خاص : كتبت – سماح عادل :
في هذه الحلقة من الملف سنعرض كتاب (تجربتي في الأدب والحياة)؛ لـ”سومرست موم”، ترجمة “جعفر صادق الخليلي”.. “موم” كاتب إنكليزي امتاز أدبه بوضوح الرؤية، وتجسيد النظرة الواقعية في فهم الطبيعة الإنسانية، وبرز في ثلاثة من أهم فروع الأدب؛ “الرواية والقصة والمسرح”، كما أنه كتب في الرحلات، وفي النقد، ونشر المقالات، وألقى المحاضرات في غير تلك الفروع.. ولد “موم” في باريس 1874 وتوفى في جنوب فرنسا 1965.
الإنسان العادي مزرعة الكاتب..
في البداية يعلن “موم” عن تفضيله للكتابة عن الناس العادية، يقول: “لم أكن أرى الإنسان غاية في حد ذاته، وإنما كنت أراه مادة نافعة لي ككاتب.. فأنا أعني بالمغمور أكثر من عنايتي بالمشهور، فهو في الغالب يحكي ذاته، ولا يجد ما يدعوه إلى اصطناع شخصية مغايرة، يحتمي بها من العالم أو يؤثر بها فيه، بل أنه يكشف عما في نفسه من غرابة أطوار لأنها لا تبدو له فيها غرابة، الإنسان العادي هو الذي علينا نحن الكتاب أن نعالجه، فأصحاب التيجان، والطغاة، وملوك المال، لا يغنونا شيئاً، ولو أن الكتابة عنهم كثيراً ما اجتذبت الكتاب، غير أن الفشل الذي أصاب جهودهم دل على أن مخلوقات كهذه لا تصلح أن تكون أرضاً خصبة لعمل فني، فليس من اليسير إظهارهم على حقيقتهم، إن الإنسان العادي هو مزرعة الكاتب الغنية المعطاءة، إن فرديته فجائية، وتنوعه اللامحدود معين لا ينضب”.
الخلود..
عن حلم الخلود الأدبي بعد الموت يقول “موم”: “قليل من الكتاب من لا يبالي بمصير إنتاجه بعد موته، إن من الممتع أن يبقى المرء مقروءاً لبضعة أجيال، وأن يجد له مكاناً مهماً كان ضيقاً في تاريخ أدب بلاده، فالخلود الأدبي لن يدوم، على أية حال، سوى بضع مئات السنين، ومن ثم لا يكون سوى خلود في قاعات الدرس، كثير من الكتاب العظام توقعوا أن تعيش كتاباتهم طويلاً، وللأسف أصبحوا في طي النسيان، لا يتذكر أحد أعمالهم إلا في النادر وبغرض الدراسة”.
الكتابة غريزة..
تابع “موم” عن الكتابة، بقوله: “لقد بدأت الكتابة كأمر طبيعي مألوف عندي، ومع ذلك لم أتغلب، طوال حياتي، على اندهاشي من كوني صرت كاتباً، فلست أرى سبباً دعاني إلى أن أكونه سوى ميل لا يقاوم، كنت أرى الكتابة عندي غريزة طبيعية كالتنفس، لذلك لم أتريث للنظر فيما أكتب، جيداً أم رديئاً، ولم انتبه، إلا بعد سنوات عديدة، إلى أن الكتابة فن دقيق لا يأتي مطواعاً إلا بعد عناء ومشقة، تكشفت لي هذه الحقيقة عندما بدأت ألاقي صعوبة في نقل أفكاري على الورق، كنت أكتب الحوار بسهولة لكن أجد صعوبة عند محاولتي كتابة صفحة وصفية، فقررت أن أعلم نفسي الكتابة، أذهلني فقري في المفردات فقرأت بعناية كتب كثيرة، مدوناً تلك الجمل التي تلفت انتباهي، ومسجلاً قوائم بالكلمات الغريبة والجميلة، ورحت أدرس كتب الكتاب الكبار، استنسخ فقرات تعجبني ثم أعيد كتابتها من الذاكرة، وأبدل الكلمات أو أغير ترتيب الجمل، والجهد الذي بذلته أفادني، فقد بدأت أكتب أفضل من ذي قبل، واتجهت إلى الكتابة الخالية من الصنعة، على خلاف ما كان سائداً في ذلك الوقت، كان عندي الكثير مما أريد قوله بحيث لم يكن لي أن أبعثر الكلمات سدى، كان كل همي أن أدون الحقائق، لقد اعتقدت أنه إن عثرت على التعبير الدقيق أمكنني الاستغناء عن الكلمات المنمقة، وتخليت عن كل كلمة لم أجد وجودها لازماً لتوضيح المقصود، كنت على درجة كبيرة من دقة الملاحظة بحيث أرى أشياء خفيت على غيري، وكنت قادراً على التعبير عما أرى بوضوح، كنت أعرف أني لن أبلغ الكمال الذي أريده في الكتابة، إلا أنني كنت قادراً على إجادة الكتابة ببذل الجهد”.
