خاص: قراءة- سماح عادل
في ملف (الحضارة المصرية القديمة)، نواصل قراءة الكتاب الأول في (موسوعة مصر القديمة) للكاتب المصري “سليم حسن”.
الأسرة السادسة..
لا يعرف أصل قيام الأسرة السادسة، ويبدو أن ملوكها حكموا البلاد من غير ثورات أو خلاف، وقد ظل ملوكها يحكمون ما يقرب من قرنين من الزمان، ويظن أن مؤسسها هو الملك “سحتب تاوي تيتي” ولا نعرف عنه إلا قليلا. يرجع “مانيتون” أصل هذه الأسرة إلى “منف”، وقد كانت ميول الأسرة السادسة الدينية تتجه إلى الإله “فتاح” في “منف”، وكان الكاهن الأكبر للإله في عهد هذه الأسرة كانت له مكانة مميزة لدى الملك، كان لا يمكن أن يصل إليها عندما كان نفوذ عين شمس سائرا في البلاد.
عثر على تمثال الملك “تيتي” نقش عليه “محبوب فتاح”، ويمكن استنتاج أنه ربما قامت حركة ضد سيطرة بلدة عين شمس ومناصرة ل”منف”، وقد نهبت اللصوص هرم “تيتي” وقد حرقوا كل ما طريقهم إلى حجرة الدفن وهشموا الحواجز الجرانيتية، وقد نقش على جدران حجرة الدفن سلسلة نقوش كثير، منها مطابق لما وجد في هرم “وناس”، وهذه النقوش كتبت بحروف وإشارات أاصغر حجما من التي وجدت في هرم “وناس”، ولم يفلت من يد اللصوص من جسم الملك إلا ذراع وكتف، وقد ذكر “مانيتون” أن هذا الملك قد قتله الحراس لكن ليس هناك دليل يثبت ذلك، غير أن الملوك الذين أتوا بعده لم يمكثوا على عرش الملك إلا فترة قصيرة، وربما يكون ذلك عدم استتاب الأمن كما يحدث عادة عند وجود عصيان في الجيش أو ثورات داخلية.
في عهد الملك “تيتي” بدأ “وني” حياته، وهو من أكبر الموظفين المصريين في هذا العصر، وقد عاش في عهد عدة ملوك وقد دفن في العرابة، وترك على جدران مقبرته أطول نقش عن حياة شخص، ويعد أهم وثيقة وصلت من الدولة القديمة، يقول “وني” عن نفسه في عهد “تيتي”: “كنت طفلا ما يزال متمنطقا الحزام في عهد الملك تيتي، وكانت وظيفتي مدير بيت الزراعة وكنت أشغل وظيفة مدير ضياع القصر الملكي”.
تلا حكم “تيتي” عصر غامض ربما كان سببه الاضطراب الذي حدث بعد قتله بحسب “مانيتون”، وكل ما نعرفه عن هذه الفترة أن قائمة الملوك بالعرابة ذكرت اسم ملك خلف ل”تيتي” لا يعرف عنه شيئا وهو “وسر كارع”، لكن أيضا عثر على نقش من هذا العصر في وادي الحمامات لملك يدعى “إتي”، جاء فيه أن موظفا اسمه “فتاح أن كاو”جاء إلى هذه الجهة ليقطعوا أحجار لهرم الملك “إتي”، ولا نعلم عدد سنين حكمه ويحتمل أنه لم يخلف “تيتي” حيث لم يذكره “وني” ضمن الملوك الذين عاش في عهدهم، خاصة أنه ذكرهم بالترتيب التاريخي وربما كان عدم ذكره لسبب غير معروف.
بيبي الأول..
حكم بعد الغموض الذي اكتنف الحكم بعد “تيتي” ملك فتي يدعى “بيبي” وقد ظل محافظا على الحكم بقوة وعزم نحو نصف قرن، ورغم أنه لم يترك وثائق تدل على أعماله مثل “رعمسيس الثاني” أو “احمس الأول”، غير نقوش “وني” لكن نستعين بالآثار التي تركها ونقوش المحاجر والتحف التي تركها الرجال الذين عاشوا في عصره، وقد عثر على تمثال له من النحاس غاية في الدقة، حتى أنه فاق التماثيل التي صنعت من قبله حتى تماثيل خفرع و”منكا ورع”.
