خاص: قراءة- سماح عادل
نستمر في هذا الملف عن حضارة مصر القديمة، ونستكمل القراءة في الجزء الأول من موسوعة “سليم حسن” الشهيرة ” موسوعة مصر القديمة”.
مينا وتوحيد البلاد..
يوضح الكتاب أنه اختلف المؤرخون في تحديد السنة التي بدأ فيها مينا حكم مصر، منهم من يرجع إلى سنة 4326 ق. م ومنهم من يذهب إلى أبعد من ذلك، ويضع تاريخ هذا الحدث في نحو 5000 سنة قبل الميلاد، وهناك مؤرخون يميلون إلى التاريخ القصير ويؤرخون هذا الحدث بعام 2900 ق. م، غير أن الآراء أصبحت متفقة على اتخاذ طريق وسط فجعل 3200 ق.م هو التاريخ المتفق عليه، وهذا التاريخ الذي بدأ فيه ملوك مصر المتحدة يحكمون البلاد يعرف ببداية التاريخ المصري عن “مانيتون”.
ملوك الأسرتين الأولى والثانية لم يتخذوا “منف” عاصمة لملكهم ولم يفكروا في نقل مقر ملكهم إليها، ويحتمل أن “منف” لم تكن يوما عاصمة المملكة المتحدة وأن الدور الذي لعبته في تاريخ البلاد كان أقل أهمية، فلم تتعد كونها قلعة حصينة، أما الملوك فإنهم استمروا في إقامتهم في الجنوب الأقصى، متخذين بلدة “نخن” مقرا لهم، ولذلك كانت أهمية “منف” الإشراف على بلاد الدلتا التي فتحت حديثا وضمت إلى ملك الصعيد.
و”منف” كانت ل”مينا” و”أخلافه” مركزا حربيا هاما لصد غارات اللوبيين الزاحفين من الجهة الغربية من الدلتا، وهؤلاء اللوبيين خضعوا بعد أن هزموا هزيمة منكرة، غير أن توحيد البلاد لم يكن قد تم إلا بعد أن توصل أحد أخلاف “مينا” إلى التغلب على الجزء الجنوبي الأقصى من بلاد النوبة، وهو الواقع بين السلسلة والشلال الأول، ويطلق عليه “تايتي”، وقد كان هذا الإقليم خارجا عن حدود المملكة المصرية الوجه القبلي طوال مدة عصر ما قبل الأسرات.
ولقد حافظت مصر المتحدة في كل عهودها منذ حكم “مينا” على ذكرى انقسامها إلى مملكتين، ولم يكن في وسع أحدهما أن تغير على الأخرى بل بقيتا على قدم المساواة، ولذلك نجد أن ملك مصر لا يحمل لقب ملك مصر بل ملك الوجه القبلي وملك الوجه البحري ولقب “رب الأرضين” وكان في أول الأمر يحمل التاج الأبيض الخاص بالجنوب والأحمر الخاص بالشمال، ولم يحمل التاج المزدوج إلا في أواسط حكم الأسرة الأولى .
مصادر التاريخ المصري القديم..
لم يصل كتاب خاص كتبه المصريون عن تاريخ بلادهم، فكل ما يعتمد عليه في تأليف تاريخ مصر هي النقوش التي وجدت على الآثار، وهي تنحصر في: أخبار الحروب التي قام الملوك بها، ثم النقوش الدالة على تاريخ أفراد من الأغنياء وترجمة حياتهم، ثم المراسيم الملكية التي كانت تنتشر في البلاد وهي في عدة نسخ، وكانت تكتب على الحجر في معظم الأحيان وتوضع في المعابد والمدن.
ثانيا: الأوراق البردية التي تحتوي على موضوعات إدارية أو قضائية أو أدبية، لم يصلنا شيء من الكتابات الدنيوية إلا قليلا بسبب أن المصريين أقاموا في الوجه القبلي مقابرهم ومعابدهم في الجبال وعلى حافة الصحراء، وشيدوها من الحجر الصلد أو نحتوها في الصخر، أما المدن التي كانت تقام في الوادي المزروع كانت تبنى باللبن وقد محيت أثاراها إلا بقايا قليلة.
ومن بين الوثائق الهامة في التاريخ المصري التي عثر عليها قوائم أسماء الملوك، ويرجع معظمها إلى عهد الدولة الحديثة، وأقدم هذه القوائم يرجع عهدا إلى حكم الملك تحتمس الثالث، وقد عثر عليها في المبني العظيم الذي أقامه بالكرنك في مدينة الأقصر، ويطلق عليه اسم قاعة الأعياد، وهذه القائمة مكتوبة على جدران حجرة يطلق عليها الآن حجرة الأجداد، وأحجار هذه القاعة الآن في متحف اللوفر، وقد وجدت فيها أسماء ملوك لم تظهر على القوائم التي عثر عليها في عهد الأسرة التاسعة عشرة، على أن قائمة “تحتمس الثالث” لم تكن أقدم وثيقة، بل نعلم أن هناك قوائم أخرى مشابهة لها، وهناك تواريخ أخرى أقدم وهذه التواريخ قد كتبت على لوحات من الحجر ونصبت في أماكن عامة، خاصة في المعابد.
وقد حفظ لنا جزء من لوحة هذه الآثار وهي تعرف بحجر “بلرم” ويرجع تاريخها إلى الأسرة الخامسة. وأهم من قائمة تحتمس الثالث قائمتا العرابة المدفونة في “ابيدوس” وسقارة، ويرجع تاريخ الأولى في عهد “ستي الأول” أي في أوائل الأسرة التاسعة عشرة، والثانية في عهد “رعمسيس الثاني”، وقد أراد “سيتي الأول” أن يخلد ذكرى أجداده في إحدى قاعات معبده في العرابة المدفونة، فبنى حجرة خاصة كتب على جدرانها قائمة بأسماء الملوك، وفي هذه القائمة أسماء أهم ملوك مصر مبتدئة ب”مينا”، ويلاحظ في هذه القائمة أن في أسماء الملوك الذين ذكروا ما قبل الأسرة الرابعة بعض الأخطاء، ولكن مع بداية الأسرة الرابعة نجد الأسماء المذكورة على القائمة متفقة تماما مع الأسماء التي ذكرت في القوائم الأخرى.
أما قائمة سقارة الملكية المحفوظة بمتحف القاهرة فإنها أقيمت في قبر الكاتب الملكي “تونوري” وهذه القائمة لا تبتدئ باسم “مينا” بل باسم خامس أخلافه “مربابا” أو “مربابن” وهو الذي يطلق عليه اليونان “ميبيس” في كتاب “مانيتون”، وهذه القائمة قد نقلت عن ورقة بردية غير أنه لم يراع فيها الترتيب التاريخي لكثير من الأسر المالكة.
وبجانب هذه القوائم المكتوبة على الأحجار وصلت وثيقة أخرى يطلق عليها اسم ورقة “توين” وهي من عهد الأسرة التاسعة عشرة، ولم يكتف فيها كاتبها بذكر أسماء الملوك بل ذكر السنين والشهور والأيام التي حكمها كل ملك،على أنه مما يؤسف له أن هذه الوثيقة لم تصل سالمة ولو وصلت لكانت أهم وثيقة، بل مزقت إلى قطع عدة ولم يتمكن العلماء من وضع كثير من قطعها في المكان الأصلي من الورقة، وبرغم الفجوات في ورقة “تورين” فانه يذكر فيها عدد كبير من الملوك النكرات لم يهتد العلماء إلى وضعهم في مكانهم التاريخي، وبخاصة الملوك الذين جاء ذكرهم في هذه الورقة بين الأسرة الثانية عشرة والأسرة الثامنة عشرة، والقوائم الأخرى قد ذكرتهم بطريقة مختصرة، وهذه الورقة وغيرها تعد من القوائم التي استعملها “مانيتون” السمنودي في القرن الثالث قبل الميلاد وكذلك “ارستوستين”.
وهناك مصدر آخر وهو ما عثر عليه من الآثار في الممالك المجاورة، سواء كانت هذه الآثار مصرية الأصل نقلت إلى هذه البلدان، أو أثارا خاصة بالبلاد التي وجدت فيها، مثل الآثار التي وجدت في جزيرة كريت من الأسرة الثانية عشرة، وكذلك أثار في فلسطين وسوريا أو بلاد ما بين النهرين من عهد الأسرة الثامنة عشرة.
بقيت المصادر التي يعتمد عليها في تدوين تاريخ مصر منحصرة فيما نقله لنا الكتاب الإغريق والرومان وغيرهم إلى أن كشف “شامبليون” عن أسرار اللغة المصرية ومن ثم أخذ العلماء يستقون مصادرهم عن تاريخ مصر من النقوش مباشرة.
أهم الكتاب الذين كتبوا عن مصر أول مؤرخ إغريقي كتب عن مصر هو “هيكاته الملاطي” عاش عام 550 ق. م، وزار مصر وتباحث مع الكهنة المصريين في طيبة عندما كان يضع شجرة الأنساب وتاريخه للوبيا، وبعده “هرودت” حوالي 450 ق. م وقد خصص الجزء من تاريخه العام لوصف مصر وتاريخها وقد زار مصر كلها، وقد أخبره الكهنة أن “مينا” هو أول ملوك مصر ثم عددوا أسماء 340 ملكا، وقالوا له أن ما بين أول ملك وآخر ملك 341 جيلا من الناس، وأن كل ثلاثة أجيال تعادل مائة سنة أي أن تاريخ البشر عندهم يبلغ نحو 11340 عاما، وقبل هؤلاء الملوك كان يحكم الآلهة مصر وقد كان وصف “هردوت” قد جاء في صورة حية للحياة الاجتماعية والآثار التي شاهدها وفي أوائل عهد البطالسة. ظهر المؤرخ “هيكاته الأبدري” في بلاط بطليموس الأول ووضع كتابا غير أنه لم يصل منه غير مقتطفات قصيرة أشار إليها “ديدور” في كتابه.
وفي هذا العصر كان يعيش كذلك “مانيتون” السمنودي وهو أهم المؤرخين الذين كتبوا عن مصر، وقد أخبرنا المؤرخ اليهودي “جوزيف” أن “مانيتون” كان مصري الجنس وكان كاهنا عظيما وكاتبا في المعابد وماهرا في لغة بلاده وفي اللغة الإغريقية أيضا، وقد أمره بطليموس الثاني أن يضع مؤلفا عن مصر فقام “مانيتون” بذلك وحاول أن يضع أمام الإغريق صورة حقيقية عن تاريخ مصر، منقولة عن النقوش المصرية، ويرجع عهد كتابة هذا التاريخ إلى ما قبل عام 270 ق. م، ومما يؤسف له أن هذا التاريخ قد وصلت منه أجزاء مختصرة عن طريق المؤلف “جوزيف” اليهودي، الذي ولد عام 37 م فقد ألف مقالا للرد على “ابيون” النحوي الاسكندري الذي كان يبغض اليهود، فرد عليه “جوزيف” بأن هؤلاء اليهود هم الهكسوس الذين هم من نسل يعقوب ويوسف، وقد دخلوا مصر فاتحين وليسوا عبيدا، ولكي يؤيد رأيه نقل حرفيا بعض المقتطفات عن “مانيتون” في الفصل الخاص بالهكسوس وطردهم من مصر على يد ملوك الأسرة الثامنة عشرة، وشفع ذلك بجدول يحوي أسماء الملوك من عهد “تحتمس الأول” إلى عهد “رعمسيس الرابع” وعددهم 21 اسما مع ذكر سنين حكمهم والشهر الذي حكم كل منهم فيه.
ومن المحتمل أن “جوزيف” لم ينقل ذلك مباشرة عن “مانيتون” نفسه بل يحتمل أنه نقله عن المختصر الذي وضعه المؤرخون نقلا عن “مانيتون”، على أن هذا المختصر أخبرنا على الأقل أن “مانيتون” قد وضع جدولا تاما لأسماء الملوك من أول “مينا” إلى عهد البطالسة، مع ذكر تواريخ مضبوطة لحكم كل منهم.
ولذلك بقى مختصر “مانيتون” وهو لا يزيد عن جدول بالأسماء الملوك والأسرات مع ذكر بعض حقائق مختصرة، المصدر الأصلي لكتاب العصر المسيحي عن تاريخ مصر إلى أن كشف عن أسرار اللغة المصرية، وأهم هؤلاء الكتاب “سكستس جوليوس افريكانوس” وقد نقل المختصر في كتابه التاريخي الذي وضعه حوالي عام 220 ميلادية، ويأتي بعده “يوزيب” 270-340 ميلادية وله كتاب تاريخ محفوظ باللغة الإغريقية والأرمينية وقد نقل عن المختصر من بداية الأسرة السابعة عشرة ولكن من نسخة أخرى تختلف عن تلك التي تنقل عنها “سكستس”.
وحوالي أوائل القرن التاسع الميلادي ألف “جورج” المسمى “سينسل” كاتم أسرار بطريق الإسكندرية تاريخا نقله عن “يوزيب” و”سكستس” وقد رأى المؤلف أن كتاب “مانيتون” ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وأن الملوك كانوا مقسمين إلى 31 أسرة، كل منها تنسب إلى جهة معينة في البلاد حسب أصل كل منها، والمتن الأصلي يعطينا السنين والأشهر والأيام التي حكمها كل ملك، ولا يذكر المختصر إلا الملوك المشهورين، وقد بقى ترتيب الأسرات الذي وضعه “مانيتون” الأساس الذي يعتمد عليه كل مؤرخ حديث في الكتابة عن مصر. ويأتي بعد “مانيتون” مؤرخ عظيم اسمه “ديدور الصقلي” الذي ألف كتابا عن مصر لم يضيع، وقد وضع تاريخا عاما وعند كتابته عن أصل العالم قاده البحث إلى مصر وقد زار وادي النيل عام 60 ق. م.
وقد جاء إلى مصر كثير من الجغرافيين الإغريق وبحثوا في مصر في عهد البطالسة، ومن أهم هؤلاء “ارستوستين السيريني” الذي كان يعيش في الإسكندرية 275 – 194 ق.م
أما المؤرخ “بلوتارخ” 120 م فقد كتب كتاب “ازيس واوزير” وهو الكتاب الوحيد الذي وضع بحثا منظما عن الديانة المصرية ومعلوماته تطابق ما دون في النقوش المصرية القديمة