كتبت – سماح عادل :
“أورهان باموق” روائي تركي.. ولد في إسطنبول عام 1952، وفاز بجائزة “نوبل” للآداب، في 2006، وهو ينتمي لأسرة تركية مثقفة، درس العمارة والصحافة ويعد أحد أهم الكتاب المعاصرين في تركيا، وقد ترجمت أعماله إلى 34 لغة.. سوف نتناول في هذه الحلقة كتابه (الروائي الساذج والحساس) ترجمة “ميادة خليل”.. الكتاب يضم محاضرات قدمها “باموق” في جامعة “هارفارد” 2009 عن الرواية.
يقدم “باموق” الكتاب واصفاً إياه بأنه: “كل متكامل يضم معظم الأشياء المهمة التي عرفتها عن الرواية”، وقد اعتمدت تلك المحاضرات على التمييز الذي وضعه “شيلر”، الشاعر الألماني المعروف، بين الشاعر الساذج والحساس في مقاله الشهير “عن الشعر الساذج والحساس”، هدف “باموق” من اختيار هذا المقال توضيح أفكاره حول الرواية من خلال تصنيف “شيلر”.
كيف تعمل عقولنا عندما نقرأ رواية ؟
اهتم “باموق” بتوضيح أن “الروايات حياة ثانية مثل الأحلام، تكشف لنا الروايات الألوان والتعقيدات في حياتنا، وهي مليئة بالناس، الوجوه، والأشياء التي نشعر بأننا نعرفها من قبل، تماماً مثل الأحلام، عندما نقرأ رواية نتصور أنفسنا في وسط الأحداث الخيالية والشخصيات، نشعر بأن عالم الرواية هو أكثر واقعية من الواقع نفسه، غالباً ما يعني هذا أننا نستعيض بالرواية عن الواقع، أو على الأقل نخلط بين الروايات والواقع، ولكننا لا نتذمر من هذا الوهم نحن نريد للرواية أن تستمر ونأمل بأن هذه الحياة الثانية تظل تستحضر فينا مشاعر متناغمة مع الواقع، والحقيقة بصرف النظر عن وعينا بالدور الذي يلعبه الخيال إلا أننا ننزعج إذا فشلت الرواية في تعزيز تصورنا بأنها حياة حقيقية بالفعل، فالإبداع الروائي يعتمد على قدرتنا على تصديق حالات متناقضة في وقت واحد”.
طرق قراءة الرواية..
يقول باموق: “تعلمت بواسطة التجربة أن هناك طرقاً كثيرة لقراءة الرواية، نقرأ أحياناً بمنطقية، أحياناً بأعيننا وأحياناً بمخيلتنا، وأحياناً بجزء صغير من عقلنا، أحياناً بالطريقة التي نريدها، وأحياناً بالطريقة التي يريدها الكاتب، وأحياناً نقرأ بكل خلية من كياننا، خلال فترة من شبابي سخرت نفسي تمام لقراءة الرواية، من عمر الثامنة عشرة إلى عمر الثلاثين من 1970 : 1982، كنت في شبابي وأنا أقرأ الروايات أفضل الصراع، التأثير، والثراء في المشهد، استمتع كثيراً بمراقبة الحياة الخاصة لشخص ما في الخفاء واكتشاف الزوايا المظلمة لعموم المشهد، أثناء لحظات الدخول إلى عالم الرواية كل شئ يعطل دخولي ويؤخر ذاكرتي وتصوري للشخصيات، وبينما عيناي تدقق في الكلمات بنفاذ صبر كنت أتمنى بمزيج من اللهفة والمتعة أن يأخذ كل شئ مكانه الصحيح، كل أبواب إدراكي تشرع على مصراعيها، وعقلي يبدأ العمل بسرعة أكبر، أكون تقريباً في حالة ذعر عندما أضع كامل تركيزي على الرواية لكي أتوافق مع العالم الذي دخلت فيه، أبذل قصارى جهدي لتصور الكلمات في مخيلتي، وتصور كل شئ وصف في الكتاب”.
ويواصل: “بعد مرور الوقت يسفر هذا الجهد عن النتائج، عندها يمكنني أن أرى الأشياء التي تتحدث عنها الرواية، المتعة الحقيقية في قراءة الرواية تبدأ من قابلية رؤية العالم، ليس من الخارج، ولكن من خلال عيون الشخصيات التي تستوطن ذلك العالم، عندما نشعر بأن المشهد داخل الرواية هو امتداد، جزء من الحالة النفسية لشخصيات الرواية، ندرك بأننا اندمجنا مع الشخصيات بانتقال سلس”.
الروائي الساذج والحساس..
يبين “باموق”: أن “بعض الروائيين لا يدركون الأساليب التي يستخدمونها، هم يكتبون بعفوية كأنهم يقومون بعمل طبيعي تماماً، بلا وعي للعمليات والحسابات التي ينفذونها في رأسهم، ولحقيقة أنهم يستخدمون الأدوات التي زودهم بها الأسلوب الروائي، دعونا نستخدم وصف ساذج لوصف هذا النوع من الإحساس، هذا النوع من الروائيين وقراء الرواية أولئك الذين لا يشغلون أنفسهم بالجوانب الفنية لكتابة وقراءة الرواية، ودعونا نستخدم كلمة حساس لوصف القراء والكتاب المفتونون بتصنع النص وعجزه في تحقيق الواقع، والذين يولون اهتماماً كبيراً للأساليب التي يستخدمونها في كتابة الرواية، والطريقة التي تعمل بها عقولنا عندما نقرأ، أن تكون روائياً هو الإبداع في أن تكون ساذجاً وحساساً في الوقت نفسه”.
وعن سذاجة الروائيين الأتراك يقول: “أنا أتذمر من سذاجة وطفولية الروائيين الأتراك من الجيل السابق، الروائيون الأتراك كتبوا رواياتهم بسهولة بدون قلق حول مشاكل الأسلوب والأداء الفني، الآن وبعد مغامرتي التي دامت خمسة وثلاثين عاماً في كتابة الرواية أحب أن استمر مع أمثلتي الخاصة، حتى عندما أحاول إقناع نفسي بأني قد وجدت توازناً بين الروائي الساذج والروائي الحساس في داخلي”.
المهام التي نقوم بها أثناء قراءة الرواية..
يعدد “باموق” تلك المهام في: “1 – أجواء الرواية هي شئ أكثر قيمة، سلوكنا المعتاد هو تتبع أحداث القصة ومحاولة اكتشاف المعنى والفكرة الرئيسة، عقولنا تبحث باستمرار عن الدافع، الفكرة، الهدف، والمحور السري. 2 – نحول الكلمات إلى صور في عقولنا. 3 – الجزء الآخر من عقولنا يتساءل كم من التجربة الحقيقية أخبرنا بها الكاتب وكم من الخيال. 4 – نصدر أحكاماً أخلاقية على اختيارات وسلوكيات الأبطال وفي نفس الوقت نقيم الكاتب على أحكامه الأخلاقية فيما يتعلق بشخصياته. 5 – عقولنا تنفذ كل تلك التعليمات في وقت واحد، وفي غضون ذلك نحن فخورون بأنفسنا لأننا اكتسبنا المعرفة، العمق، والفهم خاصة بالنسبة للروايات الجيدة، ذلك الوهم الجميل بأن الرواية كتبت فقط من أجلنا ينمو في داخلنا، والألفة والثقة التي تولد بيننا وبين الكاتب تساعدنا على التهرب وتجنبنا القلق الشديد حول أجزاء الرواية غير المفهومة أو الأشياء غير المقبولة. 6 – ذاكرتنا تعمل بشكل مكثف وبدون توقف في الراويات التي بنيت بشكل جيد، حيث كل شئ مرتبط ببعضه، مما يسهل على ذاكرة القارئ فهذه الشبكة من العلاقات تشكل أجواء الرواية وتشير إلى محورها السري. 7 – نحن نبحث عن لغز محور الرواية فالروايات تعتمد على اقتناعنا بأن هناك محور يجب البحث عنه أثناء القراءة، معنى عميق يختبئ وراء مكونات الرواية، فالرواية خيال ثلاثي الأبعاد وهي تجسد حلم تحقيق معرفة قيمة عن العالم والحياة، بدون الحاجة إلى حسابات فلسفية معقدة، فأنا كنت أقرأ الروايات في شبابي لجمع المعرفة عن العالم من أجل بناء نفسي وتشكيل روحي”.
مقارنة الكاتب ببطل الرواية..
يجزم “باموق” أنه “من الصعب بالنسبة للروائي إقناع القراء بعدم مقارنته مع بطل روايته، اتفق مع الذين يحذرون من محاولة فهم الرواية من خلال البحث في حياة الكاتب، فالدقة والوضوح وجمال التفاصيل وشعور “هذا ما حدث لنا” الذي يثيره لدينا الوصف وقدرة النص على إلهام مخيلتنا لإحياء المشهد، هذه هي الخصائص التي تجعلنا نعجب بالكاتب، واحدة من السمات المميزة للرواية أن الكاتب غالباً ما يكون حاضراً في اللحظات التي يجب أن ننساه فيها، وذلك لأن الأوقات التي ننسى فيها الكاتب هي الأوقات التي نصدق فيها أن عالم الرواية قد يكون بالفعل هو العالم الحقيقي”.
وعن تجربته يضيف: “لقد أسقطت تجاربي الخاصة على شخصياتي، ولا أشعر بالإحراج عندما يعتقد قرائي بأن مغامرات شخصياتي قد حدثت لي، لأني أعرف أن هذا غير صحيح، بالإضافة إلى ذلك لدي دعم من نظرية ارتباط الرواية بالخيال عمرها ثلاث قرون، لكن عندما يخبرني قارئ ذكي بأنه شعر أن تجربة الحياة الواقعية في تفاصيل أحد رواياتي كانت ألغام وضعتها بنفسي أشعر بالإحراج، مثل شخص كتب اعترافات قرأت من قبل شخص آخر، أنا مثل كثير من الروائيين كنت أريد مشاركة القارئ بأشياء كثيرة من تجاربي الحسية، وأردت التعبير عن هذه التجارب بواسطة شخصيات خيالية، علينا أن نعرف أن كل أعمال الروائي مثل مجموعة من النجوم يعرض فيها تجارب حياتية تعتمد على مشاعر شخصية”.
اندماج الروائي مع شخصياته..
يقول باموق: “الدافع الأساسي الأقوى الذي أشعر به عندما أكتب رواية هو حرصي على استكشاف جانباً من الحياة لم يصور من قبل، وأن أكون أول من وضع في كلمات مشاعر وأفكار وظروف الناس الذين يعيشون معي في الكون نفسه، ومروا بنفس التجارب سواء أكانوا أبطال رواياتي أقوياء أو ضعفاء مثلي، احتاجهم لاكتشاف عوالم وأفكار جديدة، فشخصية البطل الرئيس في روايتي تحدد بنفس الطريقة التي تتشكل بها شخصية الإنسان في الحياة، من خلال الظروف والأحداث التي يعيشها، والقصة أو الحبكة هي خط يربط بشكل فعال الظروف المختلفة التي أريد الحديث عنها”.
ويواصل: “اندمج مع شخصيات رواياتي كلعبة طفولية لكنها ليست ساذجة تماماً، بينما زاوية من عقلي منشغلة في ابتكار شخصيات خيالية، التحدث والتعامل مثل شخصياتي، زواية أخرى من عقلي تقيم الرواية ككل، تدرس التركيب العام، تقدر كيف سيقرأ القارئ، تشرح القصة والشخصيات، وتحاول التنبؤ بتأثير عباراتي، كل تلك الحسابات الدقيقة ترتبط بالجانب الإبداعي للرواية والجانب الحساس المتأمل للروائي، سبب آخر يجعلني أعشق كتابة الراويات هو أنها تدفعني إلى تجاوز وجهة نظري الشخصية لأكون شخصاً آخر، اندمجت مع آخرين وخرجت خارج حدود نفسي، واكسبني هذا شخصية لم أملكها سابقاً، فقد صنعت مني نسخة ممتازة ومعقدة”.
حبكة الرواية والزمن..
يستمر باموق: “حبكة الرواية هي الخط الذي يربط وحدات السرد الصغيرة والكبيرة غير القابلة للانقسام، والزمن في الروايات هو الزمن الشخصي للأبطال، فهؤلاء الكتاب المعاصرين الذين لا يرتبون بشكل خطي الأحداث في المشهد العام وفقاً لتسلسل الساعات والتقويمات، لكن وفقاً لذكريات الأبطال ودورهم في الرواية، وقناعاتهم ودوافعهم يصنعون قراء في كل أنحاء العالم، إن كتابة رواية تنطوي على جمع عواطف وأفكار كل شخصية مع الأشياء المحيطة بها ومن ثم ربطهم، نحن لا نفصل الأحداث عن الأشياء، الدراما عن الوصف، نحن نراهم ككل متكامل”.
اللغة اليومية..
عن رصد اللغة اليومية في الرواية يقول: “من الصعب تخيل رواية من غير قوة وإقناع اللغة اليومية، لأن اللغة اليومية هي القناة الطبيعية لتلك اللحظات العادية والمشاعر العشوائية التي يعتمد عليها عالم الرواية، مثلما تحافظ المتاحف على الأشياء الروايات تحافظ على النبرات وألوان اللغة، إنه التعبير بمصطلحات عامية عن أفكار الناس العادية، لا تحفظ الروايات الكلمات والعبارات اللفظية واللغة فقط ولكنها تسجل كيفية استخدامها في الحياة اليومية”.
رغبة القارئ في التميز..
يؤكد باموق على أن “الجهد الذي نبذله في القراءة وتصور الرواية يرتبط برغبتنا في أن نكون مميزين، وأن نفصل أنفسنا عن الآخرين، وهذا الشعور يربط رغبتنا في التميز مع شخصيات الرواية الذين يعيشون حياة مختلفة عن تلك التي نعيشها”.
علاقة الكاتب بالمجتمع..
عن البلدان غير الغربية يبين “باموق” الاختلاف: “المناطق اللاغربية الفقيرة من العالم ومن ضمنها تركيا مسألة من وما تمثل قد تكون كابوساً للروائيين، السبب أن الكتاب غالباً ما يأتون من الطبقة الارستقراطية، ويستخدمون الأنواع الأدبية الغربية المعروفة مثل الرواية، كما أن انتماؤهم الثقافي وارتباطهم بنموذج مختلف عن المجتمع وجمهورهم المحدود نسبياً كلها جعلت المشكلة تتفاقم، خلال خمسة وثلاثين عاماً كروائي واجهت كل هذه المواقف، تراوحت بين الفخر المفرط إلى نكران الذات المفرط، إنها استجابات تأتي من الأضرار الروحية التي لا يمكن تجاهلها ويتحملها الروائي في البلاد اللاغربية”.
ويصنف الروائيين بحسب علاقتهم بالمجتمع إلى “نوع من الروائيين يسلك سلوكاً متطرفاً تجاه القارئ الذي لا يحسب له حساباً، ويفتخر أنه لا يصل للنجاح من خلال اندماجه مع الآخرين، ولكن من خلال تصويره لعالمه الخاص، والنوع الثاني يصارع ليكون جزءاً من المجتمع، فالإثارة في طرح نقد اجتماعي، والإشباع الأخلاقي يمنحه الطاقة والقدرة على الكتابة، كما أنه يتوق إلى أن يكون محبوباً”.
محور الرواية..
يقدم “باموق” تفصيلاً أكثر عن محور الرواية والذي يعطيه الأهمية الكبرى: “محور الرواية هو رؤية للحياة، الروائي يعرف محور الرواية على أنه البديهية، الفكرة، أوالمعرفة التي تلهم العمل، لكنه يعلم أيضاً أنه أثناء عملية الكتابة هذا الإلهام يغير الاتجاه والشكل، غالباً يظهر المحور عندما تكتب الرواية، فالرؤية العميقة للحياة التي يرغب الروائي في عرضها تبرز من خلال الأحداث والشكل العام والشخصيات، كلها تتطور عندما تكتب الرواية”.
ويضيف: “قراءة وكتابة الرواية تتطلب منا دمج كل المواد التي مصدرها حياتنا ومخيلتنا، موضوع وقصة وشخصيات وأحداث عالمنا الخاص مع المحور، غموض موقع هذا المحور ليس شيئاً سيئاً، على العكس هذه هي الخاصية التي نحتاجها كقراء، لأنه إذا كان المحور واضحاً فإن معنى الرواية سوف يتضح على الفور، ونشعر أن فعل القراءة متكرر، إن سبب أننا ننتقل إلى الراويات الأدبية العظيمة عندما نبحث عن حكمة قد تمنح معنى للحياة هو أننا نفشل في عالمنا الحقيقي بالوصول إلى الشعور بالأمان”.
وعن المحور أثناء كتابة الرواية يقول: “بعض الكتاب يبدأون الكتابة بدون خطة واضحة، مدركين لحقيقة أن محور الرواية يظهر تدريجياً أثناء عملية البناء، وروائيون آخرون يتخذون قراراً بشأن محور الرواية منذ البداية، ويحاولون الاستمرار بدون أي تنازل، هذه الطريقة أصعب خاصة خلال كتابة مدخل الرواية، كما أن محور الرواية يعتمد على المتعة التي نستمدها من النص مثلما يعتمد على نية الكاتب، فأكبر انجاز للروائي كمحترف هو القدرة على بناء شكل الرواية على أنها أحجية ولغز يكشف حله محور الرواية”.
قراءة روايات عظيمة..
وفي الخاتمة يقدم “باموق” بعض الملاحظات هي: “أفضل طريقة لدراسة الرواية هي قراءة روايات عظيمة والرغبة في كتابة شئ مشابه لها – في كل رواياتي حاولت تحريك مخيلة القارئ البصرية وحاولت الالتزام بقناعاتي في أن الإبداع الروائي يتحقق من خلال القدرة البصرية – في المئة والخمسين عاماً الماضية قمعت الرواية الأشكال الأدبية التقليدية في كل بلد تظهر فيه لتصبح الشكل المهيمن في عملية مشابهة لتأسيس الدول القومية”.