خاص : كتبت – سماح عادل :
في هذه الحلقة من الملف سوف نتناول رأي الكاتب البريطاني “جورج أورويل”، صاحب روايات (1984) و(مزرعة الحيوانات) و(إبنة القس).. سوف نعرض لكتابه (لماذا أكتب ؟)، ترجمة “علي مدني”، والكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات الطويلة لـ”جورج أورويل”، يتحدث فيها عن موضوعات مختلفة.
تطور وعي الكتابة..
عبر مقالة بعنوان: (لماذا أكتب ؟)، يحكي “جورج أورويل” عن تطور وعي الكتابة منذ طفولته، يقول: “من سن مبكرة جداً، ربما عند الخامسة أو السادسة، علمت أني عندما سأكبر سيتعين علي أن أصبح كاتباً، بين حوالي عمر 17 و20، حاولت التخلي عن هذه الفكرة، لكنني قمت بذلك وأنا واعٍ بأنني أغضب طبيعتي الحقيقية، وأنني عاجلاً أم آجلاً سوف استقر، وأكتب كتباً. كنت الأبن الأوسط بين ثلاثة أطفال، لكن هناك فجوة بخمس سنوات على كل جانب، ورأيت والدي بالكاد قبل أن أصبح في الثامنة من عمري، لهذا ولأسباب أخرى كنت وحيداً نوعاً ما، وكونت بعد ذلك بقليل سلوكاً سيء الطباع، جعلني لا أحظى بشعبية طوال أيام دراستي، كان لدي عادات الطفل الوحيد في اختراع القصص، وإجراء محادثات مع أشخاص متخيلين، واعتقد أنه منذ بادئ الأمر كانت طموحاتي الأدبية ممزوجة بشعور العزلة وعدم التقدير”.
ويضيف “أورويل”: “كنت أعرف أن لدي براعة مع الكلمات، وقدرة على مواجهة الحقائق غير السارة، واعتقد أن هذا قد خلق لي نوعاً من العالم الخاص، حيث كان بإمكاني داخله حماية نفسي من الإخفاقات في الحياة اليومية، ومع ذلك فإن حجم الكتابة الجادة، بالأحرى التي قصد لها أن تكون جادة، والتي أنتجتها في طفولتي وصباي لم يبلغ أكثر من نصف دزينة من الصفحات، كتبت قصيدتي الأولى في سن الرابعة أو الخامسة، وقامت والدتي بمراجعتها لفحص الإملاء، لا يمكنني تذكر أي شيء عدا أنها كانت عن نمر، وأنه كان لديه (سن مثل الكرسي)، تعبير غير رديء لكن أظن أن القصيدة كانت انتحالاً لقصيدة (نمر نمر) لـ(بليك). في سن 11، عندما اندلعت حرب 1914 : 1918، كتبت قصيدة وطنية كانت قد طبعت في الصحيفة المحلية، كما نشرت واحدة أخرى بعد عامين عند وفاة (كيشنر)، ومن وقت لآخر، عندما كنت أكبر قليلاً، كتبت قصائد رديئة، كما حاولت مرتين كتابة قصة قصيرة وكانت محاولة فاشلة، كان هذا مجمل ما يمكن أن يصبح عملاً جاداً مما قمت فعلاً بوضعه على الورق طوال تلك السنوات”.
قصة متخيلة ملازمة للذهن..
يستمر “أورويل” في الحكي عن فترة طفولته وشبابه ورغبة الكتابة خلالها: “لكن طوال هذا الوقت كنت ضالعاً بمعنى ما في نشاطات أدبية، عدا واجبات المدرسة كتبت قصائد شبه هزلية وليدة اللحظة، إلى جانب هذا خلال 15 عاماً أو أكثر كنت أقوم بتمرين أدبي من نوع مختلف تماماً، كان عبارة عن اختلاق قصة مستمرة عن نفسي، نوع من المذكرة التي توجد في ذهني فقط، اعتقد أن هذه عادة شائعة لدى الأطفال واليافعين، اعتدت أن أتخيل وأنا طفل صغير أني (روبين هود)، أتصور نفسي كبطل مغامرات مشوقة، لكن قريباً جداً كفت قصتي عن أن تكون نرجسية بشكل فظ، وتحولت شيئاً فشيئاً لمجرد وصف لما كنت أفعل والأشياء التي رأيتها، هذه العادة استمرت حتى بلغت 25 عبر سنوات غير أدبية، على الرغم من أنه كان علي البحث، وقد بحثت، عن الكلمات المناسبة، بدوت كأنني أقوم بالمجهود الوصفي ضد إرادتي تقريباً، نتيجة قسر خارجي، وحسب ما أذكر فإن تلك القصة تحلت دائماً بالميزة الوصفية الدقيقة نفسها”.
