلك الفتاة التي شاخت مبكرًا، كانت في قمة ألقها الجمالي وفتنتها في الاقتصاد العالمي، الذي وضع في إطار شبكي مترابط عن طريق اتساع حركة التجارة العالمية وتدويل رأس المال، وأصبحت نظرية المستهلك عالمية الطابع أيضًا، والاستهلاك هو: ثقافة، نمط، ولا أقصد بالاستهلاك الأطعمة فقط، بل والسينما والأغاني والمشروبات والأزياء.
وكما الاقتصاد، سارت السياسة، فمنذ الثمانينيات بدأت السياسة الأميركية تُشغل الكثيرين من المثقفين والمهتمين بشكل عام، هنا تراجع تصورنا عن الاغتراب الثقافي، وصرنا جزءًا من الثقافة العالمية.. والأميركية بصفة خاصة..
مع الانفتاح الاقتصادي والسياسي في البلدان العربية، ومع دخولنا مرحلة النفط، اتسعت رقعة الاهتمام بالشؤون الغربية، باعتبارها مؤثرة علينا بدرجة كبيرة.. خطاب الإسلام السياسي وقتئذ ساعد على دعم تلك الروح الغربية لدينا؛ حيث شعر البعض أن الإلتزام بالتراث وتصوراته المطروحة علينا يحمل جوانب دموية محتملة، وخاصة لدى الأقليات، فإزداد التواصل مع الغرب.. إضافة إلى مساحات الجدب السياسي التي تُشبه صحراء العرب.. كل هذه العوامل ساعدت على بروز ما يُسمى بـ”العولمة الثقافية”؛ التي تحولت بعد فترة قليلة إلى “إمبريالية ثقافية” مع ما بعد الحداثة.
ويبقى السؤال: كيف انتقلنا من “عولمة الثقافة” إلى “إمبريالية الثقافة”: بمعنى آخر من الحداثة إلى ما بعدها ؟
01 – في الحداثة.. كانت الثقافة الغربية تنحو باتجاه العولمة، نظريات: “ديكارت وكانط وهيغل وماركس” – اكتشافات: “غاليليو ونيوتن وأينشتين ونيلز بور وهايزنبرغ” – منهجيات: “بيكون وهيوم ورشنباخ وبوبر”.. إلخ.. كانت موجهة للبشر، تخاطب فيهم العقلانية؛ عقلانية السلوك البشري، وعقلانية الطبيعة وانتظامها.
02 – كانت الحداثة.. تُقدر قيمة الإنتاج، وتربط بين العلم وتطبيقاته، فأنشئت “الجمعية الملكية الإنكليزية” و”أكاديمية العلوم الملكية الفرنسية”.. كما لعبت نظرية العلم الحديث دورًا في التطور الاجتماعي للبشر الذين خرجوا من تحت عباءة الكنيسة ومن قلب الأرض الزراعية إلى مدن ظلت تتسع وتنمو وتتعقد علاقاتها كتعبير عن حداثة قادرة على تطوير حياة البشر، مما أسهم في ظهور علم الاجتماع وتطور موضوعات الفلسفة ومؤخرًا ظهور علم النفس، وظهرت نظريات أخرى تدعم ثقة الإنسان في نفسه مثل نظرية التطور العضوي عند؛ “لا مارك”، ومنطق “هيغل” الديالكتيكي، ونظرية التطور عند “داروين”، والتحليل النفسي عند “فرويد”، والتفسير المادي للتاريخ عند “ماركس”.. ولكن الأهم من وجهة نظري هي دعوة “كوندرسيه” إلى تأسيس “جمهورية عالمية للعلوم” على غرار “مجمع أباء الكنيسة”، هنا.. وهنا تحديدًا بدت الحداثة منتصرة على صعيد الفكر والعمل، وبدا العقل الغربي ناجحًا في إدارة شؤون الكون، على جميع الأصعدة.. وباستثناء التوجهات الاستعمارية يمكننا القول إن الحداثة الغربية أعادت إنتاج الإنسان بعد قرون طويلة من الغياب.
03 – دعمت الحداثة أيضًا فكرة “عولمة الثقافة”، ولهذه العولمة عيوبها القاتلة التي تحدثنا عنها في المقالة السابقة، ولكنها أيضًا اتسمت بسمتين رئيسيتين، هما: نزعة اليقين، وحالة الشك.. كلاهما شكل وجه عملة للآخر؛ (سنرى هنا أنه تم التخلي عن اليقين والإبقاء على الشك.. بمعنى أن تصورات ما بعد الحداثة هي تطوير لفكرة الحداثة وليس انقلابًا عليها بالمعني الجذري).
04 – كانت نزعة اليقين، تدعم الثقة في البشر من حيث قدرتهم على السيطرة على حياتهم وتطويرها دومًا، والتي جاءت عن طريق التأكد من اليقين الذي اكسبه لنا العالم، ومن الحقيقة التي أكدت عليها الفلسفة، ومن العلاقات بين الأشياء والسببية، التي أكدت عليها العلوم الاجتماعية والطبيعية على حدٍ سواء.. هنا بدا الاستقرار واضحًا، والتعبيرات موحية كثيرًا بكل ما تقصد..
05 – النزعة الثانية: نزعة الشك التي كانت موجودة أيضًا رغم هذه التصورات اليقينية.. الشك في صدق علاقة العمل برأس المال؛ (ماركس وبرودن).. علاقة الفرد بالدولة؛ (فلاسفة القد الاجتماعي).. علاقة اللغة بالإنسان؛ (الهيرمونيطيقا)، الدال بالمدلول؛ (دي سوسير)، الشك في منهج العلم؛ (هيوم وبوبر)، الشك في الأدلة الوجودية؛ (هيدغر – سبينوزا). لذلك لم ينقطع الحوار بين الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع والمتخصصين حول قضايا كثيرة، فرأينا تصورات “دوركايم” و”أوغست كونت”؛ في مقابل تصورات الدين التي صنفت البشر كمؤمنين وغير مؤمنين.. ورؤى “فرويد” في مواجهة رؤى “أدلر”.. وتحليلات “ماركس” في مواجهة تحليلات “آدم سميث” و”ريكاردو” و”هيغل”، وموقف “هيغل” من “كانط”، وموقف “شوبنهاور” من “هيغل”؛ ثم موقف “نيتشه” من الجميع.. هنا نزعة الشك اتخذت صورة نقدية، وحوارية، وباستثناء “نيتشه”، فإنها كانت رؤى لا تقصد أبدًا فكرة التجاوز عبر النفي التام..
ظلت الأمور تسير على هذا المنوال ووفق هاتين الثنائيتين، اليقين الممزوج بقدر من الشك.. ولكن.. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.. وتحديدًا في الفترة من: 1945 وحتى 1968، حيث كانت تلك الفترة هي معمل الأبحاث الذي خرجت منه أفكار ما بعد الحداثة.. إذ يمكن القول بأن بذورها قد تشكلت طوال القرن العشرين، فالإمبريالية الاقتصادية تشترط إمبريالية ثقافية بالضرورة. فما الذي حدث، ولماذا تلك الفترة تحديدًا ؟
أزمة الكساد الكبير – الحربين العالميتين – نهاية مرحلة الاستعمار وحدوث فجوة كبرى في العقل الغربي بين الضمير الإنساني والمصلحة الأوربية – ظهور النازية والفاشية كأسوأ صور الحداثة – تنامي قوة “الاتحاد السوفياتي” – كل هذا تبلور في لحظة انفجار وتمرد عبرت عنها أحداث 1968 في قلب “أوروبا” الثوري، في “فرنسا”..
تلك التحولات وغيرها الكثير.. أدى إلى الاتحاد حول هدف واحد، وهو تصويب فوهة البندقية نحو العقل.. هكذا أرادت تجربة الحياة أن تتخلص من هذا الدماغ، ذلك العقل، “اللوغوس”، بوصفه المسؤول عن تلك الحروب التي دمرت البشرية، (اللوغوس وليس منطق الملكية الخاصة، وغالبًا عندما يتم تشخيص المرض بصورة خاطئة ما يؤدي إلى كوراث عنيفة للمريض.. لذلك قالوا بأن العقل هو سبب الأزمة الحضارية الغربية)، والمقصود من العقل: تلك الأفكار الثابتة: العلاقات بين الشكل والمضمون/الدال والمدلول/التحتي والفوقي.. الاستعمار والتخلف، الحروب ودوافعها الاقتصادية… الخ.. وبالتالي لابد من تحرير تلك العلاقات، تحرير مركزية العقل واستبدالها بمركزيات أخرى، مثل اللاوعي/اللاشعور/النسبية المعرفية/اللايقين/اللاصدق/وعدم الإيمان بأبدية التعريفات والمفاهيم.. ولكن السؤال.. هل نقد مركزية العقل هنا.. كانت كفرًا به ؟ لا.. وإنما كانت كفرًا بدوره الذي أدى إلى ما وصلت إليه البشرية، هنا المشكلة مع توظيف العقل وليست مع العقل نفسه..
وبهذه المناسبة علينا أن نمر سريعًا على مراحل توظيف العقل عبر التاريخ – وبعيدًا عن رؤية “هيغل” نقول – أن وظيفة العقل عبر التاريخ قد إلتزمت دائمًا بالمسارات الإيديولوجية للتاريخ الاجتماعي للبشر، أي أخذت تلك الوظيفة صورًا مختلفة بحسب السياق الحضاري. فالعقل في مرحلة الأسطورة كان عقلاً خياليًا، وفي مرحلة الفلسفة اليونانية القديمة كان عقلاً تأمليًا، ثم تحول إلى عقل وظيفي في العصر الوسيط مهمته تأويل الواقع ليتناسب مع النص المقدس، ثم صار عقلاً نقديًا في مرحلة الحداثة من خلال مشروع التنوير. ومع مرحلة عنفوان الرأسمالية الصناعية صار عقلاً أداتيًا، أما الآن، في هذه المرحلة، مرحلة الليبرالية الجديدة؛ (التي نُطلق عليها الإيديولوجيا الناعمة)، صار عقلاً إجرائيًا، أقرب إلى جهاز الحاسوب الذي يخضع لعمليات برمجة معينة وتتحكم فيه مدخلات شديدة الوفرة، بما لا يسمح له بقدر من ممارسة أي من وظائفه السابقة، فتحول إلى عقل غير قادر أو غير قابل للتأمل، ولا للنقد، بقدر ما صار عقلاً متوهجًا ومتأهبًا باستمرار لمواجهة حالة الصخب الفكري والثقافي التي تُمطرنا به ثقافة الصورة.
وبصورة مجردة يمكن أن نختزل ذلك التصور لرحلة العقل في ثلاثية: (العقل الديني – العقل النقدي – العقل الإجرائي)، حيث ينشغل “العقل الديني” بمقاربة الفهم للنص المقدس، وينشغل “العقل النقدي” بمقاربة الواقع بنظرية المعرفة، أما “العقل الإجرائي” فينشغل بوضع “العقل الديني” و”العقل النقدي” خارج سياقات المعرفة الإنسانية لصالح تدشين “العقل التفكيكي”. “العقل ما بعد حداثي”. إذاً لاعتبارات إيديولوجية تم توظيف العقل لصالح الكهنوت.. ثم توظيفه لصالح بناء الحداثة.. الآن يتم توظيفه لصالح “ما بعد الحداثة” أو “الإمبريالية الرأسمالية”؛ لذلك يجب أن يكتسب تلك الصفة الإمبريالية ويُصبح عقلاً إمبرياليًا محايثًا للواقع الاقتصادي. ويحتكر المفاهيم الجديدة وتعريفاتها والتصورات الحاكمة لها..
01 – في الفترة من: 1945 – 1968، تراجعت صناعات الصلب لصالح الصناعات الدقيقة، وتحول جزء كبير من النشاط الاقتصادي من الصناعة إلى الاقتصاد الديجتال والتجارة والتسوق، باعتبار دورة رأس المال فيهما أكبر، وعدد تشغيل العمالة أقل.. وظهر تصور لا يختلف عن التصور الثقافي الذي طرحناه للتو؛ وهو أن اقتصاد الصناعة التقليدية بطيء وممل وله تبعات كثيرة، ويؤجج فكرة الصراع الاجتماعي، ويمنح العمال حقوقًا مالية واجتماعية تُسبب صداعًا مستمرًا.. تزامن تراجع صناعة الصلب في الستينيات والخمسينيات. مع تراجع أيضًا صناعة الصلب الثقافية.. الأفكار الكلية الكبرى.. فبينما تقدمت “اليابان”؛ (وفقًا لمنظور تقسيم العمل بين أجنحة الرأسمالية)، في صناعات التقنيات الجديدة.. وتقدمت “أميركا” و”فرنسا” في صناعات تقنيات ثقافية جديدة.. فانتشرت البنيوية والدراسات ذات النزعة الإنسانية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية.. وخاصة في “فرنسا”، حيث التركيز على مفاهيم جديدة مثل النسق والبنية واللاشعور والتفكيك.. وصولاً لمقولة موت الإنسان.. إنسان الحداثة.. وهنا درات مناقشات في “أروربا” كثيرة جدًا.. حول ما هو الإنسان ؟.. إنه ذلك المستقل عن كل ما سبق من تصورات تحكم تصوراته.. وكلما دارت مناقشات من هذا النوع يتراجع “ماركس” ويظهر “نيتشه” في المشهد.. وهذا ما دفع مفكر مثل؛ “أريك فروم”، لأن يُصدر كتابه: (مفهوم الإنسان عند ماركس).. انتشرت أيضًا الفلسفة البرغماتية؛ وخاصة على يد؛ “جون ديوي”، بصورة كبيرة.. وارتبط الخير العام بالنفع المباشر.. وتم استدعاء مقولة “جون ستيوارت ميل” أن المنفعة هي تلك التي تُحقق اللذة للإنسان، فالمنفعة واللذة لا ينفصلان.. وكانت نظريات نقدية وفنية قد سبقت هذا المسار بظهور العبثية واللامعقول والعدمية كردة فعل على المدارس التقليدية كالكلاسيكية والرومانسية والواقعية.
02 – في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.. لم يكن أمام العالم سوى أحد خيارين.. إما “التجربة السوفياتية” أو الاستمرار في “الحداثة الأوروبية” في صورتها الغربية، تلك الحداثة المُدانة من جوانب كثيرة، أهمها أنها أدت إلى إيديولوجيات كبرى.. لم تكن تجربة “الاتحاد السوفياتي” بالنسبة لهم ملهمة، ولم يتبق من الحداثة سوى تلك الصورة الباهتة التي ظهرت في “النازية” و”الفاشية”، ومن ثم كان من الضروري القفز إلى الأمام، عن طريق البحث عن ثنائيات بديلة لثنائية “الاشتراكية” وهي: “السيد/العبد”.. وثنائية “الحداثة”، وهي: “العلماني والديني”.. إلى ثنائيات أخرى.. وكان نموذج “ديكارت” عن ثنائية الجسد والنفس مثالاً يُحتذى به، فأخرجوا ثنائيات من قبيل الشعور واللاشعور وثنائية الكتابة والكلام، وثنائية الدلالة واللااستقرار الدلالي، ومؤخرًا ثنائية العامل والروبوت.. وهو ما استلزم مسبقًا ضرب مفهومي القيمة والمعنى: وهذا ما أكد عليه “نيتشه”؛ حينما طرح سؤالاً في كتابه: (هذا هو الإنسان).. وهو: “كيف يُصبح المرء ما هو ؟”، إنه بحسب تعبيره سؤال: “فن حفظ الذات”، يُجيب قائلاً: أن يُصبح المرء ما هو.. يُفترض أن لا يكون لديه أدنى دراية بما هو، من وجهة النظر هذه تغدو حتى الأعمال غير الصائبة التي تحدث في الحياة ذات معنى وقيمة.. معنى ذلك اقتصاديًا أن القيمة والمعنى تُحددهما اللحظة الراهنة دون تصور مسبق عنهما.. ومن ثم تدخل النفعية في المعادلة، وما بها من متعلقات مثل التسلية والمتعة وإعادة تحديد مفهوم السعادة نفسه. وإذا كان “بودلير” قد قال بأن الحداثة هي الإحساس باللحظة الحالية.. كذلك ما قاله بالضبط “رولان بارت”؛ أيضًا أن ما بعد الحداثة هي الإحساس باللحظة الراهنة.. نقطة الخلاف الأهم هي أن الزمن في الحداثة له حضور، بينما فيما بعد الحداثة ليس للزمن وجودًا، معنى ذلك خلخلة فكرة المكان أيضًا، ومع إسقاط أفكار الزمان والمكان والقيمة والمعنى يتخلخل مفهوم الإنسان، حيث يتم تفريغه من وجوده الزمكاني، وهنا تُصبح مقولات “ماركس” مثلاً حول دور علاقات الإنتاج في بناء تصورات البشر لا قيمة لها. ويتحول مفهوم الاغتراب بمعناه الماركسي إلى تصور لا معنى له؛ لأنه مفهوم ارتبط بحالة اغتراب تأسست على الواقع وليس على الذات. وهذا ما دفع “بول هازار”؛ بأن يصفهم بأنهم ذكاء يدعي التفكير بنفسه.. فهم يبدأون من الذات وينتهون إليها أيضًا.
03 – استفادت ما بعد الحداثة من مشروع “كانط” الفلسفي؛ وتشككه في قدرة الحواس على تحصيل معرفة موثوق فيها، ومن “ديكارت” في فكرة أننا لا نملك شيئًا ملكية حقيقة سوى أفكارنا. ورغم هذا الموقف الكانطي إلا أن “نيتشه”؛ وهو ذو قيمة كبرى لدى ما بعد الحداثيين؛ شن حملة ضارية على “كانط” وانتقده بشدة، ولا سيما في تقسيم “كانط” لعالم الحقيقة وعالم الظواهر، وأشار “نيتشه”؛ في معرض نقده، أننا لا يمكن أن نُدرك الوجود وهو في حالة صيرورة، فالعقل لا يُدرك الشيء سوى وهو في حالة ثبات وسكون، معنى ذلك أن الوجود الذي قال به الفلاسفة ورجال الدين ليس حقيقيًا بل مجرد أوهام خدعوا بها الناس، فالظواهر ليست سوى تأويلات قام بها الفلاسفة ورجال الدين، الذين صوروا للناس أنهم يعلمونهم كيف يعمل الوجود، وما ذلك العلم سوى خرافات في عقولهم فقط. ثم استكملت الفلسفة الوجودية أجزاء من الحلقة حينما نظرت إلى الإنسان بوصفه شخصًا منعزلاً، لا يُحقق وجوده إنطلاقًا من وضعه الاجتماعي أو الطبقي بل إنطلاقًا من ذاته.. إذ يقول “سارتر”: الجحيم هم الآخرون.
04 – وكان لـ”هيدجر” حضور كبير أيضًا في إرهاصات ما بعد الحداثة، فقد كان نيتشويًا في فترة من فترات حياته، ذهب “هيدجر” إلى أن المعرفة الحقيقية لا تبدأ إلا حينما يتوقف دور العقل بل والإله أيضًا، وكافة التصورات الميتافيزيقية.. وقال بأن تدمير الإنطولوجيا من الداخل إنما هو عمل ضروري، بل وتكاد تكون مهمة الفكر تفكيكية لهذه الكتلة الصماء. فيما أسس “ميشيل فوكو” – الذي وصف نفسه قائلاً: لست سوي تلميذًا لـ”نيتشه” – أسس أركيولوجيا المعرفة التي تعمل على تطوير المشروع البنيوي المستند إلى المنهج التفكيكي والجينالوجي.
نُخلص من تلك المقدمة عن إرهاصات ما بعد الحداثة إلى القول بأن المفكرين والفلاسفة والأدباء والمثقفين هم الذين يصنعون التابلوه الإيديولوجي المُعبر عن نمط العلاقات المادية السائد، إنهم الفئة الأكثر قدرة على بناء تصور عام للنظام، فيضعون أنفسهم في موضع التمثيل عن العقل الجمعي للمجتمع كصناع للرؤى والأفكار، إنهم قمة هرم المجتمع المُعبر عن المجموع، ذلك المجموع الذي ليس لديه القدرة على وضع تصوراته عن نفسه بسبب مكونه الثقافي وانشغاله في حياته اليومية. فبينما كانت السياسات الاقتصادية تسير في اتجاه إبتلاع شعوب العالم وتكوين فائض اقتصادي تاريخي، كانت السياسات الثقافية أو الإمبريالية الثقافية تسير في عكس الاتجاه، حيث تعمل على تفكيك العلاقات. لتختزل الإله والمجتمع والعقل الجمعي وعلاقات الإنتاج تختزل كل ذلك في بؤرة الفرد، في لا شعوره ولا وعيه، وتتحول مقولات من قبيل طبقة في مواجهة طبقة أو جماعة دينية في مواجهة أخرى إلى فرد في مواجهة العالم، إن ثنائية الواحد في مواجهة الكل.. كانت هي المطلب الأخير الذي يطلبه الشيطان في صفقة فاوستية عملت على مقايضة الذات الإنسانية بكل شيء تقريبًا.. فامتلاك الذات أصبح هو الثروة التي اقنعوا بها البشر، ولكنهم لم يقتنعوا أبدًا بحق تلك الذات في الثروات الطبيعية وفوائض الإنتاج.. ولم تُدرك تلك الذوات أنها لم تقبض من معني لتلك الذات سوي حق الجسد، الذي غاب عنه العقل بعد أن تم تحويله إلى “عقل إجرائي” يخدم في بلاط الإمبريالية الاقتصادية. هنا تصدق مقولة “ماركس” عن علاقة الوعي بنمط الإنتاج، أصبح الفرد في عُرف ما بعد الحداثة، روح لعالم بلا روح.
ننتقل الآن إلى مناقشة ماذا تعني مقولة: “ما بعد”.. تمهيدًا لمناقشة رؤية وأفكار ما بعد الحداثة في المقالة الثالثة والأخيرة..
01 – مقولة “الما بعد-post” – تعني بداية.. التجاوز.. (تجاز لحظة سابقة والبقاء في الآن – أي أنها تفترض تقسيمًا زمنيًا، أي تعترف بالأزمنة الثلاثة، الماضي والمضارع والمستقبل – ما بعد تعني الزمن المضارع، تعني لحظتنا الراهنة، تلك اللحظة الراهنة تحدث قطيعة معرفية مع الماضي، مع الزمن السابق، ولذلك اعتبر “نيتشه” نفسه فاصلاً بين عصرين أو فلسفتين، فلسفات الميتافيزيقا وفلسفة المستقبل)..
والتجاوز قد يكون قصديًا، أو تلقائيًا وطبيعيًا، وعندما قامت الحداثة بتجاوز مرحلة الإقطاع وسيطرة الكنيسة، كانت تفعل ذلك بشكل طبيعي لكي تتوافق قوى الإنتاج الجديدة مع المجتمع الجديد، لكي تتوافق مقولات الفكر مع مجتمع التجارة والصناعة، وأيضًا لكي تتوافق الأنسنة بمعناها الذي كشف عنه “كوبرنيق” مع تلك الأنسنة التي حررها؛ “مارتن لوثر” من الكهنوت.. هنا كان التجاوز ضروريًا وتلقائيًا، فالبشر لابد أن يسكنوا المدن، وأن يعملوا في خطوط إنتاج صناعي وحركة تجارة، ومن ثم لابد أن يُعاد تشكيلهم وإعادة صياغة إنسانيتهم بصورة تتوافق مع المتغيرات.. هنا يمكن أن نُطلق على الحداثة أنا ما بعد (لنمط إنتاج إقطاعي – ونمط ثقافي وديني لاهوتي).. وهنا أيضًا جاء الفكر تابعًا للواقع وانعكاسًا له، وبقدر ما هو انعكاس أسهم أيضًا في تشكيل الواقع عبر بناء تصورات جديدة للحياة عبرت عنها فلسفات العقد الاجتماعي.
02 – أما في أفكار ما بعد الحداثة فقد جاء التجاوز قصديًا، أي انطلقت من قرار فكري وفلسفي، وتصورات فردية لمفكرين، عبروا عن مفهومهم لروح العصر – بالمعنى الهيجلي – دون وجود سند اجتماعي/اقتصادي يسمح بانقلاب ثوري في نظرية الثقافة، فالرأسمالية لم تزل تحكم، وقانون حركة رأس المال في جوهره لم يزل قائمًا، والعلاقات الرأسية بين الرأسمال والشغيلة لم تتخذ سمات أفقية، والتبعية راسخة وتزداد تدهورًا، وتشويه الثقافات المغايرة لم يختلف كثيرًا عن مرحلة الاستعمار، والليبرالية الجديدة تسود بمنطقها المتوحش، والعالم يدور في فلك الدولار، والسياسة الدولية تُدار بعقلية قانون الغاب.. ومن ثم يُصبح الحديث عن ما بعد حداثة، في ظل تمترس الحداثة الاقتصادية وتعمق حضورها، مجرد فصل الفكر عن الواقع، واستقلال هذا الفكر بعيدًا عن ما يقوله الواقع، ومن ثم كان ضروريًا لهذا الفكر ما بعد الحداثي أن يكفر بالواقع، ويضرب مقولة انعكاس الفكر أو الوعي للواقع، ويستبدلهم باللاوعي واللاعقلانية، واللاشعور، ولكي يفعل ذلك فهو في حاجة لاستدعاء فلاسفة النقد، والنقض، بدءًا من: “هيوم” مرورًا “شوبنهور” و”نيتشه” و”فرويد”، وآخرين.. هنا التجاوز تم بصورة قصدية، استهدفها العقل الغربي أو شريحة منه، للتعالي على واقع أصبح النظر إليه بإمعان مدعاة لتأنيب الضمير، فكيف لمسار فكري أنتج مقولات كالعدالة والحرية والعقد الاجتماعي والمساواة والتحرر أن يصل به الحال إلى أن تُصبح كل هذه المقولات الكبرى حجر عثرة في وجه توغل الاقتصاد وتشويه حياة البشر عبر إغراقهم في نزعات استهلاكية تفوق شهوات الحيوانات.. كان لابد من إحداث فصل تعسفي يُشبه “الإبارتيد” بين الفكر والواقع الاقتصادي البائس، فكانت ما بعد الحداثة هي الوسيلة التي بموجبها تم تدمير كافة مقولات الحداثة، ليفقد العالم ذاكرة حرية الإنسان التي نادت بها الحداثة.
03 – فكرة ما بعد الحداثة الأساسية أن القيم الحداثية كالعقلانية والتنوير والتقدم.. الخ، نشأت في محيط ميتافيزيقي، وبالتالي تأثرت به من حيث تحديده لمفهومي الخير والشر، فقامت هي أيضًا بتحديد مفهومي الحقيقة والصدق، ووضعت شروطًا وقواعد لهما، فرسمت للبشر طريقة تفكيرهم مسبقًا، وضرورة السير على قواعد معينة حتى نصل للحقيقة؛ (الحقيقة هنا غالبًا ما تكون فردية أو شخصية).. وهذا ما عبر عنه “هايدجر”؛ حينما قال إن الميتافيزيقا هي التي تُقدم الوجود لنا بالصورة التي تُريدها ونحن نتبعها في فهمنا للوجود.. وانتقد “فرويد” فكرة الحداثة لأنها تقوم على العقل والعقلانية علمًا بأن اللاشعور يقوم بدور أكبر من العقل في توجيه سلوك البشر. والمعبر الأكبر عن حقيقتهم، فالعقل يكسب الأشياء منطقًا ليس منطقها، بل منطق تصورات مسبقة وقوالب محددة سلفًا.. فيما رأى “فوكو” أن فكرة الحرية ستظل مكبلة بالتصورات المسبقة سواء الميتافيزيقية أو الفلسفية التي حددت المفاهيم أي أغلقتها، ولن تتحقق الحرية بصورتها الكاملة سوى عن طريق ما بعد الحداثة.. والحقيقة أن كثير من العلوم الإنسانية الآن كالاقتصاد والاجتماع وعلم النفس والسياسة والثقافة والأدب تسير جميعها نحو ما تحدث عنه “نيتشه”، وهو أن الحقيقة ليست ثابته، وما قال به “فرويد” أن العقل ليس هو معيار إثبات المعنى، ولذلك تحفظ “ليوتار” كثيرًا على مقولة الواقع الذي يبدو أمامنا.. وهو ليس واقعًا بالمرة.. فلا يوجد واقع يشترك فيه الجميع.. إن الواقع هو الفرد واختياراته الخاصة فقط. ولذلك صار الفرد – لا الجماعة ولا الطبقة ولا البنية الاجتماعية – هي مرشد البحث الأساس في العلوم الإنسانية. إن الفردانية كانت موجودة بوضوح في أفكار الحداثة، ولكنها أنفردت بالمشهد في أفكار ما بعد الحداثة، ولذلك كان من الضروري أن يتم تحرير المفاهيم التي شيدت أو أرتسمت في عصور بناء تصورات للجماعة أو للطبقة، وربما هذا التحول يُفسر هوس إطلاق المفاهيم والمصطلحات الجديدة بصورة غير مسبوقة.
04 – هناك من يرى ميلاد ما بعد الحداثة تم في لحظة إعلان “نيتشه” لموت الإله في كتابه: (العلم المرح).. ويعني به موت كل القيم والأنساق المعرفية المنبثقة عنها.. واعتبار السؤال الميتافيزيقي هو جوهر التفلسف.. أي موت الحقيقة. وهناك من يرى أن تدشين المصطلح ظهر مع “ليوتار”؛ في كتابه (الوضع ما بعد الحداثي)؛ عام 1979. وهذا ما سنتحدث عنه في الغرفة القادمة.. ولكن دعونا نتوقف الآن عند “نيتشه”، ودوره في تدشين أفكار مابعد.. عمومًا.. وفي تقديري أن “نيتشه” – وتلاميذه بعد ذلك – هو الشرط الذاتي لظهور ما بعد الحداثة، أما الشرط الموضوعي فهو الصورة التي يتمظهر بها نمط الإنتاج الرأسمالي المعاصر.. لقد ظل “نيتشه” قابعًا على أرفف المكتبات وفي قاعات البحث العلمي بدرجة متفاوتة، حتى حان وقته، فتم استدعاء مقولاته، وإعادة قراءته وترجمته بصورة موسعة، في الستينيات بدرجة ما، ولكنه حضر في المشهد الثقافي العالمي ابتداء من التسعينيات بصورة مدهشة.
05 – ولكن يبقى السؤال، إذا كان “نيتشه” هو فيلسوف المرحلة، فماذا عن “ماركس” ؟.. ما الذي حدث معه ؟.. اهتم ما بعد الحداثيون بهؤلاء المشاغبين في تاريخ الفكر الفلسفي، على رأسهم “نيتشه”، ولكن “ماركس” أيضًا كان أحد هؤلاء الذي انشغل بنقد ونقض الكثير من المقولات الفكرية للرأسمالية، أو للحداثة الغربية، فاستهلموا منه أجزاء وتركوا أخرى، مارسوا هواية اللعب الحر معه، كان “ماركس” في الفكر الغربي ذو خصائص معينة، فهو قد تم التحفظ عليه من قبل “التجربة السوفياتية”، وهم تمردوا عن هذا التحفظ وهذا التفسير الميكانيكي لمقولاته، فقاموا هم بإعادة قراءة “ماركس” متحررًا من تطبيقاته العملية ورؤاه الثورية، باعتباره مفكرًا ناقدًا لا ثائرًا، ساعدهم على ذلك فهمهم لـ”ماركس” باعتباره نسقًا مفتوحًا، قابل للتطوير.. وهنا كانت قراءة “ماركس” الغربية بها سمات الفكر الغربي وهو النسبية في الفهم، فتم تفكيك “ماركس”، والاستفادة فقط بأجزاء من مشروعه الفكري دون الأخرى منها؛ (النزعة النقدية – مفهوم الإنسان – نقده للتصورات المثالية والميتافيزيقية – أنسنة كافة العلاقات حتى علاقة الإنسان بالطبيعة)، ولكنهم تركوا الكثير أيضًا مثل الصراع الطبقي وضرورة تجاوز الرأسمالية، ونظرية الثورة بوصفها ضرورة… الخ.. كان لهذا التقسيم أثره البالغ على اتساع رؤية “ماركس” وتشتت بعضها أيضًا بوضعها في مصفوفة ما بعد الحداثة.
06 – ومن وجهة نظري الماركسية أرى.. أن الفارق بين ما بعد الحداثة والحداثة هو اختلاف في الدرجة لا في النوع.. بمعنى أن أفكار ما بعد الحداثة هي التعبير الأمثل عن الرأسمالية في مرحلتها المعاصرة مرحلة الليبرالية الجديدة، ولا يمكن القول بما بعد حداثة على وجه الدقة في ظل بقاء الرأسمالية، لانها جزء من الحداثة وركن من أركانها، والعلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا.. فالحداثة والرأسمالية مرتبطتان بعضهما ببعض، ولا يجب فصلها لأننا بذلك نفصل بين ما هو تحتي وما هو فوقي بصورة مختلقة.. فعندما نُريد تدشين مصطلح ما بعد الحداثة يجب أن يسبقه أولاً تدشين مصطلح سابق عليه سبق منطقي وواقعي وهو ما بعد الرأسمالية.. وليس معنى أن تُصدر مؤلفات بعنوان: “ما بعد الحداثة”، أننا صرنا في مرحلة عالمية تقول بذلك، إن الفكر نعم انعكاس للواقع، ولكنه ليس بالضرورة أن يكون انعكاسًا كليًا لهذا الواقع، فعندما تمت العودة لنظام المقايضة في السلع؛ في أزمة 1929، لا يعني ذلك أننا عندنا إلى عصر ما قبل النقود، يعني أن مراحل الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي تؤدي إلى ظهور تصورات مختلفة، ومؤلفات ما بعد الحداثة هي نتاج حالة اضطراب اقتصادي وسياسي في العالم بعد الحرب العالمية أدت إلى دخول الإنسان الأوروبي المعاصر في أزمة، انتهت برفض الكل رفض العقل، والعمل على تجاوزه بتصورات المابعد.. وإنطلاقًا من هذا التصور أرى أن ما بعد الحداثة تعني بالضرورة ما بعد الرأسمالية.. ومن هنا يحل “ماركس” في المشهد ويطل علينا من خلف حجاب.
07 – إنني كماركسي، ومن وجهة نظري الشخصية، أرى أن الحداثة لم تزل شروطها الموضوعية قائمة، على الأقل في أجزاء كبيرة من العالم النامي؛ ونحن في القلب منه، فنحن لم نزل في حاجة إلى العقلانية والتنوير والتقدم الاجتماعي، والصراع الطبقي، وتحسين ظروف الحياة، نحن لم نزل في حاجة إلى الحرية والدولة القومية، وقوانين الرعاية الصحية والاجتماعية، نحن في حاجة إلى بناء إنسان الحداثة، وإلى فك قيود التبعية وبناء تنمية مستقلة متمحورة حول الذات، نحن في حاجة إلى سوق عمل بمعناه الكلاسيكي، يضمن حقوقًا اقتصادية لأفراد المجتمع، نحن في حاجة إلى وقف نزيف الانسحاق نحو الغرب ومقولاته التي تتوافق مع رغبته في الهيمنة الاستهلاكية الراهنة.. باختصار نحن نحتاج إلى إنتاج ذواتنا الجماعية والفردية، وأن نُحقق حداثتنا، نحن، بمواصفاتنا نحن، وسماتنا نحن، وإنطلاقًا من تلك الحدود التي نقف عندها، تلك الحدود التي جعلتنا أمة تستهلك بلا وعي، تستهلك الأفكار ما بعد الحداثية كما تستهلك السلع غير الضرورية. إن مشروع الحداثة – كما يقول “هابرماس” – لم يزل لديه ما يُقدمه للبشرية.