8 أبريل، 2024 1:45 م
Search
Close this search box.

لا مكان للأحلام الصغيرة.. الشجاعة والخيال وبناء إسرائيل الحديثة

Facebook
Twitter
LinkedIn

“لا مكان للأحلام الصغيرة”، هو العنوان الذي حملته مذكرات الرئيس الإسرائيلي الراحل شمعون بيريز، والمنشورة في 240 صفحة يوم 12 سبتمبر 2017 الماضي.
الطفل المهاجر
لم يكن حينها يحمل لقب “أبو الردع النووي الإسرائيلي“، بل كان مجرد طفل صغير يبلغ من العمر 11 عاما، حين هاجر من موطنه بولندا إلى إسرائيل، تاركًا وراءه عائلة كبيرة ستلقى حتفها لاحقًا في المحرقة.

مناصب رفيعة
لم يكن كثيرون في ذلك الحين يتوقعون أن يصبح هذا الشاب في نهاية المطاف أحد أبرز الشخصيات في القرن العشرين، ناهيك عن تقلُّده مناصب رئيس الوزراء ووزير الخارجية ورئيس الدولة فضلا عن رئاسة عدة وزارات أخرى داخل الدولة اليهودية.

بناء الجيش
كان دوره محوريًّا في بناء الجيش وصناعة الدفاع في إسرائيل، لتمكين الدولة الوليدة من امتلاك قوة ردع تحميها من الأخطار المحدقة بها. كما لعب دورًا حاسمًا في تدشين البرنامج النووي الإسرائيلي وإطلاق ثورة عالية التقنية تقودها الدولة الناشئة.

إنقاذ الاقتصاد
رفض الاستسلام للمعتقدات المعلَّبة والمعتقدات السياسية السائدة؛ فاستطاع إنقاذ الاقتصاد الإسرائيلي وأطلق بعض أكثر العمليات العسكرية جرأة في التاريخ، ومن بينها عملية عنتيبي التي سميت بالصاعقة ويطلق عليها العرض التعريفي بالكتاب وصف الأسطورة. وعلى الرغم من أهمية دوره في إنشاء الجيش الإسرائيلي، قام بيريز بنقلةٍ من معسكر الصقور إلى صفوف حمائم السلام، أو هكذا تحاول المذكرات بإلحاح أن تُصَوِّره.

عمل ختاميّ
في هذا العمل الختامي، الذي انتهى قبل أسابيع فقط من رحيله، يقدم بيريز دراسةً متعمِّقة لنقاط التحوُّل الحاسمة في التاريخ الإسرائيلي، من منظور شخصٍ كان صانع قرار وشاهد عيان. وهو على الأرجح كان يشعر بدنوّ أجله، بعد هذه الرحلة الطويلة، ويتوقع أن تكون مذكراته خاتمة كتاباته وبيانه النهائي على مسامع الدنيا التي خرج منها بخلاصةٍ مفادها “لا مكان للأحلام الصغيرة”.

كيف أصبحت إسرائيل دولة نووية.. الحكاية من البداية
الزمان: 24 أكتوبر 1956،

المكان: داخل فيلا في سيفر،

الحضور: القيادة الفرنسية والإسرائيلية،

الهدف: وضع اللمسات الأخيرة على خطط لعملية السويس.

وقف بيريز وبن جوريون في أحد باحات القصر الواسعة، الذي كان يومًا قاعة رقص ومتحفًا للفنون وصالونًا متقن التجهيز. أمامهما كان وزير الخارجية الفرنسى كريستيان بينو ووزير الدفاع موريس بورجيس-مونورى ينخرطان في محادثات عميقة لكنهما غير مشغولين. شعر بيريز بأن الفرصة سانحة، بل ربما تكون هذه هي اللحظة المثالية.

التفتَ بيريز إلى بن جوريون، وقال في همسٍ خافت: أعتقد أن بإمكاني الحصول عليه الآن. فرد عليه بإيماءةٍ خفيفة تعبيرًا عن تأييده. أخذ بيريز نفسًا عميقًا، واقترب من السادة الذين كانوا آنذاك من أصدقائه المقربين، وفاتحهما في مسألةٍ أثارت دهشتهما. “جئتُ لمناقشة أحد أكبر طموحات إسرائيل: دخول العصر النووي. ولتحقيق ذلك، سنحتاج إلى شيء من فرنسا- شيء لم يسبق لدولة أخرى في التاريخ أن قدمته لدولة أخرى”.

حلم بناء الردع
يتابع بيريز في مذكراته: “لم يكن اهتمامنا بالطاقة النووية جديدا. بل كان هذا الأمر يثير فضولي وبن جوريون على المستوى الفكري قبل تلك اللحظة المصيرية في سيفر بوقت طويل. ولم يكن أي منا خبيرا بالطاقة النووية، بل كنا- في أحسن الأحوال- مجرد شخصين متحمسين. وكان بن جوريون يرى أن العلم وحده يستطيع أن يعوضنا عما حرمتنا منه الطبيعة: فإذا لم تكن إسرائيل تمتلك نفطًا، وتفتقر إلى المياه العذبة الكافية، فإن بإمكان الطاقة النووية حل كلا المشكلتين. وقد كانت دول مثل فرنسا تستخدمها ليس فقط كمصدر موثوق للطاقة، ولكن أيضا كوسيلة لتحلية المياه المالحة. كما كان يعتقد، مثلي أيضًا، أن هناك قيمة فكرية واقتصادية كبيرة على أعتاب التكنولوجيا”.

لكن بيريز يعترف بأن العلم لم يكن هو المحرِّك الأكبر الذي دفعه في هذا الاتجاه، بل السياسة، واستنادًا لمقولة توماس هوبز في كتابه “اللفياثان”: “السمعة القوية = قوة”، كان المؤلف يعتقد بأن: “السمعة النووية = ردع”. لكنه لا يتوقف عند هذا الحد، بل يكمل رسم صورته التي تليق برجلٍ حصل على جائزة نوبل للسلام في عام 1994، على الرغم من أنه كان مسؤولًا في منظمة الهاجاناه الصهيونية، قائلا: “الردع، هو الخطوة الأولى على طريق السلام”.

ويردف قائلا: “في ذلك الوقت، جعل العالم العربي من العزم على إبادة إسرائيل اختبارا للقيادة؛ حيث كان سياسي أو جنرال في الشرق الأوسط يطمح إلى الترقّي عليه أولا أن يثبت أنه أكثر تصميمًا لتدميرنا من منافسه. وأعتقد أن زرع الشك في قدرتهم على فعل ذلك فعليا كان أوجب واجباتنا الأمنية”.

الحصول على موافقة الفرنسية
مع مرور الوقت، تحوَّلت محادثات بيريز مع بن جوريون من المربع النظري إلى الواقع العملي. وبدأ الرجلان يبحثان عما هو مطلوب بالضبط لتحقيق هذا الحلم، وتحديد حجم البناء والقدرات العلمية المطلوبة في ظل افتقار إسرائيل إلى المواد الخام والخبرة الهندسية اللازمة لبناء المفاعل. كانا بحاجة إلى مساعدة، وباعتبار فرنسا البلد الذي أقامت معه إسرائيل الصداقة الأوثق في ذلك الحين، رآى بيريز أن هذ هو الباب الذي ينبغي أن يطرقاه. وباعتبارها أكثر البلدان تقدما في أوروبا في المجال النووي؛ كانت تمثل أيضا أفضل خيار لهم. “والواقع أن الصناعة الفرنسية أنشأت فرقا من المهندسين والعلماء ذوي الخبرة الدقيقة، وكانت الجامعات الفرنسية أفضل مكان في العالم لدراسة الفيزياء النووية، وكان تحت تصرفهم كل ما تحتاج إليه إسرائيل لبناء مفاعل نووي”.

“قرر بن جوريون أن إثارة المسألة مع الفرنسيين لن يكون كافيا، بل كان عليّ تقديم طلبٍ صريح: بيع إسرائيل مفاعلًا نوويًا للأغراض السلمية. وكان هذا الطلب غير مسبوق، وتوقع بيريز أن يرفضه أصدقائه الفرنسيون؛ الذين كانوا يتعرضون بالفعل لخطر كبير يتمثل في انتهاك الحظر المفروض على بيع الأسلحة الغربية سرا لإسرائيل، بل لخطر أكبر يتمثل في إلحاق الضرر بعلاقات فرنسا مع حلفائها العرب والغربيين على حد سواء. ومع ذلك، شعر بيريز أن مثل هذا الاتفاق إذا كان ممكنا بين أي بلدين، فإنه سيكون ممكنًا بين فرنسا وإسرائيل، وبالتالي قرر خوض المحاولة.