بنا “بيبي” هرما في سقارة وأطلق عليه “الحسن التأسيس” وهو أكبر من هرم “وناس” ومن هرم “تيتي”، وقد نقشت على جدران حجرة الدفن الداخلية متون مماثلة لما في هرمي “وناس” و”تيتي”، وكتابته أقل حجما من كتابة هرم “تيتي”.
ويذكر “وني” أن الملك “بيبي” قام بعمل حملة تأديبية ضد الآسيويين وقد جهز جيشا من عشرات الآلاف، وقد عاد الجيش سالما بعد أن خرب بلاد البدو وأزال قلاعهم، وقد أرسل الملك “بيبي” هذا الجيش خمس مرات، وقد وصف “وني” الأمر بدقة، وقد كانت هذه الحملة التي قام بها إلى فلسطين الأولى من نوعها في تاريخ مصر، بل وفي تاريخ العالم، فهي تعتبر أول حملة اشترك فيها الجيش والأسطول دونها التاريخ، وبرهن المصريون في هذه الحملة على أنهم بحارة حقيقيين، والظاهر أن سبب قيام الملك بهذه الحملة ما يقال عن هجرة كبيرة من الشمال الشرقي من بلاد بين النهرين، وتقدمهم في هجرتهم إلى أن وصلوا إلى فلسطين بل والحدود المصرية، فاضطر الملك إلى منع هؤلاء المهاجرين الآسيويين من دخول مصر.
مرن رع..
تولى بعد “بيبي الأول” ابنه البكر “مرن رع”، وكان ما يزال صبيا، ولم يمكث سوى سبع سنوات، ومات وهو في العقد الثاني من عمره، وقد بدأ في بناء هرمه منذ توليه، ولقد وجدت مومياؤه سليمة، وهي أول جثة عثر عليها لملك بقيت إلى عهدنا، رغم أنها جردت من كفنها من خلال اللصوص الذين نهبوا هرمه، وقد لوحظ أن خصلة الشعر التي كان يتميز بها الفتيان حديثو السن ما تزال عالقة بجمجمته، مما يدل على أن “مرن رع” كان صبيا عند وفاته.
وقد أرسل هذا الملك حملة إلى “ابهات” ببلاد النوبة لإحضار تابوت “صندوق الأحياء” كما يذكر “وني”، وبعثة أيضا إلى محاجر المرمر في “حنتوب” مصر الوسطى لإحضار مائدة القربان من المرمر، وآخر أعمال “وني” في عصر “مرن رع” هو حفر القنوات الخمس عند الشلال الأول، لتسهيل سير السفن التي كانت تعترضها الصخور، ويبدو أن حفر هذه القنوات كان جزء من سياسة عامة، بدأ في تنفيذها هذا الملك، وتنطوي على كشف كل الجهات الجنوبية كشفا منظما، وتحسين طرق التجارة والعمل على إنماءها بين مصر وبلاد النوبة.
وآخر عمل قام به “مرن رع” زيارة حدود بلاده، وكان من جراء فتح هذا الطريق وتسهيل التجارة بين مصر وبلاد النوبة، أن قامت رحلات للتوغل في مجاهل هذه البلاد والاتصال بأهلها.
بيبي الثاني..
خلف “مرن رع” أخوه “بيبي الثاني”، وذكر “مانيتون” أنه حكم وهو في السادسة من عمره، وقد حكم حتى بلغ المائة عام فحكم نحو 94 عاما، وكانت مدة حكم هذا الملك مليئة بالبعثات إلى البلاد الأجنبية خاصة في فترة حكمه الأولى. خلف “بيبي الثاني” ملك يدعى “مرن رع محتي إم ساف”ولا نعرف عنه شيئا.
سقوط الدولة القديمة والثورة الاجتماعية..
كانت سلطة الملوك في الأسرة السادسة آخذة في التدهور، وخاصة في عهد الملك “بيبي الثاني” الذي حكم البلاد أكثر من ثلاثة أجيال، وقد انتهى الأمر بعده بانحلال البلاد وتفشي الثورة فيها، ويرجع السبب في ذلك إلى أمرين: الأول إغارة الأجانب من البدو على البلاد من جهة، والحروب الداخلية من جهة أخرى، فالبدو رغم الهزيمة الكبرى التي لحقت بهم في عهد الملك “بيبي الأول” لم يفقدوا الأمل في غزو مصر التي كانت غنية، وقد أتيحت لهم الفرصة في عهد “بيبي الثاني”، فقد كان كل حاكم من حكام المقاطعات الوراثيين منهمكا في المحافظة على مقاطعته، التي تعد بمثابة مملكة صغيرة مستقلة.
أما في الوجه البحري، مقر الملك، فمن المحتمل أن القوم كانوا ملتفين حول الملك، ودافعوا عن البلاد، لكن كان موقف الحكومة المصرية في هذا العهد في حال يرثى لها، حتى أن الشعب انتهز هذه الفرصة وقام بثورة اجتماعية طاحنة، امتد أمدها أكثر من قرنين من الزمان، كانت البلاد تعاني فيها من فوضى وخراب، وكان سلطان الملك قد زال وأملاكه اختفت، والحقوق المدنية والدينية كان يتولاها من كان في قدرته فعل ذلك.
وقد وصل من هذا العصر نص أدبي بعنوان “تحذيرات نبي” وهو من النصوص الأدبية، فلم تصل وثائق تاريخية وإنما نصوص شعبية أدبية، وقد كان أدباء العصور الذي تلت يتخذون هذا النص نموذجا أدبيا يدرس في المدارس، ومن المرجح أنها كتبت في عهد الأسرة التاسعة والعاشرة، وهذه القطعة الأدبية تصف أول ثورة اجتماعية في آخر عهد الدولة القديمة.
وموضوع هذه التحذيرات هو أنه حصلت للبلاد مصيبة في عهد حكام الأزمان القديمة، فثار عامة الناس على الموظفين وعلية القوم، وكذلك عصى الجنود المرتزقة من الأجانب القادة، ويحتمل أن الآسيويين هددوا الحدود الشرقية أيضا، وبذلك انحل الحكم المنظم، والملك الطاعن في السن كان يعيش في طمأنينة في قصره، لأنه كان يحاط بالأكاذيب، والعهد الذي حدث فيه هذا لابد أن يكون في نهاية الدولة القديمة، وذلك أنه ختام الأسرة السادسة كان في 2500 ق. م.
يبدأ النص بوصف البؤس العام من سرقة وقتل وتخريب وقحط وتشريد الموظفين، وتفكك الإدارة والقضاء على التجارة الخارجية، وغزو الأجانب، يقول الحكيم أن أهالي الصحراء حلوا مكان المصريين، وأصبحت البلاد مليئة بالعصابات، حتى أن الرجل كان يذهب ليحرث أرضه ومعه درعه، وفقد الناس الثقة في الأمن، وعلى الرغم من فيضان النيل فإنهم أحجموا عن الذهاب لفلاحة أراضيهم خشية اللصوص، وكثر عدد الموتى حتى أصبحت جثثهم من الكثرة بحيث استحال دفنها، فألقيت في الماء كالماشية الميتة، وأصبحت المدن لا تؤدي الضرائب، وصارت الخزينة من غير دخل، وانتزعت موميات علية القوم من مقابرها، وألقيت في الطريق العام، وأصبح سر التحنيط جهرا، وسلبت كتابات قاعة المحاكمة الفاخرة، وأذيعت التعاويذ السحرية التي كانت ملكا للحكومة، ونهبت الإدارات العامة ومزقت قوائمها.