بهجة الكلمات ونطقها..
عن استمتاعه بالكلمات وأصواتها يقول “أورويل”: “عندما كنت في 16 اكتشفت فجأة بهجة الكلمات المجردة، الأصوات وتداعي المعاني كانت ترسل رجفات في عمودي الفقري، أما الحاجة لوصف الأشياء كنت أعرف عنها كل شيء، إذ كان من الواضح لي نوع الكتب التي كنت أريد كتابتها، كنت أريد كتابة كتب طبيعية ضخمة مع نهايات غير سعيدة، مليئة بأوصاف مفصلة وابتسامات مكبوحة، وأيضاً مقاطع قرمزية حيث تستخدم الكلمات جزئياً من أجل أصواتها، وفي واقع الأمر إن روايتي الأولى (أيام بروميه)، التي كتبتها عندما كنت في الثلاثين، ولكن خططتها في وقت أبكر بكثير، هي بالأحرى من هذا النوع من الكتب”.
دوافع الكتابة..
يحدد “جورج أورويل” دوافع الكتابة لدى الكاتب، يقول: “لا اعتقد أن بالإمكان تقدير دوافع كاتب دون معرفة شيء عن تطوره المبكر، لأن الكاتب قبل أن يبدأ حتى بالكتابة سيكون قد اكتسب موقفاً عاطفياً لن يستطيع أبداً الهروب منه نهائياً، عند وضع الحاجة لكسب العيش جانباً اعتقد أن هناك أربعة دوافع للكتابة، على الأقل لكتابة النثر، توجد بدرجات مختلفة لدى كل كاتب، وعند كل كاتب ستكون النسب متفاوتة من وقت لآخر، حسب الجو العام الذي يعيش فيه والدوافع هي:
- حب الذات الصرف: الرغبة في أن تبدو ذكياً، أن يتم الحديث عنك، أن تذكر بعد الموت، أن تنتقم من الكبار الذين وبخوك في طفولتك.. إلخ، من الهراء التظاهر بأن هذا ليس بدافع، بل دافع قوي، الكتاب يتحلون بهذه الصفة إلى جانب العلماء والسياسيين والفنانين والمحامين والجنود، باختصار كل النخب الإنسانية، الغالبية العظمي من البشر هم أنانيون تماماً، بعد سن الـ30 يتخلون عن وعيهم بفرديتهم بالكامل، ويعيشون بشكل رئيس من أجل الآخرين، أو يسحقون ببساطة تحت وطأة العمل الكادح، لكن هناك أيضاً أقلية من الأشخاص الموهوبين والجامحين، المصممين على عيش حياتهم حتى النهاية، ينبغي على القول أن الكتاب الجادين هم في المجمل أكثر إختيالاً وأنانية من الصحافيين لكن أقل اهتماماً بالمال”.
- الحماس الجمالي: إدراك الجمال في العالم الخارجي، البهجة من تماسك النثر الجيد، أو إيقاع قصة جيد، الرغبة في مشاركة تجربة يشعر المرء إنها قيمة، ويتعين عدم تفويتها، رغم ذلك فالدافع الجمالي واهنً جداً عند الكثير من الكتاب.
- الحافز التاريخي: الرغبة في رؤية الأشياء كما هي، لاكتشاف حقائق صحيحة وحفظها من أجل استخدام الأجيال القادمة.
- الهدف السياسي: باستخدام كلمة سياسي بأشمل معنى، يعني الرغبة في دفع العالم في اتجاه معين، لتغيير أفكار الآخرين حول نوع المجتمع الذي ينبغي عليهم السعي نحوه، مرة أخرى لا يوجد كتاب يخلو من التحيز السياسي، الرأي القائل بأن الفن ينبغي ألا يربطه شيء بالسياسة هو بحد ذاته موقف سياسي”.
وعن كيفية توزع الدوافع الأربعة للكتابة في ذاته يقول “أورويل”: “بطبيعتي أنا شخص ترجح فيه كفة الدوافع الثلاث الأولى على كفة الدافع الرابع، في عصر مسالم ربما كنت سأؤلف كتباً منمقة، أو مجرد كتب وصفية، وربما كنت قد بقيت غير واع تقريباً بولاءاتي السياسية. لكن حياتي سارت في مسار مختلف، أولاً أمضيت خمس سنوات في مهنة غير مناسبة، الشرطة الإمبريالية الهندية في (بورما)، وبعدها مررت بالفقر والشعور بالفشل، وهذا زاد من كراهيتي الفطرية للسلطوية، وجعلني واعياً للمرة الأولى بوجود الطبقات العاملة، بينما اعطتني وظيفتي في بورما شيئاً من الفهم لطبيعة الإمبريالية، لكن هذه التجارب لم تكن كافية لمنحي توجهاً سياسياً دقيقاً، بعدها جاء (هتلر) والحرب الإسبانية الأهلية إلخ، بنهاية عام 1953 كنت ما زلت عاجزاً عن الوصول إلى قرار راسخ، وأحداث أخرى في عامي 1936 – 1937 أدارت كفة الميزان، ومنذئذ عرفت أين أقف”.
الانحياز السياسي في زمن الأزمة..
يواصل”أورويل” عن توجهه للكتابة ذات المغزى السياسي بسبب ظروف عصره، يقول: “كل سطر من العمل الجاد الذي كتبته منذ 1936، قد كتب بشكل مباشر أو غير مباشر ضد الشمولية، ومن أجل الديمقراطية الإشتراكية كما أفهمها، بدا لي عبثاً في زمن مثل زماننا الاعتقاد بأن المرء يمكن أن يتفادى الكتابة عن مواضيع كهذه، الجميع يكتب عنها تحت قناع أو آخر، السؤال ببساطة أي صف يتخذه المرء ؟.. وأية مقاربة يتبعها ؟.. وكلما كان المرء واعياً بتحيزه السياسي كلما حظي بفرصة أكبر للتصرف سياسياً دون التضحية بنزاهته الجمالية والفكرية”.
الكتابة السياسية كعمل فني..
يقول “أورويل” عن سعيه إلى جعل كتابته السياسية تحمل قيمة فنية: “أكثر ما رغبت به طوال السنوات العشر الماضية هو أن أجعل من الكتابة السياسية فناً، نقطة انطلاقي دوماً هي شعور حزبي، ووعي بالظلم، عندما أجلس لكتابة كتاب لا أقول لنفسي سوف أنتج عملاً فنياً، وإنما أكتبه لأن هناك كذبة أريد أن أفضحها، حقيقة أريد إلقاء الضوء عليها، وهمي الأول هو الحصول على مستمعين، لكنني ليس بإمكاني القيام بمهمة كتابة كتاب أو حتى كمقالة طويلة لمجلة لو لم تكن أيضاً تجربة جمالية، أي شخص سيتحمل عناء فحص عملي سيرى أنه حتى عندما يكون دعاية سياسية فجة سيتضمن أيضاً الكثير من الجماليات الفنية، مما سيعتبره سياسي محترف ليس ذا صلة، لست قادراً ولا أرغب في أن أتخلى كلياً عن منظور العالم، الذي اكتسبته في طفولتي، طالما بقيت حياً وبصحة جيدة سوف استمر بشغفي تجاه أسلوب النثر المنمق”.
ويضيف: “(مزرعة الحيوانات) كان الكتاب الأول الذي حاولت فيه بوعي كامل أن أمزج الهدف السياسي بالهدف الفني، كنت قد توقفت عن كتابة الروايات لسبعة أعوام، لكني كنت آمل بأن أكتب واحدة أخرى في وقت قريب، ورغم ذلك لا أحب أن أصور الأمر كما لو كانت دوافعي للكتابة متسمة بالروح العامة كلياً، لا أريد ترك هذا كانطباع أخير عني، كل الكتاب معتزون بأنفسهم وأنانيون وكسالى، وفي قاع دوافعهم يكمن غموض ما”.
الكتابة أمر غريزي..
في نهاية المقالة يصف “جورج أورويل” الكتابة بأنها عملية صعبة، يقول: “تأليف كتاب هو صراع رهيب ومرهق، كما لو كان نوبة طويلة من مرض مؤلم، لن يحاول المرء القيام بشيء كهذا أبداً لو لم يكن مدفوعاً بشيطان ما، هو ليس قادراً لا على مقاومته ولا فهمه، إذ أن الغريزة ذاتها قد تكون هي التي تجعل رضيعاً يصرخ من أجل أن يحظى بالانتباه، ومع ذلك فمن الصحيح أيضاً أنه ليس بوسع المرء كتابة شيء مقروء إلا إذا كافح باستمرار لطمس شخصيته ذاتها، فالنثر الجيد هو مثل زجاج النافذة، لا يمكنني القول بيقين أي دافع من دوافعي هو الأقوى، لكنني أعلم أيها يستحق أن يتبع، وعند استرجاعي لعملي السابق يمكنني أن أرى دون تباين أنه حيثما افتقرت للقصد السياسي كتبت كتباً بلا روح، وخدعت إلى مقاطع قرمزية، وجمل بلا معنى، وصفات تزينية وهراء بشكل عام”.