بعد صدمتهما للوهلة الأولى من الطلب، استأذن بينيو وبورجيس-مونوري لمناقشة المسألة على انفراد في الآخر من الفيلا. في ذات اللحظة، كان موشيه دايان في غرفة مجاورة مع نظرائه الفرنسيين والبريطانيين، يصوغون بروتوكول سيفر الذي يتضمن أن نهاجم أولا. وكان جميعهم يعرف أن بن جوريون وافق على تلك الخطة فقط لتشجيع الفرنسيين. وكان بيريز يريد بورجيس-مونوري وبينو أن يتذكرا ذلك، وأن يستحضراه عند تقييم المخاطر الكامنة في طلبه منهم. ولدهشة بيريز شخصيًا، عاد الرجلان بعد لحظات قليلة، بإيماءةٍ تشير إلى الموافقة. وقال بينو: إنني على استعداد لصياغة الاتفاق على الفور.

معارضة شبه جماعية في إسرائيل
بعدما حصل بيريز وبن جوريون على تأييد بالإجماع من القيادة العليا الفرنسية، عادا إلى إسرائيل ليواجها معارضة شبه جماعية؛ حيث أصرت جولدا مائير على أن مثل هذا المشروع سيضر بالعلاقات الإسرائيلية مع الولايات المتحدة، في حين أثار إيسر هاريل، رئيس الموساد، المخاوف من رد الفعل السوفيتي. وتوقع البعض أن نتعرض لغزو بري، في حين تصور البعض الآخر شن هجوم ضدنا من الجو. وأعرب رئيس لجنة العلاقات الخارجية عن خشيته من أن يكون المشروع “مكلفا جدا بحيث يتركنا بدون خبز وحتى بدون أرز”، وهو اعتراف بأننا في عصر التقشف كنا لا نزال نكافح من أجل إطعام شعبنا. من جانبه، تعهد ليفي إشكول، وزير المالية آنذاك، بأننا لن نرى فلسا واحدا منه. ومن بين هذه المجموعة، لم يكن هناك خلاف سوى حول النتائج الكارثية التي كانت مرجحة أكثر.

لم تكن الاستجابة مشجعة في الأوساط العلمية؛ حيث سجل الفيزيائيون الإسرائيليون اعتراضهم على تشابك العمل العلمي مع العمل الحكومي الذي كانوا يخشون أن يخنق عملهم البحثي ويضر بسمعتهم الدولية، بل ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك واصفين مثل هذا السعي بأنه يفتقر إلى الحكمة وغير عملي.

يستحضر بيريز هذه التجربة الصعبة قائلا: كانوا يعتقدون كم أنا ساذج لأنني أعتقد أن دولة صغيرة جدا يمكن أن تضطلع بهذه المهمة الكبيرة جدا. لم يكونوا يعتبرونها رؤية بل وهمًا، ولم يكونوا على استعداد للتعامل معها بجدية. وعندما تواصلت مع معهد وايزمان، وهو أرقى معهد في إسرائيل، قال رئيس قسم الفيزياء إن أحلامي غير مسؤولة، وأكد أن مثل هذا الجهد سيقود إسرائيل إلى مسار قاتم وخطير. وتأكد من أنني فهمت أن معهده لن يلعب أي دور في كل ما أنوي فعله.

الابتكار.. قمة شاهقة صعبة التسلُّق
أدرك بيريز أن الابتكار كالقمة التي يصعب تسلقها، لكنه لم يكن يتوقع أن تحتشد الكثير من العقبات في مواجهته مرة واحدة: “لم يكن لدينا مال ولا مهندسين ولا دعم من مجتمع الفيزياء أو مجلس الوزراء أو القيادة العسكرية أو المعارضة. “ماذا سنفعل؟” سألني بن جوريون في وقت متأخر من أحد الليالي بينما نجلس بهدوء في مكتبه. لم نكن نمتلك سوى التعهد الفرنسي، وأنا وهو”.

لكن كل هذه العقبات لم تجعله يستسلم، وبدعمٍ من بن جوريون فكّر بيريز في تشكيل فريق من المهندسين الإسرائيليين الذين يمكن أن يعملوا جنبا إلى جنب مع نظرائهم الفرنسيين، كنوعٍ من تجنيد الجهود الذاتية. التقط الرجلان هاتفيهما وأجريا اتصالات عاطفية وشخصية (وسرية للغاية) مع بعض الجهات المانحة الأكثر موثوقية من جميع أنحاء العالم، وبعد فترة وجيزة، نجحا في جمع ما يكفي من المال لتغطية نصف تكلفة المفاعل، وكان هذا أكثر من كافٍ لبدء بناء فريق العمل.

يكمل الحكاية: “كنت أعرف أن الجيل القديم من الفيزيائيين كان معارضا بشدة لجهودنا، لكنني كنت أشك في أن بإمكاننا العثور من بين الطلاب والخريجين الشباب على أشخاص حريصين على دعم هذا المشروع الطموح”. وبعد أن أغلق معهد وايزمان أبوابه في وجه بيريز، طرق أبواب المعهد الإسرائيلي للتكنولوجيا في حيفا، والمعروف باسم تكنيون، وهناك وجد مجموعة من العلماء والمهندسين الذين كانوا حريصين على القيام بقفزة صوب هذا الحلم النووي.

تتابع المذكرات: الجزء التالي من التحدي لم يكن يتعلق أكثر بإقناع العلماء الشباب بالاشتراك، بل في مساعدتهم على إقناع أسرهم. حيث كنا نعتزم بناء المفاعل في النقب، بالقرب من بئر السبع، وهي البقعة التي كانت تبدو في ذلك الوقت مثل: نهاية العالم. وكانت عائلات الشباب الإسرائيليين مترددة في مغادرة مدينتي حيفا وتل أبيب الحديثتين والانتقال إلى صحراء قاسية ونائية. لذلك تعهدتُ لهم ليس فقط ببناء منشأة صناعية، بل ببناء مجتمع- بل في الواقع ضاحية كاملة في بئر السبع فيها ما يحتاجونه من أجل حياة مزدهرة: مدارس جيدة ومستشفى حديث وسوق حتى صالون لتصفيف الشعر”. بعد بعض التردد، وضعت العائلات ثقتها في المشروع، وبدأ العمل، فذهب الطلاب إلى فرنسا لدراسة الهندسة النووية. وبعد أحداث كثيرة مثيرة فصَّلها بيريز في مذكراته، وضع الفرنسيون خط ائتمان بقيمة 10 ملايين دولار تحت تصرف إسرائيل.

وفاء بالعهد مع جدي
يختتم بريز تعليقه على هذه الرحلة الشاقة قائلا: أخبرتُ كثيرين بأنني بنيت مفاعل ديمونا من أجل الوصول إلى أوسلو. ولم يكن الغرض خوض الحرب بل منعها. لقد أنفقتُ الكثير من شبابي في محاولة تأمين إسرائيل من أجل شعبها. لكن هذا كان نوعا مختلفا تمامًا من الأمن.

كان هذا الأمن نابعًا من معرفة أن هذه الدولة لا يمكن تدميرها أبدا- وهي الخطوة الأولى نحو السلام الذي يبدأ براحة البال. وبهذه الطريقة، شعرتُ بأن عملنا على ديمونا، وهو جهد لاحقته وصمة الفشل يومًا ما، قد أوفى بالعهد الذي قطعته مع جَدّي، لكن على نطاق أبعد: أن أبقى يهوديًا دائما، وأن أضمن بقاء الشعب اليهودي دائمًا”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معلومات عن الكتاب
الكتاب: لا مكان للأحلام الصغيرة.. الشجاعة والخيال وبناء إسرائيل الحديثة
المؤلف: شمعون بيريز
الناشر: كاستوم هاوس
تاريخ الإصدار: 12 سبتمبر 2017
المصدر: العالم بالعربية

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب