كتبت – سماح عادل :
“ماريو باغاس يوسا” روائي وصحفي وسياسي بيروفي.. حصل على “جائزة نوبل” في الأدب عام 2010، ألف كتاباً عن الرواية بعنوان “رسائل إلى روائي شاب” اتسم بالدقة والانتظام، جاء في شكل اثنتى عشر رسالة لكاتب شاب يتضح من السياق أنه يراسل “يوسا”، ليتعرف منه على كيفية كتابة رواية، والكتاب ترجمة “صالح علماني”.
يعلن “يوسا” في البداية أنه في شبابه كان مبهوراً بـ”فوكنر – هيمنغواي – مالرو – دوس باسوس – كامو – سارتر” وأنه كثيراً ما كانت تراوده فكرة الكتابة إلى كتابه المفضلين، وكانوا جميعهم لا يزالون أحياء حينذاك، وطلب التوجيه منهم حول كيف يمكنه أن يصير كاتباً ؟.. ولكنه لم يتجرأ على عمل ذلك قط، إما بسبب الخجل أو الرادع التشاؤمي حول معرفة أن أياً منهم لن يتكرم بالرد عليه.
الكتابة مكافأة الروائي..
ينصح “يوسا” الكتاب الشباب إذا ما واظبوا على الكتابة والنشر ألا يبنوا أوهاماً كبيرة بشأن النجاح “فالجوائز، والاعتراف العام، ومبيعات الكتب، والسمعة الاجتماعية للكاتب، لها مسار من نوعها، مسار تعسفي إلى أبعد الحدود، فهي تتجنب بعناد أحياناً من يستحقها بجدارة وتحاصر من يستحقها أقل”. ويوضح أن “السكة الأساسية للميل الأدبي هي أن من يمتلكه يعيش ممارسة الكتابة باعتبارها مكافأته الأفضل، وأنها أكبر بكثير من كل المكافآت الأخرى”.
الكتابة استعداد فطري وعمل..
يرى يوسا أن “الميل إلى الكتابة استعداد فطري ذو أصول غامضة، يدفع بعض الناس إلى تكريس حياتهم في نشاط يشعرون أنهم مجبرون على ممارسته، لأنهم يستشفون بممارسة هذا الميل فقط، إنهم يشعرون بتحقيق ذاتهم وبالانسجام مع أنفسهم، مقدمين أفضل ما لديهم دون الإحساس البائس بأنهم يبددون حياتهم، هذا الميل ليس اختياراً حراً وإنما استعداد فطري، قد يصاغ في الطفولة أو الشباب المبكر ثم يأتي الاختيار العقلاني لتقويته”.
مضيفاً: “اصرارك على أن تكون كاتباً وتصميمك على توجيه حياتك الخاصة في خدمة هذا المشروع، هي الطريقة الوحيدة المحتملة بالبدء في أن تكون كاتباً، المبرر السري لوجود الأدب هو التمرد على الحياة الواقعية، وخلق حياوات أخرى متخيلة، التخييل هو أكذوبة تخفي حقيقة عميقة، إنه الحياة التي لم تكن، الحياة التي أراد الإنسان امتلاكها ولم يحصل عليها، ولهذا كان عليه اختلاقها، إنه ليس صورة التاريخ بل هو نقيضه، ولهذا كان لابد من إبداعه بالخيال والكلمات من أجل إخماد الطموحات التي عجزت الحياة الحقيقية عن إشباعها”.
الكتابة عبودية..
يؤمن يوسا أن “الكتابة عبودية مختارة بحرية، فالأدب يتحول إلى نشاط دائم، إلى شئ يشغل الوجود ويستغرق الساعات، فالكتابة تتغذى على حياة الكاتب وهو يعيش ليكتب”. مؤكداً على أن “من يدخل الأدب بحماسة من يعتنق ديناً، ويكون مستعداً أن يكرس لهذا الأدب وقته وطاقته وجهده هو وحده من سيكون في وضع يمكنه من أن يصير كاتباً حقاً، وأن يكتب عملاً يعيش بعده، فذلك الشئ الغامض المسمى موهبة لا يولد لدى الروائيين بصورة مبكرة وصاعقة، وإنما يظهر عبر سياق طويل وسنوات من الانضباط والمثابرة، فلا وجود لروائيين مبكرين فجميع الروائيين الكبار والرائعين كانوا في أول أمرهم متمرنين وتشكلت موهبتهم بالمثابرة”.
من أين تأتي القصة ؟
يجزم يوسا في رسائله أن “أصل كل القصص ينبع من تجربة من يبتكرها، والحياة المعيشة هي الينبوع الذي يسقي القصص المتخيلة، وهذا لا يعني أن تكون الرواية على الدوام سيرة حياتية مستترة لمؤلفها، بل يعني أنه يمكن العثور في كل قصة، حتى في أكثر القصص التخيل تحرراً وانطلاقاً، على بذرة حميمة مرتبطة بجملة من التجارب الحياتية لمن صاغها، وليس هناك استثناءات على هذه القاعدة، فكل القصص المتخيلة هي هندسات معمارية تقوم بالمخيلة والحرفية، استناداً إلى بعض الأحداث والأشخاص والظروف التي تركت أثراً في ذاكرة الكاتب، وحركت خياله الذي بنى عالماً متكاملاً من هذه البذرة، وأصبح هذا العالم شديد الغنى والتنوع إلى حد يصعب معه التعرف على تلك المادة الأولية”.
مضيفاً أن “الكاتب يقوم بالنبش في تجربته الحياتية الخاصة بحثاً عن دعائم ومرتكزات، لكي يبتكر قصصاً، وليس فقط من أجل أن يعيد إبداع شخصيات، أو أحداث، أو مشاهد انطلاقاً من المادة الاولية التي توفرها له بعض الذكريات، وإنما لأنه يجد أيضاً في ذاكرته الوقود للإرادة التي يحتاجها لكي ينجح في صياغة رواية”.
وحول القصص أيضاً يعتقد أن “الحياة تفرض علي الكاتب الموضوعات من خلال تجارب معينة تخلف أثراً في وعيه الباطن، ثم تحاصره بعد ذلك لكي يتحرر منها بتحويلها إلى قصص، لقد تمكن كتاب السير الذاتية من تصنيف قوائم جرد مطولة لأمور عاشوها وكائنات واقعية، وتحويلها من أحداث عادية إلى تشخيص مبهر للشرط الإنساني، من أجل رصد أنفسهم بالذات في سياق الحياة”.
الرواية خدعة..
يعرف يوسا الرواية بأنها: “جنس أدبي أكثر ما فيها “حقيقية” هو كونها خدعة.. الروائي الحقيقي هو ذلك الذي ينصاع بوداعة لتلك المتطلبات التي تفرضها عليه الحياة، بالكتابة حول هذه المواضيع وتجنب تلك التي لا تولد بصورة حميمية من تجربته الذاتية، ولا تصل إلى وعيه وتؤرقه، من الصعب أن يكون الكائن مبدعاً محولاً للواقع ما لم يكتب مدفوعاً ومتغذياً على شياطينه الداخلية، التي جعلت منا نحن الروائيين ملاحظين جوهريين وبناه للحياة في التخيلات التي نختلقها”.
تقنيات الرواية..
انتقل يوسا في رسائله إلى التقنيات التي تتكون منها الراوية شارحاً “الفصل بين المحتوى والشكل، أو الموضوع والأسلوب والنسق السردي أمر مصطنع، ولا يقبل به إلا لأسباب توضيحية وتحليلية، ما ترويه الرواية لا يمكن فصله عن الطريقة التي روي بها”، مضيفاً: “من أجل تزويد رواية بالقدرة على الإقناع لابد من سرد قصتها بطريقة تستفيد من المعايشات المضمرة في الحكاية وشخصياتها، وتتمكن من أن تنقل للقارئ “وهماً” باستقلاليتها عن العالم الواقعي، ويكون كل ما يحدث فيها بموجب آلية داخلية لهذا التخيل الروائي، فقوة الإقناع تسعى إلى تضييق المسافة بين الوهم والواقع، وجعل القارئ يعيش الكذبة كما لو أنها حقيقة، وكما لو أن هذا الوهم هو الوصف الأشد تماسكاً للواقع”.
مواصلاً: “شكل الرواية يتكون من عنصرين هامان الأسلوب والنسق، الأول يتعلق بالكلمات، بالبناء الذي تروى به الرواية، والثاني بتنظيم المواد التي تتالف منها تلك الرواية، وهو أمر له علاقة بالمحاور الكبرى لأي بناء روائي: الرواي – المكان – الزمان القصصي”.
الأسلوب..