الغموض..
يصف “موم” الغموض في الكتابة قائلاً: “لم أكن أطيق كتاباً يطلبون من القارئ أن يدرك بنفسه ما يرمون هم إليه، هناك نوعان من الغموض تجدهما عند الكتاب، أحدهما يعود إلى الإهمال، والآخر مقصود، فهناك من يكتنف الغموض كتاباته لأنه لم يتعلم كيف يكتب بوضوح، وسبب آخر للغموض هو أن الكاتب غير متوثق من معانيه، فشعوره بما يريد الكتابة عنه ضعيف، لا يستطيع أن يكون في ذهنه تعبيراً دقيقاً عنه، إما لضعف تفكيره أو لكسله، وهذا يرجع إلى أن الكاتب لا يفكر قبل الكتابة وفي هذا خطر”.
تناقض الشخصيات..
يقول “موم” عن كشفه للتناقض في الشخصيات الروائية: “اتهمت بأني أظهر الناس بأسوأ مما هم، لا أراني فعلت ذلك، بل كل ما فعلته هو أنني أبرزت سمات فيهم أغمض كثير من الكتاب عينهم عنها، أهم شيء لفت نظري في الكائنات البشرية هو افتقارهم إلى الثبات والمثابرة، لم أجد في حياتي فرداً واحداً متجانس الصفات، فلقد عرفت سفلة لا تنقصهم القدرة على التضحية بالنفس، ولصوصاً دمثي الأخلاق، لقد عنيت بالتناقض الذي رأيته في الناس، إني لم استهجن صراحة سيئات شخصيات رواياتي، بل امتدحت حسناتهم فحسب، لامني البعض على ذلك، وفي الواقع أنا لا تهزني آثام الآخرين، ما لم يكن لها تأثيرها الخاص علي، وحتى لو كان لها ذلك فقد تعلمت أن أعذرها، إنها خصلة حسنة ألا تتوقع الكثير من الناس، أنا لست قيماً على أحد، فقط اكتفي بملاحظة الناس، لقد اعتمدت في كتابتي على نماذج حية، وللأسف كان الأدب في بدايته يرسم أنماطاً من الشخصيات السطحية، التي تتصف بصفات أحادية، طيبة أو شريرة، عندما أخذ كتاب الرواية يكشفون عن التناقضات في أنفسهم وفي غيرهم اتهموا بأنهم يهينون الجنس البشري”.
الخيال..
يوضح “موم” عن خيال الكاتب واستغراقه في أحلام اليقظة: “لم يعوزني الموضوع أبداً، إن في ذهني من القصص أكثر مما لدي وقت لكتابتها، لا أقضي ساعة من الزمن بصحبة أحد الأشخاص إلا وأكون قد استخلصت ما يكفيني أن أضع عنه قصة واحدة على الأقل، وبالنسبة للكاتب فإن الاستغراق في التفكير الحالم أساس الخيال الخلاق، ومن خصائص الكاتب أن لا يكون هذا الاستغراق الحالم عنده هروباً من الواقع، كما هو عند غيره، بل أن يكون وسيلته للاندماج فيه، إن تخيلاته ذات هدف وهي تتيح له من المتعة ما تكون متع الحس إزاءها تافهة، فأحلام اليقظة، وخيالاته لابد وأن تؤكد حريته”.
ينصح “موم” الكتاب بالاستفادة من الكتب التي يقرأونها، يقول: “الأهمية الوحيدة للرواية في المعنى الذي تقدمه لك ككاتب، وقد تكون لها معان أخرى أهم عند الناقد، ولكنها لا تكون ذات نفع كبير، فأنا لا أقرأ الرواية لنفسها بل لنفسي، وليس من شأني أن أصدر حكم ما بل أن امتص منها ما يمكن، كما تمتص الامبيا ذرات جسم غريب، أما ما لا استطيع هضمه فلا شأن لي به، كما ليست هناك ضرورة أن يكون الروائي ضليعاً في كل الموضوعات إلا موضوعه بالذات، بل على العكس فقد يؤذيه ذلك، إن من الخطأ نصح الروائي أن يكون تقنياً أكثر من اللازم، على الروائي أن يلم بعض الإلمام بالمسائل الكبرى التي تشغل بال الناس، الذين هم موضوعه، ويجب تجنب التحذلق بأي ثمن”.
