بقلم محمد مختار ( باحث وكاتب) :
تمثل قضية الشرور قضية فكرة معقدة حار معها المفكرون في كل الأديان وليس في الإسلام فقط . فلماذا يخلق الله الشرور؟ لما يخلق المرض ؟ ولماذا يخلق شخصا قبيحا أو معاقا ؟ ولماذا خلق الله الفقر والعوز والمرض ؟ هل يخلقنا الله لنشقى على وجه الأرض ؟ ولماذ يخلقنا الله ثم يفرض علينا الموت في نهاية المطاف ؟ لماذا لم يخلقنا الله ويجعلنا نعيش للأبد منذ بداية الخلق وحتى نهايته ؟ وهل يعبأ الله بنا بعد أن يخلقنا ؟ يقول المولى سبحانه وتعالى في سورة الأنبياء : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) . جاء في تفسير السعدي حول هذه الآية : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ْ} وهذا يشمل سائر نفوس الخلائق، وإن هذا كأس لا بد من شربه وإن طال بالعبد المدى، وعمّر سنين، ولكن الله تعالى أوجد عباده في الدنيا، وأمرهم، ونهاهم، وابتلاهم بالخير والشر، بالغنى والفقر، والعز والذل والحياة والموت، فتنة منه تعالى ليبلوهم أيهم أحسن عملا، ومن يفتتن عند مواقع الفتن ومن ينجو، { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ْ} فنجازيكم بأعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ْ} وهذه الآية، تدل على بطلان قول من يقول ببقاء الخضر، وأنه مخلد في الدنيا، فهو قول، لا دليل عليه، ومناقض للأدلة الشرعية.
وجاء في تفسير الطبري في لتفسير قوله تعالى : ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ ) يقول: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة، وقوله ( وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) يقول: وإلينا يردّون فيجازون بأعمالهم، حسنها وسيئها. وفي موضع آخر من التفسير جاء في تفسير هذه الآية : ونختبركم أيها الناس بالشر وهو الشدة نبتليكم بها، وبالخير وهو الرخاء والسعة العافية فنفتنكم به. أما عن مشكلة خلق الشر فهى أم المشاكل التي عجز المفكرون ورجال الدين عن تفسيرها عبر التاريخ، واشتهرت هذه المشكلة في تاريخ الفكر الإغريقي باسم ( معضلة أبيقور )، وهي معتمدة على سؤال : (إذا كان الإله هو العادل و المثال الأعلى للخير , فلماذا توجد الشرور؟). يقول عباس محمود العقاد ”أما شبهة الشر فهي من أقدم الشبهات التي واجهت عقل الإنسان منذ عرف التفرقة بين الخير والشر وعرف أنهما صفتان لا يتصف بهما كائن واحد. ومن الإجابات التي حاول بعض المفكرين الإجابة من خلالها عن سبب خلق الشر هي أن وجود الخير وحده منفردا عن الشر يؤدي إلى نقض حرية الإرادة عند الإنسان. مع أن هذه الحرية نعمة عظيمة لا يمكن التنازل عنها. وقد يجاب بأن هذه مصادرة على المطلوب. فكون الحرية نعمة أعظم من نعمة الخير المحض المجرد عن الاختيار مما يحتاج إلى برهان، إلا في ظل تصور ديني متكامل، أما أفضل الإجابات الفلسفية حول معضلة أبيقور حتى الان هى الإجابة التي جاء فيها أن الشر هو تمام الخير، فلا معنى للذة الحاصلة بأصناف الخير المختلفة دون احتمال وجود أصناف الشر المقابلة لها. فأي معنى للكرم والشجاعة والهمة العالية دون وجود الفقر المحوج والخطر المخوف والعمل الشاق.
أما عن رحمة الله بنا وهل يعبأ الله بمن خلق فقد أكده النبى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لما خلق الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي، وفي رواية: غلبت غضبي، وفي رواية: سبقت غضبي متفق عليه. 9/420- وعنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: جعل الله الرحمة مئة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه. وفي رواية: إن لله تعالى مئة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تعالى تسعا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة متفق عليه. ورواه مسلم أيضا من رواية سلمان الفارسي قال: قال رسول الله ﷺ: إن لله تعالى مئة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم، وتسع وتسعون ليوم القيامة. وفي رواية: إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مئة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء إلى الأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة.
ويقول المولى سبحانه وتعالي في سورة غافر : وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ، ولكن مليارات البشر حول العالم وفي كل عصر يدعون الله سبحانه وتعالي ليفرج همومهم، فقراء ومرضى وأصحاب حاجات، منهم من يدعو بسد الديون عنه، أو من يدعو الله ليمن عليه أو على من يهمه أمره بالشفاء، ومن يدعو بتسهيل الرزق أو طلب الوظيفة أو حتى زواج البنات، ولكن معظم هؤلاء البشر لا يجدون استجابة للدعاء. ومع الأسف فالبعض يستغل عدم استجابة الله للدعاء أو تأخر الاستجابة في التشكيك في فكرة الإيمان نفسها، بل أن كثيرا من الشباب الذين عانوا من إحباط في حياتهم يبررون تحولهم للإلحاد بأنهم دعوا الله كثيرا فلم يستجيب لهم . وأن الله لو كان موجود لحقق أمنيات ولو الملايين من البشر من بين مليارات المؤمنين به في كل الأديان الذين يدعونه ليل نهار . فلماذا لا يستجيب الله لدعاء المؤمنين به ؟ وهل عدم استجابة الله للدعاء مبرر عقلي للإلحاد به ونكران وجوده ؟ وهل الله لا يعبأ بمن يدعونه ليل نهار؟ وما هى أسباب عدم استجابة الله لدعاء المؤمنين به؟ أولا فإن عدم استجابة الله للدعاء لا يعني أبدا عدم وجوده، فالمنطق العقلي يقول إن عدم رد شخص على دعوة توجه له لا تعني عدم وجوده بل تعني وجوده ومن الممكن ألا يرد على هذه الدعوة . كما أنه ليس هناك دليل على أن الله لم يستجيب لدعاء الملايين من البشر من المؤمنين به، كما أنه ليس هناك دليل من القرآن أو السنة النبوية على أن الله كتب على نفسه الاستجابة الفورية أو حتى الاستجابة الآجلة لكل من يدعوه في أى وقت، وتفسير كلمة (ادْعُونِي) في سورة غافر كما ورد في تفسير الطبري، ادْعُونِي بمعنى اعبدوني، وعن النعمان بن بشير, قال: سمعت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: ” الدُّعاءُ هُوَ العبادَةُ,( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )، والاستجابة المقصودة في الآية بمعنى المغفرة.
ولكن مع ذلك فقد ذهب جمهور من العلماء إلى أن هناك موانع لاستجابة الدعاء، وهى موانع دينية ومنطقية، وهو ما جاء في الحديث الشريف فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما: أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها. قالوا: إذاً نكثر. قال: الله أكثر، أيضا فإن من موانع عدم الاستجابة للدعاء أن يكون الدعاء بشئ مستحيل أو خارق للعقل، كأن يدعو الإنسان بسقوط منزل ليس آيلا للسقوط أو بالحصول على مبلغ خرافي من المال أو بالنجاح في عمل أو دراسة بدون أن يقدم الشروط المؤهلة لهذا النجاح. وفي نفس الوقت فإن من شروط استجابة الله للدعاء أن يكون دعاء المسلم وهو على يقين من استجابة الله سبحانه وتعالى له ، وفي الحديث: ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ. رواه الترمذي.