خاص: قراءة- سماح عادل
في ملف (الحضارة المصرية القديمة)، نواصل قراءة الكتاب الثاني في (موسوعة مصر القديمة) للكاتب المصري “سليم حسن”.
فنا النقش والنحت في عهد الدولة القديمة..
بدأ الفنان المصري منذ عصر ما قبل الأسرات يظهر مهارة في حفر الصور والأشكال المختلفة على الأحجار الصلبة والهشة، على أن الكتابة المصرية نفسها كانت أكبر مساعد للمصري لينبغ في فني الرسم والنقش، لأن طرق كتابتها وتعدد رموزها يحتاج لمهارة عظيمة، والكتابة كلما كانت إشاراتها أقرب محاكاة للطبيعة كان جمالها أبهى وأعظم، ويمكننا أن نتتبع الخطوات التي خطتها الكتابة المصرية القديمة تدريجيا نحو الرقي مما نشاهده على أختام الموظفين في ذلك العصر، واستمرارها في طريق الإتقان حتى بلغت القمة في عهد الأسرتين الرابعة والخامسة، إذ كانت تظهر الحروف المنقوشة على الأحجار في مقابر عظماء الدولة، وكان كل حرف منها بمثابة قطعة فنية فريدة، إذ كان الفنان يحاكي الطبيعة في الطيور والأشكال المختلفة التي تتألف منها إشارات الكتابة المصرية القديمة.
كم أن أكبر مجال أظهر فيه الفنان المصري براعته في النقش والتصوير هي المناظر التي مثلها على جدران مصاطب الدولة القديمة، وفي معابد ملوكها وكانت بداية هذه النقوش ما كان يكتب على اللوحة التي كانت توضع أمام قبر المتوفي، إذ كان يقتصر فيها أولا على صاحب القبر، ثم أخذت تتدرج شيئا فشيئا بتطور نظام الأسرة الاجتماعي حتى أصبحت تنقش كلها برسوم ومناظر، تمثل صاحب القبر وزوجته وأسرته، ولما نمت الاعتقادات الدينية وازدادت ثروة البلاد الداخلية، أصبح القبر مؤلفا من عدة حجرات نقش على جدرانها رسوم ومناظر، تمثل مواضيع مختلفة عن الحياة.
وهذه الرسوم في البداية كان لها وظيفة نفعية محضة، ولكي نفهم هذه المنفعة يجب فهم الاعتقاد الديني الذي من أجله كانت تنقش هذه المناظر على الجدران، وتفسير ذلك أن المصري كان يعتقد أنه سيحيا حياة ثانية داخل القبر، وكان يعتقد أن الإنسان مركب من عناصر مختلفة، نذكر منها الجسم المادي “زت” ثم القرينة وهي الروح المادية، وكانت تنضم إليه في قبره بعد مماته، وبها كان يمكن أن يعيش في قبره ويخرج منه نهارا ويعود إليه ليلا، ثم الروح النورانية وكانت تصعد إلى السماء وتنضم إلى عالم الأرواح، الذي كان يمثل بالنجوم بالقرب من الإله “رع” إله السماء.
وقد جاء في متون الأهرام ما يثبت ذلك، وكان هم المصري طوال حياته أن يعمل لما فيه راحة قرينه في قبره، وذلك كان يتطلب أشياء عدة فكان لزاما على المصري أن يحافظ على جسمه بعد الموت من التلف أو العطب، لأن أي حدث فيه تشويه أو تمزيق لا يمكن للقرين أن يتعرف عليه، ولذلك كان يصنع لنفسه قبرا في أعماق الصخر ويضع جسمه في تابوت ضخم عظيم الغطاء محكم الإغلاق، بعد أن يحنطه ويكفنه في لفائف عدة، ومعه كل حليه وأثاثه الذي كان يتمتع به في الحياة الدنيا، أو الذي صنع خاصا لقبره.
وزيادة في الحيطة كان يوضع بجانب تابوت المتوفى رأس من الحجر الجيري الأبيض أو الجرانيت تحاكي رأس المتوفى بكل دقة ممكنة، فإذا جاء القرين إلى القبر لينضم إلى المتوفى كانت هذه الرأس المرشد له في القبر، ولكن القرينة لم تكن يكفيها ذلك بل كان تتطلب ما تعيش عليه وتنقل منه للمتوفى، من أجل ذلك كان المصري يحبس الأوقاف، ويعين الكهنة للإشراف عليها وليكونوا في خدمة الروح المادية “الكا” أي القرينة ويعدون لها الطعام كل يوم عند الباب الوهمي للقبر، الذي كانت تخرج وتدخل منه كل يوم لتأخذ الطعام من مائدة القربان التي كانت توضع أمامها، وهؤلاء الكهنة كان يطلق على كل منهم “حم كا” أي “خادم القرين”، وبدون هذه القرابين كانت القرينة لا تنضم إلى المتوفى في قبره وبذلك يعنى فناء أبديا.
وكان المصري يحتاط لنفسه من جهة أخرى لتبقى حياته دائمة في القبر، وذلك أنه خوفا من أن يبلى جسمه أو يمزق فتضيع معالمه وتظل القرينة الطريق للوصول إليه، كان يصنع لنفسه تمثالا يعتني فيه بدقة تصوير ملامح الوجه لتحل فيه القرين بدلا من الجسم الحقيقي، ورغم ذلك كان المصري لا يهدأ له بال لما عساه أن يحل به في قبره بعد موته، إذا أهمل خدام القرينه تقديم القربان لها أو اغتصبت الأوقاف التي حبسها ليقدم منها القربان كل يوم للقرينة، فكان يلجأ إلى فنون السحر وقوتها إذ كان يعتقد أن كل ما يرسم على قبره من مأكل ومشرب ومن مناظر مما كان يتمتع به في الحياة، وكتابة قوائم الطعام التي كانت تروق إليه، كل ذلك يمكن أن ينقلب إلى صور حقيقية يتمتع بها في آخرته.
وذلك هو السر في نقش هذه المناظر على جدران القبور، فلم يكن يرسمها لحبه الفن أو سروره بالمناظر الجميلة، بل لحبه التمتع بحقائقها بالطرق السحرية، وهذا يكذب الاعتقاد بأن المصري كان يعمل لآخرته طوال حياته وأنه كان يفضل الحياة الأخرى على الحياة الدنيا، فالأمر بالعكس إذ أن مجرد اعتقاده بأن الحياة الأخرى صورة مطابقة للحياة الدنيا، ورسمه في قبره كل ما ينعم به في دنياه، وحمله كل ما كان يتمتع به من أثاث وحلى مدة حياته ليكون جانبه في القبر، أكبر دليل على تعلقه بالحياة الدنيا ومتاعها وعدم قدرته على تصور الآخرة بصورة أخرى.
الكا..
ويوجد برهان على تمسك المصري القديم بروحه المادية “الكا” واعتقاده أنه بدونها لا يحيا حياته الثانية، وأن العدد الكبير من أفراد الشعب في عهد الدولة القديمة كانوا يدخلون لفظة “كا” أي الروح المادية في تركيب أسماءهم مما لم نشهده في أي عصر من عصور التاريخ المصري بعد، فمثلا نجد اسم “سخم كا” روحي قوية، و”جمني كا” وجدت روحي، وهكذا وربما سبب ذلك أن المصري في هذا العهد كان ما يزال قريبا من المادة، ولم ترتق فكرته إلى الأمور الروحانية التي تخرج عن دائرة المادة، ولذلك يظن الكتاب أن المصري كان في الأصل يعتقد في أن الروح مادية، ثم تدرج في الرقي واعتقد أن هناك أخرى روحانية، وهي “با” فسار على تقاليده وحافظ على اللفظين.
وربما كان هذا سببا في أننا نجد اندماج لفظة “با” في أسماء الإعلام المصرية في الدولة القديمة قليلا، على حين أن اندماج لفظة “كا” في الإعلام كان كثيرا جدا، إضافة إلى ذلك أن الملوك في عهد الأسرتين الخامسة والسادسة كانوا يعطون عناية خاصة للروح المادية “كا” أكثر ما كانوا يعطون للروح النورانية “با” والدليل ذكر كلمة “كا” في متون الأهرام 104 مرة و”با” ذكرت 47 مرة.
ولم يظهر على النقوش المصرية رسم للقرينة، لا لأفراد الشعب أو الأمراء، ولكن وجد رسم قرين الملك عند ولادته، وهي صورة طبق الأصل منه، وهي لا ترى في الحياة الدنيا ولكنها تكون مع المتوفى في قبره وتعيش على المادة، وكثيرا ما نرى القرينة على شكل تمثال منحوت في أصل الباب الوهمي، يخطو إلى الأمام خارجا من القبر ليأخذ الطعام من المائدة التي أمامه، حيث أنه تحت المائدة نقشا يمثل ألفا من الخبز وألفا من الإوز وألفا من النبيذ وألفا من الجعة وألفا من الثيران، ويطلب صاحب المقبرة إلى زائر قبره والمارين به أن يقرؤوا هذه القرابين، لاعتقاده بأنها متى تليت أمكن أن يتمتع بحقائقها.
يضاف إلى حرص المصري على الاستفادة من هذه المناظر في حياته الأخرى، جعله يفكر في صنع مجموعة عظيمة من الآلات النحاسية على شكل نماذج، يبلغ عددها أحيانا أكثر من مائة قطعة، كالتي عثر عليها في مقبرة ابن “تي” أو المجموعة التي عثر عليها للأمير “خنوم با إن” ابن خفرع، أو لحفيد الملك “منكورع” في منطقة حفائر الجامعة بالأهرام، فقد كانت هذه المجموعات الأولى من نوعها إذ عثر عليها في مقابر لم تمس بعد، ومن ذلك يمكننا أن نستخلص أن المتوفى كان يحملها معه في قبره ليستعملها هو لنفسه، أو يستعملها أصحاب الحرف والصناعات عند الحاجة إليها في الآخرة كما كان يحتاج إليها في الدنيا.
على أن فكرة البعث ثانية وقدرة السحر على قلب الصور إلى حقائق لم تكن وليدة أفكار عامة الشعب، بل نبتت أولا عند الملوك ثم أصبح القوم فيما بعد على دين ملوكهم، وأقدم تعاويذ سحرية يرجع عهدها إلى ما وجد على جدران أهرام ملوك الأسرة الخامسة، وهي ترجع إلى عصور بعيدة في القدم.
تدل الأحوال على أن الفنانين في هذا العصر كانوا ينكرون ذاتهم رغم ميل المصري إلى الفخر بأعماله العظيمة ونقشها في قبره، ومن الأمثلة النادرة التي نجد فيها الفنان يضع إمضاءه على أعماله، الفنان الملكي “بتاح خو” وهو الذي نحت المناظر التي على مقبرة أمير مقاطعة الاشمونين “ورإيرمن”، ويشاهد أن الفنان رسم نفسه بين موظفي قصر هذا الأمير وكان من بين الذين جلسوا على مائدته.
طرق رسم المناظر على الجدران..
كانت هناك طريقتان الأولى: كان الفنان يجهز سطح الحجر الجيري ثم يرسم عليه المنظر بالمداد الأحمر أو الأسود، بعد أن يقسمه حسب قانون الرسم، وبعد ذلك ينحت الرسم بارزا أو غائرا حسبما يطلب صاحب المقبرة، ثم يأخذ في وضع التفاصيل التي برز بعدها المنظر في صورته الأخيرة. الطريقة الثانية كان يتبع فيها وضع طبقة من الجص على الجدران وكان يضطر إلى ذلك عندما يكون الجدران من اللبن، أو من الحجر المحلي الهش الأصفر اللون، وبعد ذلك يرسم مناظرة بالألوان المختلفة، وقد أظهر الفنان في المناظر والصور التي نقشها على الحجر الجيري الأبيض كل الأوضاع التي نشاهدها في الطبيعة للنبات والحيوان والإنسان، ولم يستعص عليه إلا رسم الإنسان على الجدران من الوجه، فإنه لم يفلح فيه قط وكان دائما يرسمه بصورة جانبية وقد بلغ فن النقش الغائر والبارز قمته في أواسط الأسرة الخامسة.