قراءة التراث الأدبي..
يلوم “موم” على بعض الكتاب الشباب إهمالهم لتراثهم الأدبي، يقول: “بعض الكتاب المبتدئين لا يعنيهم الاطلاع على ما أنتج أسلافهم، ظناً منهم أنهم تمكنوا من كل ما يلزمهم لمعرفة فن القص، بعد قراءة اثنتين أو ثلاثة من الروايات المعاصرة، صحيح أن الأدب المعاصر له جاذبية واضحة لا تجدها في الأدب الأقدم، وأنه من المستحسن للكاتب الناشئ أن يتعرف على ما كتبه معاصروه وكيف يكتبون، إلا أن للأدب أنماطاً، بحيث تصعب معرفة القيمة الفعلية لنمط في الكتابة يكون هو الرائج في حينه، فالتعرف على تراث الماضي من الأدب أفضل مقياس للمقارنة، الكاتب لن يكون خصب الإنتاج إلا إذا جدد ذاته، وذاته لن تتجدد إلا إذا ثابر على إغناء نفسه بتجربة جديدة، وليس هناك مصدر أغزر تجربة من التمتع بسحر آداب الماضي العظيمة، على الكاتب أن ينمي شخصيته عمقاً وتنويعاً بالتفكير وببذل الجهد، على الكتاب الشبان أن يقرأوا للعظماء من الأسلاف”.
بداية الكتابة..
يحكي “موم” عن بدايته “لقد بدأت بالكتابة أول ما بدأت بالمسرحية، كما يفعل أغلب الكتاب الناشئين وذلك لأن ترديد ما يقوله الناس أقل صعوبة من كتابة قصة، كنت انتقي التعبير الدارج بالغريزة، كتبت عدة مسرحيات لكنها لم تلق قبولاً، وخطر لي أن فرصتي الوحيدة لتمثيل إحدى مسرحياتي هي أن أنال الشهرة كروائي أولاً، فكتبت روايات حازت على نجاح كبير وأخذ الناس يرون في روائياً جاداً ينتظره مستقبل حسن، وبعد جهد وتركيز أصبحت مسرحياتي تعرض على المسارح، وتقبل الجمهور مسرحياتي بحماس ليس في بريطانيا وأميركا فحسب وإنما في القارة الأوروبية”.
ويواصل: “لقد كتبت روايتي الأولى مما عرفت أثناء ممارستي لمهنة الطب وسط الفقراء والكادحين، ولقد لاقى ذلك نجاحاً، ما ألفته من روايات خلال السنوات العشر الأولى من احترافي الكتابة كانت تمارين سعيت أن أتعلم بها مهنتي، من الصعاب التي تواجه محترف الكتابة أن عليه أن يكتسب خبرته على حساب القراء، إنه مدفوع للكتابة بغريزة داخلية، وفي رأسه تزدحم الموضوعات دون أن تكون لديه المهارة اللازمة لمعالجتها، وهو لا يجيد استغلال مواهبه لقلة خبرته وعدم نضجه”.
التركيز على الهدف والحذف..
يقول الكاتب عن الرواية الجيدة: “سر إجادة كتابة الرواية يلخص في مبدأين: لا تحد عن الهدف، واحذف ما استطعت، وذلك يتطلب فكراً منطقياص، واعلم أن الاستطراد مهلك، الأساس هو التشويق، والتشويق يعني الوسيلة التي بها يحملك الروائي على أن ترى نفسك معلقاً بمصائر أناس معينين تحت ظروف معينة، فيشدك إليهم حتى يصل بك إلى الحل النهائي، فإن سمح لك الروائي بأن تضل عن القصد الرئيس فأغلب الظن أنه لن يتاح له أن يأسر اهتمامك مرة أخرى، إن من طبيعة القارئ أن يكون اهتمامه بالأشخاص الذي يعرضهم الروائي أول ما يعرض في مطلع الرواية، بحيث إنه أن جلب انتباهه بعد ذلك إلى شخصيات آخري يدخلون إلى الرواية متأخرين فسيصاب بخيبة أمل، الروائي المتمكن يعرض موضوعه في أقرب وقت ممكن، وبالنسبة للحذف إن من الطبيعي أن تخطر للكاتب أحياناً فكرة رائعة أو عبارة بارعة تعجبه أيما إعجاب، بحيث يكون حذفها أقسى عليه من اقتلاع ضرس، وعندئذ يجب أن ينقش على قلبه هذا المبدأ: احذف ما استطعت، على الروائي أن يكبح رغبته في استخلاص أقصى ما يمكن من المشهد، أو أن يترك شخوصه يعرفون أنفسهم بكلام كثير، فالتلميح يكفي وحواره يجب أن يكون مختزل”.
الكتابة عمل دائم..
عن هاجس الكتابة الدائم يقول الكاتب: “الكتابة لا تبدأ عندما يجلس الكاتب إلى مكتبة، وإنما هو يكتب طوال اليوم، إذ يفكر ويقرأ ويعاني، فكل ما يراه وكل ما يحس به له أهميته، وسواء أشعر بذلك أم لم يشعر فإنه يجمع ويختزن ويكون انطباعاته، والكتابة عمل يجب أن يخصص له الوقت، الكاتب المحترف يتحكم في مزاجه، ويسمك بزمام الوحي بتقرير ساعات معينة للعمل فيتحول ذلك إلى عادة، والكاتب كأي شخص آخر يتعلم بطريقة التجربة والخطأ، فتكون انتاجاته الأولى تجريبية، منمياً في نفس الوقت شخصيته، ومع الزمن يكتشف نفسه وما عنده من عطاء، ويتعلم كيف يعرض هذا العطاء، ومن ثم بعد أن يكون قد امتلك زمام ملكاته ينتج أدباً جيداً، من المحتمل أن يعيش طويلاً، أما من حيث وجهة نظر القارئ فإن القليل مما ينتجه الكاتب طوال حياته يكون جوهرياً ومميزاً”.
الكتابة تحرر الروح..
يؤكد “موم” على أن يكون للكتابة هدف ذاتي يقول: “على الكاتب ألا يبالي بالمدح أو الذم، وينظر إلى عمله من حيث علاقته بذاته، فالكاتب يكتب لتحرير روحه، عندما ينتج الكاتب رواية يكون قد حقق نفسه، فالخلق الأدبي نشاط نوعي يكتفى به بمجرد ممارسته، والحكم للآخرون، أن أتاح لهم هروباً من الواقع سيرحبون به، وإن أغنى نفوسهم ووسع من إدراكهم فسيصفونه بأنه أدب عظيم، وعلى الروائي أن يستخدم خبرته بالناس ومعرفته بنفسه، وأعمق أفكاره ونزواته وأهواءه لكي يرسم في كل رواية صورة للحياة، لن تكون إلا صورة جزئية، ولكن إن حالفه الحظ فسينجح في آخر الأمر بعمل أفضل، بأن يرسم صورة كاملة لنفسه”.
الشخصيات والحبكة..
يشير الكاتب إلى انه “بالنسبة للشخصيات الروائية فيستمدها الكاتب من حياته، ومن تعامله مع الناس، لكنه لا يستنسخ الأصل وإنما يأخذ منه ما يريد، ويخلق انسجام مألوف يفي بالغرض، يأخذ صفات جسدية، أو سلوك ما، أو موقف من الحياة، أو حتى سلوكيات مذمومة، كنت دوماً ذلك الكاتب الروائي الذي يتخذ من نفسه أحد شخوص الرواية، فالعادة يسرت لي الحديث على ألسنة مخلوقات ابتدعتها، بإمكاني أن أقرر ما يفكرون به بأيسر مما أتحكم بما أفكر به أنا نفسي”.
ويضيف: “أما بالنسبة للحبكة ينبغي أن تكون متماسكة ومحتملة التصديق بما يتناسب وفكرتها، ويجب أن تكون ذات طبيعة تبرز تطور الشخصية، وأن تكون كاملة بحيث أن حل عقدتها في النهاية لا يستتبع مزيداً من الأسئلة عن شخوصها، وأن يكون لها بداية ووسط ونهاية، والروائي بإدارته حبكته إدارة بارعة يستطيع أن يجذب اهتمام القارئ حتى يغفل عن المناورة التي لعبت عليه، وعليه أن يسأل دائماً عما إذا كان ما كتبه له أية قيمة عند الآخرين، فالروائي يبني عالماً عاماً من عالمه الخاص، ويمنح الشخصيات نوعاً من الحساسية وقوة تفكير وقابلية عاطفية ليست له”.