يؤكد يوسا على أن “طريقة الكاتب في اختيار مفردات اللغة وصياغتها وترتيبها عامل حاسم في قوة الإقناع”، ففعالية الكتابة في رأيه تعتمد على تماسكها الداخلي، وعلى الكاتب الشاب أن يبحث عن أسلوبه، يقرأ كثيراً جداً لأنه من المستحيل امتلاك لغة ثرية سلسلة ومطواعة دون قراءة، ومحاولة عدم تقليد الروائيين الذين يقدرهم، “لأنه لابد من صياغة أسلوب شخصي يناسب ذلك الذي تريد أن ترويه، الأسلوب يأتي مع القراءة والكتابة وليس بالضرورة أن يصل إليه الروائي من أول رواية”.
الراوي..
مؤكداً على أن “التحديات الموجودة في الرواية أربعة “الراوي – المكان – الزمان – مستوى الواقع”.. والراوي أهم شخصية في كل الروايات دون استثناء، وتعتمد عليه كل الشخصيات، ومطابقة الراوي مع المؤلف خطأ خطير.. واختيارات الراوي ثلاث “شخصية في الرواية – راو عليم بكل شئ غير منتم للرواية – راو ملتبس لا يعرف هل من داخل العالم المروي أم خارجه”، والنوع الثالث نتاج الرواية الحديث.
الزمن..
الزمن في الرواية وفقاً ليوسا، زمن نفسي ذاتي يختلف عن الزمن الواقعي الذي نعيش فيه.. فـ”الرؤية الزمانية هي العلاقة القائمة بين زمن الراوي وزمن ما يروى، وهي احتمالات ثلاث” تطابق زمن الراوي وزمن ما يروى “المضارع” – الراوي ينطلق من الماضي ويروي أحداثاً في الحاضر والمستقبل – الراوي يتموضع في الحاضر أو المستقبل لكي يروي أحداثاً جرت في الماضي، والزمن الروائي شئ يتطاول، يتباطأ، يتجمد، أو يندفع مسرعاً بصورة دوارية، يتقدم بقفزات واسعة أو خطوات صغيرة، تتنوع الرؤى الزمانية داخل الرواية الواحدة، كما قد يتعدد الرواة وتتعدد الأماكن”.
تقنية العلبة الصينية..
ينتقل “يوسا” للحديث عن تقنيات مختلفة في الرواية، ويبدأ بالعلبة الصينية، ويعرفها بأنها “تقنية سردية استخدمت في “ألف ليلة وليلة”، حيث دمج قصص ضمن قصص من خلال نقلات الراوي، وتبقى القصص مترابطة ضمن نظام يغتني فيه الكل بإضافة الأجزاء، عالم متراكب فوق بعضه ومتداخل”.
تقنية المعلومة المخبأة..
ويتناول تقنية أخرى هي “المعلومة المخبأة، تقنية قديمة قدم الرواية، استخدمها بجرأة “ارنست هيمنغواي”، تعتمد على صمت الراوي عن معلومات ليجعل ذهن القارئ يعمل على التفكير فيها، وسد الفجوات في السرد، لكن هذا الصمت يجب ألا يكون مجانياً ومتعسفاً، لابد أن يكون له دلالة، وأن يمارس تأثير لا لبس فيه على القسم الواضح من القصة، بحيث يحرض فضول القارئ وخياله على التدخل بتكهنات وافتراضات”.
الأواني المستطرقة..
يوضحها بأنها “واقعتان أو أكثر تجري في أزمنة أو أمكنة مختلفة، وتجمع بينها كلية سردية بقرار من الراوي، بهدف أن يتمكن هذا التجاور أو المزج من إحداث تعديل متبادل، مضيفاً لكل منهما دلالة، أو رمز مختلف عما هو مروى في كل واقعة منها بصورة منفصلة، ولابد من وجود تواصل بين الواقعتين بواسطة الراوي في النص السردي”.
ويختم “يوسا” رسائله بنصيحة للكاتب الشاب في أن ينسى كل ما قاله ويبدأ في كتابة رواية مشددًا على أنه “يمكن للنقد الروائي أن يكون مرشداً عظيم القيمة في النفاذ إلى عالم المؤلف وأساليبه، وممكن أن يكون إبداعياً، ورغم ذلك هناك عنصر أو بُعد في العمل الإبداعي لا يمكن للتحليل النقدي العقلاني أن يمسك به”.