“كشف هيئة”.. قصة قصيرة

“كشف هيئة”.. قصة قصيرة

يكتبها : محمد فيض خالد

اجتمع أكثر من رجل في مندرة الحج “سعفان” كبير عائلة “المرازقة”، امتلأ بهم الكنب، أما “سعدية ” فجلست ملتصقة بالجدار، افترشت الأرض مغمومة، لم يبق لها غير فتات الأمل، قد اعتمدت يدها تسند رأسها المثقل بالهموم التي تخوض أوحالها، توزعت العيون “رمضان الدكش ” ابنها الوحيد، ساد صمت خانق، لكن ورغم جدية المشهد، فقد بلل الابتسام الوجوه المتصلبة.

بعد قليل دارت كؤوس الشاي الفواح، انتهبت الأيدي الصينية في غمغمة، قبل أن يتناوب الجلوس غابة الجوزة يمتصون دخانها ثم يقذفونه في انتشاء، في الخارج، توقفت تماما حركة الزقاق، اغرق المكان في صمته، لملمت الكلاب أذيالها وانكمشت، وتربع النسوة أمام البيوت يأكلهن الفضول الجائع، وأسماعهن تلعق جدران المندرة.

أما “رمضان” فقد تلهى بكوب الشاي الكبير، يدسه بين شفتيه العراض، يتتابع مصه متلذذا في بله،كتم الرجال ضحكاتهم بين تلافيف ثيابهم،بدت المرأة وقد توشحت بحيرتها، تعلق قلبها بالوجوه من حولها، تطالعهم في ترجي وانكسار، تعود سريعا تغرق ابنها في اشفاق، حدد الحاج “سعفان” هذه الجلسة الطارئة، واختار لها من أبناء العائلة أرشدهم،أرادت المرأة أن تفرح بوحيدها، تقول في هالة من الانشراح، تخايل وجهها الأسمر: ” لا شيء يجلو عقله ويعدل مزاجه، ويمنحه النباهة غير الزواج “.

جلس الحاج “سعفان ” يشيع صاحبنا بعين كليلة، عدل ياقة جلبابه الكشمير، قائلا في رزانة : “تقدر تعد الفلوس كويس يا ولد”، مد يده إلى جيبه واخرج حفنة من الفكة، وضعها في يده وبدأ يقلبها في صرامة، قبل أن ينثرها في حجر صاحبنا الذي زاغت عيناه مع كثافة الرنينشرع في تقليبها ضاحكا، أخذ الصمت بأعناق الرجال، عاود “رمضان ” النظر لوالدته مرارا، حينها جعلت المرأة تجمع طرف ثيابها، تحكمها من حول قدميها، هزت رأسها مشجعة إياه، وهي تقول : “يلا وري أعمامك”، هرش شعره الهائش،ابتلع ريقه، يستعد لمهمته العسيرة، أطرق طويلا يحدق في النقود المتناثرة في حجره، مسها بيده المعروقة مسا خفيفا، وفي حماس شرع يعد: ” عشرة….عشرين…تلاتين..”.

غاب في حسابه، تهللت أساريره أخيرا بالفرح، ليردد صارخا:” أربعة وخمسين جنيه وتلاتين قرش “، شاغبت ابتسامة دافئة وجه الشيخ، تحركت على إثرها حبات مسبحته الكهرمان في رضا، توالت الأسئلة من أعمامه، لم تخرج في أغلبها عن ذكر أسماء قرى الزمام وترتيبها، أخفت المرأة وجهها داخل حرامها الصوف، وقد نبتت في عينيها الدموع، آن لها أن تطمئن على المسكين قبل أن ترحل، ليرزق بابنة الحلال التي ترعاه من بعدها، وتهبه الذرية ،قفزت المرأة في همة، دست يدها في عبها واخرجت منديلا، حلت عقدته بأسنانها، فردته أمام الشيخ.

تدحرجت لفافة كبيرة من الورق لفئات كبيرة من العملة، عاجلتها في انكماش:” تحويشة العمر، ادخرتها مهرا لهذا المسكين”، ثم غابت في نهنهة مفتعلة، جعلت تتعثر في دموعها، نظر الجميع إليها وابتسامة تتجمد فوق الشفاه، إنهم يعرفون “الدكش ” ويدرون مصائبه، و انفلات خلقه ،لدرجة لم تسلم منها امرأة أو فتاة ،ولولا شوكة عائلته، لأصابه ما يصيب كل متفسخ. ابتسم “رمضان ” ابتسامة لزجة وهو يردد في انتشاء: ” اريد عائشة ابنة شيخ الخفر سباعي”، عاود الابتسام يندي الوجوه، أما هي فظلت عيناها لا تطرفان عنه، كان كلامه كفيلا لأن يدير الرؤوس إليه، لازم الحاج “سعفان ” صمته، وعشرات الأسئلة تنتهب رأسه، بعد أسبوع بالتمام فاضت الدار بالزغاريد.

زفت إليه الفتاة، وافق شيخ الخفر دون تفكير، كيف له أن يضيع من يده عشرة أفدنة من أجود الأراضي، وخمس بقرات، خلاف المال المكنوز، عما قريب سيصبح هذا الأخرق عجينة سهلة في يده ابنته “صفية” تشكلها كيف شاءت. مرت الأيام رتيبة، ليعود من بعدها “الدكش” سيرته الأولى ملء السمع والبصر، يقضي سحابة نهاره عند الموردة، يتغزل في المارة، فشلت “صفية” في ترويضه، وها هي “سعدية” وقد عادت من جديد تفترش مندرة الحاج “سعفان” تنثر بين يديه منديلها.

وها هو الاختبار ينعقد، وكبير العائلة ينفض غضبه، والمرأة تجلس في استسلامها، ووجوه القوم تشيعها وولدها بابتسامة مرة ،تلى الرجل سؤاله بصوت متحشرج: “واد يا رمضان تعرف السنة فيها كم شهر، والشهر إللي قبل رمضان اسمه إيه؟”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة