خاص: قراءة- سماح عادل
في ملف (الحضارة المصرية القديمة)، نواصل قراءة الكتاب الثاني في (موسوعة مصر القديمة) للكاتب المصري “سليم حسن”.
أدب الدولة القديمة..
يؤكد الكتاب على أنه لم تكشف لنا الآثار عن أي نوع من الأغاني والأناشيد والأحاديث المنظمة من عهد الأسرة الأولى، ولكن يجب أن نسلم بأنها كانت موجودة، والواقع أنه يوجد كثير من التراكيب الشعرية في لغة العصر التاريخي مما ترجع نغماتها إلى العصر السحيق عصر الدولة القديمة.
منتخبات من متون الأهرام..
هذه المتون تهتم برغبة المتوفى الأعظم “الملك” في الابتعاد عن تمضية حياة مظلمة في العالم السفلي، فهذا المتوفي الأعظم لابد وأن يكون مصيره أن يعيش في السماء كما تعيش الآلهة، وهناك يمكنه أن يسبح مع إله الشمس في سفينته أو يسكن حقول المنعمين، أو يمرح في حقول قربان الطعام أو حقل “يارو” ومن الممكن أن يصير هو نفسه إلها.
وقد تفنن الشعراء في تصوير هذا الدور، فلم يكتفوا بتصوير الملك في أروع مظاهر الاستقبال من الآلهة بل رفعوه إلى مرتبة الغزاة الفاتحين لعالم السماء، وتتصل بهذه الفكرة فكرة أخرى لها علاقة بالإله أوزير، الذي يعتبر المثل الأعلى للموتى من بني الإنسان، فقد قتل مرة ثم أعيد إلى الحياة وصار حاكما للأموات، وهو بهذه الكيفية يعتبر في متون الأهرام ساكن السماء. ولغة متون الأهرام عتيقة وما يزال فهمها محفوفا بصعوبات عظيمة، إذ تشير إلى حوادث وأساطير غير معلومة لنا وخاصة الأساطير الدينية.
تعاليم فتاح حتب..
تعد تعاليم “فتاح حتب” أقدم مصدر في أدب العالم صور لنا الخلق المستقيم، وكما جاء في مقدمة هذه التعاليم أن الوزير المسن قد شعر بضعف الشيخوخة، وطلب إلى الملك أن يسمح له بتعليم ابنه “ابن الوزير” ليحل محله في وظيفته، ومن أقواله: “لا تكونن متكبرا بسبب معرفتك، ولا تثقن بأنك رجال عالم، فشاور الجاهل والعاقل، لأن نهاية العلم لا يمكن الوصول إليها، وليس هناك عالم يسيطر على فنه تماما، وأن الكلام الحسن أكثر ندرة من الحجر الأخضر الكريم، ومع ذلك فإنك تجده مع الإماء اللائي على أحجار الطواحين”.
ثم 42 فقرة تشتمل على نصائح مختلفة، تتناول أدب السلوك في الضيافة، والأمانة في إبلاغ الرسائل، وتخصيص وقت للترويح عن النفس، وفي معاملة الابن، والتحذير من الاعتداء على نساء الغير، والتحذير من الشراهة والطمع، والحذر أثناء التحدث، كما أن هناك نصائح وتعاليم أخرى يرجع عهدها إلى الدولة القديمة لكن النسخ التي وصلت محرفة، كتبت في عصور متأخرة، وأهمها تعاليم “كاجمني” وتعاليم “دواوف”.
أغاني العمال..
الرعاة في الدولة القديمة كانوا يغنون وهم يعملون، وكذلك الصيادون وحاملي المحفة، كما أنه عندما كان أهل المتوفي يولمون وليمة للمتوفي في قبره، كانوا يغنون أيضا، وقد حفظ لوح قبر من العهد الإقطاعي بداية إحدى هذه الأغاني: “أه يأيها القبر، لقد أقمت للأفراح، لقد أسست لما هو جميل”.
ولدينا أغنية كاملة، تلفت النظر، كانت تغني في مثل هذه المناسبات، وهي تصف زوال كل الأشياء الدنيوية لتحث السامعين على التمتع بأكثر ما يمكن مدة حياتهم، وهي مأخوذة من قبر الملك “أنتف”، وتوجد صورة كاملة منها بين أغاني الدولة الحديثة: “ما أسعد هذا الأمير الطيب، والمقدر الجميل قد وقع، تذهب أجسام وتبقى أخرى منذ عهد الذين كانوا من قلبنا، والآلهة الذين وجدوا في الزمن الغابر راقدون في أهرامهم، والذين بنوا بيوتا قد أصبحت مساكنهم كأن لم تكن، فماذا جرى لهم؟، ولم يأت أحد من هناك ليحدثنا كيف حال من قبلنا، ويخبرنا عما يحتاجون إليه لتطمئن قلوبنا، قبل أن نذهب نحن كذلك إلى المكان الذي ذهبوا إليه. كن فرحا حتى تجعل قلبك ينسى أن القوم سيحتفلون يوما ما بموتك، فمتع نفسك ما دمت حيا، وضع العطر على رأسك والبس الكتان الجميل، ودلك نفسك بالروائح الذكية المقدسة. وزد كثيرا في المسرات التي تملكها ولا تجعلن قلبك يكتئب، اتبع رغباتك وافعل الخير لنفسك افعل ما تميل إليه على الأرض، ولا تغضبن قلبك حتى يأتي يوم نعيك، ومن ذلك فإن صاحب القلب الساكن لا يسمع عوليه، وإن الصياح لا ينجي إنسانا من العالم السفلي”.
ازدهار الأدب المصري في العقد الإقطاعي..
كان لانحلال السلطة الملكية، وتأليف مقاطعات صغيرة مستقلة في نهاية الأسرة السادسة، أثر عميق في رجال الفكر، فقد أسعفنا رجال الفكر بوثائق كشفت حقيقة حالة البلاد النفسية والمادية والسياسية، ويمكن اعتبار هذا العصر أزهر عصور الأدب في كل تاريخ مصر، وأهمم هذه الوثائق: (تحذيرات نبي – تعاليم الملك خيتي لابنه مري كارع).
شكاوى الفلاح الفصيح..
هناك أربع نسخ من كتاب أطلق عليه علماء الآثار “شكاوى الفلاح”، ويرجع تاريخ كتابتها إلى عهد الدولة الوسطى، وهذا الكتاب مثال للفصاحة فتعابيره غاية في الرشاقة والبلاغة، وموضوعه أن شخصا فصيحا ألقى تسع خطب في ثوب شكاو من أبدع وأورع ماقيل، ومحور هذه الخطب مدح العدل وذم دناءة الموظفين، وقد وقعت أحداث هذه القصة في عهد الملك “نب كاو رع” أحد ملوك هراكليوبوليس، ويحمل لقب “خيتي” وقد حكم البلاد في نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد.
وتتلخص الحكاية في أن فلاحا من مقاطعة الفيوم وجد مخازن غلاله تكاد تكون خاوية، فحمل حميره محصولات قريته واتجه نحو اهناس طلبا للمبادلة بالغلال، ومر على منزل “تحوتي نخت” أحد موظفي “رنزي” الذي كان المدير العظيم لبيت الملك، وقد راقت هذه الحمير في عين “تحوتي نخت” فدبر حيلة للاستيلاء عليها عنوة، فاتخذ من أكل أحد الحمير بضع سيقان من القمح سببا لضرب الفلاح ضربا مبرحا والاستيلاء على حميره، وقد مكث الفلاح بباب “تحوتي نخت” أربعة أيام يرجو فيها إرجاع حميره.
ولما علم بشهرة عدالة “رنزي” ذهب للمدينة ليشكو له: “يا مدير البيت العظيم، يا سيدي، يا عظيم العظماء، يا حاكما على ما قد فنى ومالم يفن، وإذا ذهبت إلى بحر العدل وسحت عليه في نسيم عليل، فإن الهواء لن يمزق شراعك، وقاربك لن يتباطأ، ولن يحدث لساريتك ضرر، ومرساك لن يكسر، ولن يغوص قاربك حينما ترسو على الأرض، ولن يحملك التيار بعيدا، ولن تذوق أضرار النهر، ولن ترى وجها مرتاعا، والسمك القفاز سيأتي إليك، وستصل يدك إلى أسمن طائر، أنك أب لليتيم، وزوج للأرملة، وأخ المهجورة، ومئزر لذلك الذي لا أم له، دعني اجعل اسمك في هذه الأرض، فوق كل قانون عادل، فتكون حاكما خلوا من الشره، وشريفا بعيدا عن الدنايا، ومهلكا للكذب ومقيما للعدل. اكشف عني الضر، انظر إلي أن حملي ثقيل، اختبرني إني ضعت”.
وقد ذهب “رنزي” أمام الملك “نب كاورع” وقال: “سيدي لقد عثرت على أحد هؤلاء الفلاحين، وفي الحق أنه فصيح، وهو رجل قد سرق متاعه، وانظر أنه قد حضر ليتظلم لي من أجل ذلك”. وقال الملك: “بقدر ما تحب أن تراني في صحة دعه يتباطأ هنا، دون أن تجيب عن أي شيء يقوله، ولأجل أن نجعله يستمر في الكلام الزم الصمت، ثم مر بأن يؤتى بذلك مكتوبا حتى نسمعه، ولكن مد زوجته وأطفاله بالمؤونة، ثم انظر لابد وأن يأتي أحد الفلاحين وذلك بسبب فقر بيته، وزيادة على ذلك مد هذا الفلاح نفسه، فلابد أن تأمر بإعطائه الطعام، دون أن يعلم أنك أنت الذي أعطيته إياه”. وعلى ذلك تم إعطاء الفلاح عشرة أرغفة وإبريقين من الجعة كل يوم.
وفي الشكوى الثامنة يقول الفلاح: “إن الناس يتحملون السقوط بسبب الطمع، والرجل المغتال يعوزه النجاح، ولكنه ينجح في الخيبة، إنك جشع وذلك لا يتفق معك، إنك تسرق وذلك لا يليق بك، أنت يا من يسمح للإنسان بأن تشرف على قضيته الحقة، ذلك لأن ما يقيم أودك في بيتك، ولأن جوفك قد مليء، ولأن مكيال القمح قد طفح، فإذا هز طفح وضاع على الأرض، آه أنت يا من يجب عليه أن يقبض على اللص، ويا من يبعد الحكام وقد نصبوا ليردءوا السوء، وهم حمى للمعوز، وليس الخوف منك هو الذي يجعلني أشكو إليك. إنك لا تبصر ما في قلبي، وإنه لإنسان صامت من يجعله يرتد دائما عن توبيخك، ولا يخاف ممن يطالبه بحقوقه، إنك تملك قطعة أرضك في الريف، ومكافأتك في ضياع الملك، وخبزك في المخبز، والحكام يعطونك ومع ذلك تغتصب، هل أنت لص؟ هل يؤتى لك بجنود لتصاحبك عند تقسيم قطع الأرض؟. اقم العدل لرب العدل، الذي أصبحت عدالته موجودة، إنك لا ترق، إنك لا تظهر الرحمة، ولا تعطني مكافأة على تلك الخطب التي تخرج من فم رع نفسه. هل الميزان يحيد؟”.