24 فبراير، 2025 3:00 ص

ما بعد الحداثة “خريطة مبسطة” (1-3)

ما بعد الحداثة “خريطة مبسطة” (1-3)

خاص : بقلم – د. محمد دوير :

من أين نبدأ الحديث عن ما بعد الحداثة ؟

وماذا نعني بها بالضبط ؟

وهل قراءة ما بعد الحداثة ومدخلاتها ضرورة لفهم وقاعنا المعاصر ؟

س1: من أين نبدأ: غالبية المفكرين ينطلقون من الدراسات الثقافية، ولكننا هنا سنبدأ من المسارات الاقتصادية.. إنطلاقًا من فكرة مؤداها أن الناس ينسجون علاقاتهم الاجتماعية وتصوراتهم عن الأشياء وفقًا لعلاقات الإنتاج. ولذلك من الضروري ربط الاقتصاد بالثقافة.. وليس بالسياسة فقط.

س2: ماذا نعني بما بعد الحداثة: نعني بها تلك الأفكار والتصورات التي تسعى لتجاوز مشروع الحداثة الغربي؛ كما ظهر لنا في الفترة من القرن 16 وحتي منتصف القرن العشرين. والتي تؤمن بمركزية العقل.

س3: هل دراسة ما بعد الحداثة ضرورية ؟ : نعم.. من أجل هدف واحد ووحيد.. وهو أن المسار العالمي المعاصر لم يأتِ مصادفة، بل جاء نتيجة إرادات ما.. أرادات أن تنقل نظرية المعرفة من مجال الارتباط العضوي إلى حيز التفكيك والتشظي.. بهدف فتح العقول بعدما تم فتح الأسواق.. لتقبل ما يُنتجه المركز من سلع مادية أو لا مادية.

ولذلك.. فالحديث عن أفكار ما بعد الحداثة – يرفضون مقولة نظريات لاعتبارها رؤى مغلقة – يجب أولاً أن نُحاول رسم خريطة الفكر الغربي منذ مطلع الحداثة، لنكشف عن مسار التحولات من الحداثة إلى ما بعدها..

ارتسمت الحداثة الغربية وفق عشر مقولات: (1) الإصلاح الديني. (2) الفكر الفلسفي. (3) التقدم العلمي. (4) التقدم الاجتماعي. (5) التنوير. (6) العلمانية. (7) الحرية السياسية. (8) الحرية الاقتصادية. (9) الفنون والآداب. (10) التطور التكنولوجي.

تلك المقولات العشر التي يمكننا وضعها تحت ثلاثية كبرى أو عناوين ثلاثة كبرى؛ هي: العقلانية والحرية والتقدم.. ويمكن وضع تلك الثلاثية أو ردها إلى مقولة واحدة؛ وهي: “العقل” كمعيار أو مركز ثِقل الحداثة.. ومن القمة الواحدية تلك إلى القاعدة العشرية يمكن أن نقول أن الغرب أنتج حداثة قادرة على إحداث تحولات حقيقية في العالم..

ولكن من الضروري أيضًا أن نتوقف قليلاً أمام تحولات أخرى كانت متوازية إلى حدٍ ما مع تلك التحولات أرى أن لها دور مهم.. وهي: الدين واللغة والفردانية؛ (لها علاقة بما بعد الحداثة).

الدين: منذ الاعتراف بالمسيحية في القرن الرابع في الإمبراطورية الرومانية.. تم الإقرار بعولمة المسيحية.. ومنذ قرار “عمرو بن العاص” بتجاهل رسالة “ابن الخطاب” والمضي قدمًا لاحتلال “مصر”؛ تم نقل الأفق الإسلامي من حيز الجزيرة إلى خارجها؛ ومنها إلى عولمة الإسلام شرقًا وغربًا..

ومنذ أن تم عولمة الدين دخلنا في منطقة صراع دينية كبرى بعدما كانت الديانات محلية الطابع.. وحينها لم تكن هناك حروبًا دينية.. نستخلص من هذا التصور أن عولمة الأشياء يدفع إلى الصراع..

اللغة: مع الاستعمار تحولت لغة المستعمرين إلى اللغات السائدة والمهيمنة في العالم الحديث على حساب موت لغات كثيرة؛ وخاصة في إفريقيا وما يُسمى بـ”الهنود الحمر”.. أي تمت عولمة اللغة ابتداءً من القرن القرن الثامن عشر وربما ما قبل ذلك بكثير.

الفردانية: علينا أن نُقر بداية أن النزعة الفردية لم تكن ابنة الاقتصاد الرأسمالي أو نظريات العقد الاجتماعي بقدر ما كانت مدينة بالفضل إلى الإصلاح الديني الذي اعتبر أن التدين علاقة خاصة بين الفرد وربه، ولذلك هناك من أعتبر أن البروتستانتية أقرب إلى الرأسمالية من أي مذهب أخر.. وأستطيع أن انطلق في دراسة مفهوم الفردانية من الدين مرورًا بالاقتصاد ثم أخيرًا الفلسفة وأفكار ما بعد الحداثة..

ماذا يعني كل ذلك ؟

يعني أن الفعل الاجتماعي.. الفعل البشري يخضع لشروط موضوعية إلى حدٍ كبير..فنشر الدين الإسلامي لم يكن الهدف منه فقط هو هداية الناس، بقدر ما كان مدخلاً للهيمنة على “الخراج”، ونشر المسيحية؛ وخاصة في المستعمرات، لم يكن الهدف منه فقط رفع كلمة المسيح عالية بقدر ما كانت أداة لخلق مبررات لاستنزاف الفائض الاقتصادي للمستعمرات.. هنا لعب الدين دورًا ثقافيًا بإمتياز عبر تحويل التصورات حول الحياة والكون والخلق باتجاه رؤية المستعمر. وهكذا يمكن القول في حديثنا عن اللغة.. والفردانية..

ظلت الحداثة إذاً تقدم إنجازاتها وخدماتها للبشرية بشروطها هي.. نعم.. تهدي العالم منجزات علمية عظيمة وتُعلي من شأن العقل، ولكن تلك المنجزات كانت تصنع حقنة المخدر وطلقة الرصاص في الوقت نفسه، تُبشر بالحقوق السياسية وتنتهك القيم الإنسانية في المستعمرات في الوقت نفسه، ولذلك انقسم العقل الغربي إلى مستويين، عقل مُنتج للحضارة في سياقها الغربي، وهادم لحضارات أخرى في الوقت نفسه، ومن ثم فهو عقل مصاب بحالة “شيزوفرينا” أو “فُصام”.. وكان من الطبيعي بعدما انقلب على العالم الآخر باستعماره، أن ينقلب على نفسه، بالحروب الداخلية في الحربين الأولى والثانية.. وبعد نهاية الحربين كان من الضروري أن يتوقف كل شيء لتُعيد الحداثة مراجعة نفسها بعد حوالي 450 سنة من الفعل..

هنا.. تم مراجعة المقولات العشر.. والثلاثية الحاكمة.. والمفهوم المركزي أيضًا وهو “العقل” نفسه.. وكان القرار هو ضرورة تجاوز تلك المرحلة الحداثية بأي صورة من الصور.. ليس لوقف احتماليات الحرب فقط.. ولكن لأن الاقتصاد نفسه أصبح لا يتحمل مقولات الحداثة التي تُفرض عليه أن يدفع ضريبة الحداثة من خلال تقديم الضمانات الاجتماعية والرعاية الصحية وساعات العمل ومنهج العمل نفسه.. ومن هنا ووفقًا لشروط المنتصر؛ (الاقتصاد)، تم استبدال “الاقتصاد” ليحل محل “العقل”.. بل ويُصبح العقل نفسه في خدمة المشروع الرأسمالي الذي تحول إلى مشروع اقتصادي بحت..

هنا تم النظر في المقولات العشر ومحاول اقصاء بعضها وتوظيف البعض الآخر. فما الذي حدث ؟

في الثُلث الثاني من القرن العشرين (1933 – 1966):

1 – ومن هنا تم استدعاء الكينزية، ودولة الرفاة بعد ذلك للهروب من شبح الشيوعية، “هوبزباوم”؛ قال إن أزمة الكساد الكبير هي تعبير عن أزمة الليبرالية التقليدية. وبعد خروج الرأسمالية من النفق المظلم تم اقصاء الكينزية لصالح مقولات السوق الحر..

2 – على الصعيد الاجتماعي تم استدعاء أيضًا نظرية الوظيفية عند “تالكوت بارسونز”، التي كانت في نظر؛ “إيان كريب”، محاولة رأسمالية للهروب من تأثير الماركسية.. “بارسونز” يُدافع عن الاتزان الاجتماعي عبر التكيف، عكس “توماس كون”؛ الذي قال بضرورة تغيير النموذج فور إثبات فشله. إلى أن تم التخلي عن “بارسونز” في نهايات الستينيات؛ بعد أزمة 1968 تقريبًا.. لعدم الحاجة إليه..

واستدعاء “كينز” و”بارسونز” كان الهدف منه: الالتفاف حول الصراع الطبقي بالتوفق الطبقي.. عند “كينز” والالتفاف حول الصراع الاجتماعي بمفهومه الماركسي ليحل محله التوافق الاجتماعي..

لذلك يعتبر “كينز” و”بارسونز” قاما بنفس الدور الذي قام به؛ “آدم سميث” و”ريكاردو”، اقتصاديًا، و”هيغل” و”كانط”؛ فلسفيًا.. في تصوراتهما عن قيمة الفلسفة في عقلنة الواقع الاجتماعي. هنا نحن أمام عمليات إحلال وتجديد، اقتصاد اجتماعي بدلاً من اقتصاد ثوري.. وعلم الاجتماع محل الفلسفة.. هنا البشر يؤسسون مقولاتهم الفكرية وفقًا لواقعهم الاقتصادي/الاجتماعي، وفقًا لتشكل علاقات الإنتاج.

في الثُلث الأخير من القرن العشرين (1968 – 2000) حدثت تحولات كبرى..

طفرة التقدم التكنولوجي.. ثورة الاتصالات والثورة التكنولوجية بدأت.. تزامن معها ظهور الشركات متعددة الجنسيات.. ونقل الصناعات كثيفة العمالة إلى خارج الغرب، والصناعات الخطيرة إلى بلدان الجنوب.. مع فتح الأسواق، مما أدى إلى تحول خطير وذا مغزى.. وهو أن حركة التبادل التجاري زادت بمعدلات فائقة ومن ثم حلت التجارة محل الصناعة في ترتيب أولويات النظام الرأسمالي.. بسبب نمو التجارة العالمية.. بحيث نجد أن نمو الصادرات يزيد بصورة مستمرة.. الأمر الذي انعكس على الوضع العالمي كالتالي:

1 – ضرب أفكار التنمية المستقلة؛ (انتشار القروض والمنح من خلال المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل: صندق النقد والبنك الدولي).. واستثمرت الرأسمالية الطفيلية هذا التحول وكونت شبكة علاقات اقتصادية ترسخ لفكرة التبعية.. فهيمنت على المجال العام في بلدانها.

2 – فتح الأسواق المحلية، وانتشار سلع كثيرة غير ضرورية؛ (هنا يدخل التسوق وعلم النفس في تعظيم قيمة تلك السلع وخلق العادة لاستعمالها).

3 – نقل ثقافة وقيم وتقاليد غربية إلى شعوب العالم.. (الكوكاكولا.. وماكدونالدز.. والأزياء).

4 – تعضدت وقويت هذه المرحلة بصعود “تاتشر” و”ريغان” للحكم وبداية عصر اقتصادي جديد تقوده الليبرالية الجديدة.

وجد العالم الثالث نفسه أمام معضلة جديدة، فما أن فاق وتخلص إلى حدٍ ما من الاستعمار التقليدي حتى وجد نفسه غارقًا في التبعية، ولم تكن تلك التبعية تعبيرًا عن مزاج الغرب الاستعماري بقدر ما كانت ضرورة لفتح أسواق الجنوب لمنتجات الغرب.. هنا حدثت واحدة من أكبر أزمات الجنوب، حيث انقسمت النخبة ومعها العقل الجمعي لتلك الأمم إلى مسارين، الأول: حالة انسحاق طوعي أمام الغرب وتبين مقولاته ودوافعه ومساراته، والثاني الإنكفاء على التراث ومحاول استنهاضه من أجل مقاومة هذا النزوح الغربي.. وكلا الموقفين كانا على خطأ بالطبع..

وجد العالم الثالث نفسه أيضًا أمام معضلة كبرى.. وهي أن سيطرة الفئات الطفيلية على الاقتصاد عبر التوكيلات والتجارة والاستيراد وإغراق الأسواق، إلى أن تحولت الطبقة الوسطى إلى طبقة هشة، تضعف باستمرار ويتراجع دورها السياسي بالضرورة، وتأثيرها الثقافي أيضًا، مما منح قوى الإسلام السياسي وقوى الاغتراب الحداثي وما بعده فرصة تاريخية للهيمنة على العقل الجمعي للأمم.. وأصبحنا أمام مستويين من اليمين غاب ثالثهما.. الأولى هو اليمين الديني والثاني هو اليمين الطفيلي.. وغاب الثالث وهو اليمين الليبرالي بمعناه التقليدي الذي يقوم على بناء مجتمع صناعي حقيقي تنضج معه مقولات الليبرالية..

يبقي السؤال: كيف انتقلت الرأسمالية الأوروبية من مرحلة الحداثة إلى مرحلة ما بعد الحداثة ؟.. أي ما هو المقدمات الاقتصادية لذلك ؟

1 – الرأسمالية في القرون الأربعة الأخيرة انتقلت من مرحلة الصناعات الثقيلة والطبقة العاملة الكثيفة.. بمساعدة العلم والتكنولوجيا إلى مرحلة النفط وسيادة التجارة البينية لنقل المنتجات وفتح الأسواق.. ثم إلى مرحلة تكنولوجيا الاتصالات.. وفي كل مرحلة من تلك المراحل كانت تنحو باتجاه تعظيم الربح والاحتكار..

2 – الاستثمار الأميركي في الغرب كان من: 1950 – 1975، ولكنه تحول للجنوب من: 1974 تقريبًا وضخ المليارات في صورة قروض، أدت إلى خدمات الدين والدخول في نفق التبعية تحت إشراف المؤسسات الاقتصادية.

3 – كان لابد من أن تعمل الثقافة والإعلام والتعليم والتربية في دعم تلك الصورة التجارية الجديدة.. فالغرب في حاجة إلى إداريين قادرين علي تشغيل مصانعهم في بلدان الجنوب، ففتح معاهده وجامعاته لهم.. وكان أيضًا في حاجة إلى دارسين لعلومهم الإنسانية من أجل إحداث توافق بين رغبات المستهلك وعقليته التي يجب أن ستدعي تلك السلعة الموجودة بالسوق.. وهكذا.

4 – التجارة الدولية تتعاظم.. فحدث تحول مهم..السعي نحو دمج العالم في سوق عالمي كبير، وهنا تتخلى الرأسمالية تحت دوافع اقتصادية عن نظرية الدولة القومية التي كانت أهم دعائم مرحلة الحداثة. وعن الحرية الاقتصاية عبر إدخال أكثر من نصف العالم في بحر الديون والتبعية متخلية أيضًا عن أحد أهم دعائم الحداثة؛ وهي قوانين السوق التقليدية والمنافسة المشروعة، فقد دمرت التجارب الوطنية نتيجة لغياب التنافس الحقيقي.

5 – ومع تأسيس “مجموعة العشرين”؛ عام 1999، بعد أزمة 1997، عملاً بنصيحة “غوردن براون”؛ رئيس وزراء إنكلترا، في هذا الوقت؛ (تُسيطر على: 85% من الاقتصاد العالمي)، وبموجبه يسمح ببعض التدخلات للدول من أجل عدم تكرار أزمة 1997، تخلت الرأسمالية عن أهم دعائم الحداثة وهي حرية السوق وترك اليد الخفية تضبط إيقاعه وفقًا لـ”آدم سميث”..

6 – ثم جاءت أزمة الرهن العقاري لتؤكد ضرورة أن تتخلى الرأسمالي عن كل شيء حتى ورقة التوت التي كانت تستر عوراتها.. وصرنا في حاجة ماسة إلى ضرب كل القيم والتصورات والأفكار وضرب سلطة العقل نفسه من أجل أن يتحرر الاقتصاد من أي قيمة تدعي الإنسانية.. فلم يُعد هناك ما يُسمى: بـ”الإنسان”.. بل صار اسمه: “المستهلك”.. وهنا كانت ما بعد الحداثة ضرورة تاريخية فرضتها شروط علاقات الإنتاج.

7 – ساعد على ذلك الاقتصاد الديجيتال.. أو اقتصاديا العالم الافتراضي.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة