25 فبراير، 2025 5:20 م

كريستوفر نولان بين “Memento” و”Tenet”: بين رصد عبث ما بعد الحداثة وتهافت المخرج المتخم !

كريستوفر نولان بين “Memento” و”Tenet”: بين رصد عبث ما بعد الحداثة وتهافت المخرج المتخم !

خاص : دراسة بقلم – د. مالك خوري :

أن السياق العام لطرح “هوليوود” لفيلم (تينيت-Tenet) في السوق؛ عام 2020، وحشدها من أجله موارد ضخمة ليكون بمثابة الرمز لعودة الصناعة السينمائية في مرحلة بدء تخفيف القيود على النشاطات ذات الطابع الجماعي في زمن جائحة (كورونا)، عكس أيضًا وإلى حد كبير اتجاهًا تسويقيًا يتصاعد نفوذه وبحماس في أوساط القائمين على أضخم وأكثر الصناعات الثقافية نفوذًا في عالمنا المعاصر. ويكمن هذا في التركيز على اتجاهين: أولاً، إعادة تدوير فكرة أن الإنتاج ذو الميزانية الضخمة يجب أن يكون عنوانًا أساسيًا في السينما “الجيدة” والتي تطمح إلى جذب الجماهير. وثانيًا، أن المعادلة المتبعة في سينما “الآكشن” بأنواعها المختلفة، سواء على طراز “أفلام مارفيل” أو مع إضافة مسحة “فنية راقية” تُمثل أولوية لتحقيق الشهرة والنجاح على الطريقة الهوليوودية.

بيد أنه من الصعب استيعاب ما يُمثله فيلم (تينيت)؛ للمخرج “كريستوفر نولان”، من ناحية الفكر والأسلوب والتفاعل الشعبي من غير وضعه في السياق العام لمسيرة “نولان” السينمائية. وبشكل خاص، فإن هذا التقييم لا يمكن حتى أن يبدأ من غير الاعتبار الجدي لبدايات تلك المسيرة، والتي جسدها فنيًا وجماهيريًا النجاح غير المتوقع لفيلمه الثاني (ميمينتو-Memento)؛ عام 2000. فعلى الرغم من أهمية فيلمه الأول: (Following)؛ عام 1998، لجهة حرفيته الفنية المحكمة ومؤشراته الواضحة على قدرات “نولان” على الإدارة السينمائية الفنية والاقتصادية المبدعة، عبر نجاحه بصناعة فيلم أصيل ومتماسك في الموضوع والأسلوب وبميزانية لم تتجاوز الستة آلاف دولار، فإن الفيلم الذي أطلق اسم “نولان” عالميًا وأطلق ثقة هوليوود بقدراته على تحقيق الأرباح الخيالية لها كان في الواقع فيلمه (ميمينتو)؛ (كلفة تسع ملايين دولار، ومردود يزيد عن الأربعين مليون دولار).

في هذا المقال أتناول مسيرة “نولان” العامة، وأحاول خصوصًا سبر غور بعض مكامن التشابه والتناقض بين فيلمي: (ميمينتو) و(تينيت)، كمحاولة لإلقاء بعض الضوء على مجموعة من التجليات الإيديولوجية التي تتفاعل ضمنها السينما السائدة في أواخر العقد الثاني من القرن الحالي.

وسأستهل هذه القراءة برصد ظروف الإنتاج والدعاية والتوزيع والتلقي النقدي لفيلم (تينيت)، وأتبع هذا بمسح عام يتناول السياق الذي يُميز البناء البصري والشكلي لسرد القصة. ثم أقدم تقييمًا نظريًا لبعض المرجعيات الإيديولوجية التي يميل الفيلم إلى التناغم معها. ولمحاولة فهم الأبعاد الأوسع للتوجهات النظرية للعمل، أضع (تينيت) في “مواجهة” مع فيلم (ميمينتو)؛ (وإلى مستوى أقل مع أفلامه الأخرى). والهدف هنا دائمًا هو تتبع النزعات الفنية السائدة التي طبعت شكل ومحتوى الإرهاصات الإيديولوجية لأفلام “نولان” بين اليوم وبدايات مساره المهني.

01 – في إطار إنتاج وتلقي الفيلم

إن معادلة تحضير وإنتاج وبرمجة التوزيع والدعاية لفيلم (تينيت) اقترنت بوضوح؛ كما قلنا، بفكرة إعلان هوليوود الرسمي والأقوى عن عودتها إلى صالات السينما بعد الإغلاق الكبير للصناعة بعد جائحة (كورونا). ومما لا شك فيه، أن التشديد الإعلامي الواضح على مشاركة الشركة المنتجة؛ “وارنر بروثرز”، وحجم تمويلها لإنتاج الفيلم والذي قارب: الـ 225 مليون دولار، والتركيز أيضًا على الميزانية الضخمة التي خصصت للتسويق وللدعاية العابرة للقارات وعلى الافتتاح الواسع والمتزامن في أكثر من: 42 دولة، كان كله متكامل مع إستراتيجية هوليوود: “الثقيلة اليد” لتشجيع عودة الجمهور إلى صالات العرض بعد فترة الكساد التي هيمنت على العالم (وضمنه صناعة السينما)؛ منذ أواخر عام 2019، بسبب أوضاع جائحة (كورونا). وكان لاسم: “كريستوفر نولان”؛ في هذه المعادلة بالطبع وزنًا كبيرًا. فمن هو أفضل من صانع مجموعة من أكثر أفلام هوليوود نجاحًا في شباك التذاكر في العقدين الماضيين لدعم هذه المعادلة وليُعيد بعض الروح للصناعة الأكثر شعبية وحضورًا في العالم اليوم. فمعظم أفلام “نولان” ومنها: (Batman Begins) عام 2005، و(The Dark Knight) عام 2008، و(Inception) عام 2010، و(The Dark Knight Rises) عام 2012، و(Interstellar) عام 2014، و(Dunkirk) عام 2017؛ وغيرها، حصدت في شباك التذاكر ما يزيد بمجموعه عن الأربع مليارات وستمئة مليون دولار، بمقابل كلفة إنتاج أساسية عادلت مليار ومئة وخمس وخمسون مليون دولار، هذا بالإضافة إلى ما يُعادلها تقريبًا من تكاليف دعاية وتسويق وكلفة إيجار قاعات وغيرها.

بيد أن ردود الفعل على الفيلم؛ وبشكل خاص في أميركا الشمالية، كانت متفاوتة. من ناحية، فإن معظم كتاب ونقاد السينما في الصحف الرئيسة وذات النفوذ والانتشار الأوسع (“رولنغ ستون”، “آمباير”، “فارياتي”، “يو. إس. آي توداي”، “نيويورك تايمز”، “هوليوود آوتسايدر”، “تورونتو ستار”، “إنترتينمنت ويكلي”، و”هوليوود ريبورتر”، وغيرها)، أبدوا تفاؤلهم بقدرة الفيلم على لعب الدور الاقتصادي والثقافي المطلوب منه، أي المساهمة باستعادة بعض الحياة والصخب في دور العرض السينمائية. وكان رأي هؤلاء أن الأساس في قوة الجذب تكمن في قوة وذكاء وإبداع مشاهد الآكشن التي يحفل بها الفيلم وتشد انتباه المشاهد بشكل مستمر طوال الساعتين ونصف من السينما السريعة. ووصف معظم هؤلاء الصحافيين؛ (تينيت)، بالضخم، والجريء، والمُثير للدهشة، والمبدع تقنيًا.

بالمقابل، فإن بعض ردود الفعل الأخرى لم تكن بنفس الحماس. إذ ركز إعلاميون على صعوبة بل استحالة فهم القصة واستيعاب تفاصيلها. وأشار بعض من هؤلاء على “برودة” تعاطي الفيلم مع شخصياته الرئيسة أو غير الرئيسة؛ (“نيويورك بوست”، “نيويوركر”، “بوسطن غلوب”، “فانيتي فير”، “شيكاغو تريبيون”، “سلانت ماغازين”، وغيرها).

وأطرف ما قرأته في هذا المجال كان ما قالته الكاتبة؛ “كريستينا نيولاند”، في مجلة (نيويورك ماغازين)؛ والتي شبهت (تينيت) بصندوق أحجية موصد و”فارغ من أي محتوى”. بينما قارن الصحافي؛ “توم دغنز”، من (سيني فو)؛ الفيلم بما فعلته وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) عندما أنفقت ملايين الدولارات “في محاولة تطوير قلم فوار يمكن استعماله في الفضاء في حالات انعدام الجاذبية، في الوقت نفسه الذي كان رواد الفضاء السوفيات بكل بساطة يستعملون قلم الرصاص”.

لكن برغم من الحملة الضخمة التي سبقت ورافقت نزول الفيلم إلى قاعات العرض، فإن المردود العام للفيلم في شباك التذاكر وبحسب تقديرات الصناعة لم يتجاوز بالنهاية: 364 مليون دولار (آب/أغسطس 2021). وهذا يُعادل حوالي ثلاثة أرباع كلفة الإنتاج مع ميزانيات التسويق والدعاية ورسوم دور العرض والموزعين؛ والتي يمكن تقديرها كلها بحوالي: الـ 400 مليون دولار.

وفي أحسن الحالات؛ فإن هذا يُمثل أداءً فاترًا في شباك التذاكر. وعلى الرغم من أن الموزعين والصحافة القريبة من الصناعة أو التي تدور في فلكها حاولت أن تنشر الانطباع بأن ضعف الإقبال كان مرتبطًا بشكل أساس بالمخاوف من الـ (كورونا)؛ (وهذا صحيح إلى حدٍ ما خاصة عندما نأخذ بالاعتبار أن قاعات العرض في نيويورك ولوس أنجيليس كانت مقفلة أبان نزول الفيلم إلى السوق)، إلا أن عاملاً آخر قد يكون ساهم أيضًا في الاستقبال العام غير الحماسي للفيلم.

فبعد أشهر من الدعاية والتسويق غير المسبوقين للفيلم وعلى كافة المستويات، يبدو أن تراكم التقييمات الكثيرة للمشاهدين عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام والتي جرى تداولها منذ نزول الفيلم إلى قاعات العرض قد تغلب بالنهاية في تأثيره السلبي على قوة الحملة الدعائية التي جرى تكريسها لدعمه. ومن المُرجح أن الترداد القوي لمقولة: “صعوبة فهم القصة”؛ منذ الأسبوع الأول لبدء عرض الفيلم، كان له دورًا هامًا في تحديد شكل ومحتوى تلقي وتفاعل الجمهور معه. في هذا الإطار فلنحاول فهم ما الذي حصل ضمن هذه “الأحجية” السينمائية التي ألقى بها “نولان” إلى المشاهدين، وإذا كان الفيلم بالفعل يُعاني من قصور في تلبية حاجة الجمهور إلى بعض الوضوح السردي.

02 – حكاية عن…

منذ المشهد الأول للفيلم والذي يستغرق أكثر من عشر دقائق، يضعنا (تينيت) داخل مسرح كبير ووسط هجوم إرهابي ضخم نعرف فيما بعد أنه يقع في مدينة “كييف” الأوكرانية. مجموعة من المهاجمين يدخلون إلى القاعة الكبيرة؛ حيث تُجهز أوركسترا موسيقية نفسها لحفل كبير. الإرهابيون يبدأون بقتل كل من يجدونه في طريقهم بدءًا بالعازفين وانتهاء بالمشاهدين وقوات الأمن. الإرهابيون يعبرون لنا عن كراهيتهم حتى للآلات الموسيقية، فيرمونها بالرصاص ويقومون بتحطيمها وهم في نشوة أقرب في تعابيرها إلى السادية المفرطة. معركة ضخمة تحتدم في خضم الهجوم مع مجموعة مسلحة أخرى مقابلة تضم “بطل” الفيلم الرئيس الملقب: بـ”البروتاغونست”؛ (جون ديفيد واشنطن). و”البطل” الذي نتعرف عليه في هذه “الموقعة” الافتتاحية للفيلم هو أيضًا عميل في المخابرات المركزية الأميركية، وهو كذلك عميل مزدوج يُحاول منع الهجوم وعرقلته. ويبدو أن عدم وجود اسم محدد للشخصية الرئيسة هو أحد وسائل تعبير الفيلم الرمزية عن عدم إكتراثه بمشاركة كثير من التفصيلات حول هوية أو تاريخ شخصياته. ويسمح هذا الغموض إلى حدٍ ما بإبقاء تركيز المشاهد منصبًا ليس على ما يحدث للشخصيات نفسها، بل على أدائها في المشاهد المبهرة للإلتحامات القتالية التي يعُج الفيلم بها.

بعد هذه المقدمة الحافلة، يضعنا الفيلم على الفور داخل عالم غرائبي “مزدحم” بكافة أنواع المعارك غير المتوقعة؛ والتي تخوضها أطراف متعارضة. تلك الأطراف هي أيضًا متباينة في المواقع الزمنية التي تنطلق منها، وكذلك في المواقع المكانية التي يقاربون مواجهاتهم القتالية على ساحاتها. ويدخل المشاهد تدريجيًا ضمن عوالم تتغير وتنقلب على نفسها بلا توقف، وتنقلنا إلى ساحة تضم أماكن غير متصلة جغرافيا ببعضها وتشمل: “فيتنام ونيبال وسيبيريا وأوكرانيا…” واللائحة تطول. وضمن هذه التركيبة نشعر كيف أن بعض شخصيات الفيلم تعيش في حاضر، هم نفسهم يُشكلون فيه مكونات من الماضي سواء في ما يلبسون أو في ما يشربونه أو في بطاقات الاعتماد التي يستعملونها. وبهذا يضعنا الفيلم أيضًا ضمن عالم مفتوح لا حدود مكانية أو زمانية له، وتتحرك من خلاله الشخصيات مستعملة وسائل نقل مختلفة، من سيارات، إلى يخوت، إلى طوافات، إلى طائرة لشحن البضائع. كل هذا يحدث بشكل لا يتيح للمشاهد أخذ النفس، وبالنهاية يدفعه اإلى التسليم وربما وقف اهتمامه بتفاصيل المساءلة عن ترابط المتقاتلين أو الأشياء ببعضهم البعض أو ضمن منطق السياق الكرونولوجي العام للقصة.

“البروتاغونست”؛ هو الشخصية الوحيدة التي نراها تقريبًا في كل مشاهد الفيلم. وهو الذي منذ البداية يُلاحظ أن عملية مرور الزمن تحدث بطريقة غير طبيعية وغير مألوفة. “فالمستقبل” كحيز زمني يبدو الآن في موقع مفتوح يمكن أن يكون مصدرًا لإرسال أشياء وأشخاص وحتى مؤثرات فاعلة إلى سياق الحاضر: فهناك رصاصة تخرق أحد المقاعد قبل أن يجري إطلاقها، وهناك إرهابي يتم قتله وهو يركض بشكل معاكس باتجاه الخلف، وهناك طلقة تظهر من مقعد غير مضروب بالنار ثم تتجه خلفًا باتجاه المسدس الذي من المفترض أنها قد انطلقت منه. يُضيف الفيلم إلى هذا مجموعة لا تنتهي من المشاهد التي تحتوي على كافة أشكال الانفجارات المدمرة والمواجهات القتالية ومطاردات السيارات والتي تتفاعل كلها أمامنا في حالة من الهيولة الزمنية والمكانية بين من يُقاربها في الحاضر ومن يُقاربها في المستقبل. وللاختصار نذكر هنا أن ما بدأ “نولان” باللعب حوله وتجريبه منذ عشر سنوات في بعض مشاهد من فيلم (Inception)، يتحول في (تينيت) إلى الأساس الذي تنطلق منه ويتحكم بتركيبة السرد القصصي العام للفيلم.

وتدريجيًا، يُصبح واضحًا من خلال سير أحداث الفيلم، أن كل شيء رأيناه ونراه قد حدث في الواقع في زمن سابق.. حتى أن نهاية الفيلم تُعطي الانطباع بأنها تقودنا إلى بداياته. وفي خضم كل هذا نكتشف أن “البروتاغونست” نفسه قد جرى “امتصاصه” إلى رحب أحداث جاسوسية هي أكبر من حجمه وقدراته واستيعابه بكثير. أما الرجل “الشرير” فهو الثري الروسي؛ “آندريه ساتور”؛ (كينيث براناه)، الذي يقف وراء كل ما حدث ويحدث والذي يبدو مدفوعًا من، ومصممًا على تدمير العالم. لكن الفيلم لا يُشير لا من قريب ولا من بعيد إلى ما إذا كان هذا الحقد على العالم سببه قرب موت “ساتور” بسرطان البنكرياس، أو لأنه يُعاني من نزعات جنسية سادية، أو لأنه يُريد أن ينتقم من علاقة زوجته مع “البروتاغونست”، أو، أو….

والفيلم يتخذ من “ساتور” المثال التقليدي لعدو الغرب و”الإنسانية”؛ الذي تعودنا على مشاهدته في أفلام “جيمس بوند”، لكن من غير روح الدعابة والسخرية التي يطبع الكاتب؛ “إيان فليمنغ”، فيها شخصياته. وهذا “الشرير” هو في الواقع عميل يعمل في عالم “الحاضر” لصالح عالم “المستقبل”. أما شخصية “كات”، زوجة “ساتور”؛ (اليزابيث ديبيكي)، فيبدو أن وجودها في الفيلم يُمثل محركًا رومانسيًا يرفع من حدة مستوى كراهية الزوج تجاه “البطل” وربما البشرية، ويقوي بالمقابل الدافع المحرك لدى “البروتاغونست” للقضاء على خطة الرجل “الشرير” لتدمير العالم. بيد أن هذا المكون لا يفلح في النهاية إلا ليكون مجرد عامل إضافي يُراكم أسباب فشل السيناريو في تقديم دوافع درامية قادرة على شد المُشاهد على مستوى يتجاوز الإنبهار البصري بحلقات القتال التي لا تتوقف.

ويقدم (تينيت) أيضًا للمُشاهد مجموعات من الأحداث التي يُعاد تدويرها من خلال زوايا مختلفة. وفي نفس الإطار يُعيد الفيلم “موضعة” المشاهد في موقع التأمل بفكرة القدر والإرادة الحرة؛ وذلك عبر استعماله لرمزية اللعب في عملية الرجوع بالزمن أو التقدم به: مشهد انفجار الطائرة في مقابل مشهد دخولها المبنى وما يترتب فعلاً في الحالتين، هو واحد من هذه المرجعيات التي يستثيرنا الفيلم للتفكير بها بمنطق القدر. كما يجري تقديم شخصية الفيلم الرئيسة بعناية في مواجهة احتمالات وجود وتأثير العوالم المتوازية على صيرورة حياته، وبشكل ربما يدفع المشاهد نفسه إلى التفكير في قدرية صيرورته. بيد أن أحد مكامن الضعف الرئيسة في السرد الدرامي للفيلم هو ميله لتفسير ما يحدث بطريقة مغالية ومفتعلة عبر شخصيات متباينة. ويتكرر هذا طوال الفيلم إلى درجة نشعر معها أن ما يحدث لا يُفسح في المجال إلا لمحاولة مصطنعة تُعطي انطباعًا كاذبًا عن وجود طرح ثيمي ذو قيمة، في الوقت الذي لا يبني الفيلم أي أسس كافية لملاحقة دراما قصصية واضحة أو ثابتة.

03 – بين استعراض حالة الضياع والإحتفاء بالعبث

أفلام “نولان” بشكل عام تميل إلى أن تستفز المشاهد إلى التمعن فكريًا بما يحدث أمامه. بمعنى أن هذه الأفلام في أكثريتها لا تسمح له باستيعاب القصة بسهولة، أو أن يستخلص صيرورتها الدرامية من غير تمحيص. فـ”نولان” يُبقي نوعًا من الدور للمُشاهد ليكمل ما يُلزم لوضع النقاط النهائية على حروف القصة. وهذا يتم إما عبر إتاحة الفرصة له (أي المُشاهد) للوصول إلى استنتاج مستقل بالنسبة لثيمة الفيلم بالعلاقة مع التوجهات “الأخلاقية” للشخصية الأساسية (أفلام سلسلة باتمان)، أو عبر دفعه للتفاعل مع شخصية تمر عبر مستويات متباينة من الوعين في يزداد الخطر على كل من هو حولها أو قريب منها (“آنسيبشين”)، أو عبر وضعنا أمام قصة شخصية رئيسة في الفيلم لا نستطيع فهمها إلا عبر محاولة إعادة تركيب المكونات التفصيلية لهذه القصة/الأحجية أو “مكعب روبيك” (“ميمينتو”).

من ناحية أخرى، نرى أن “نولان” في فيلم (إنترستيلر) كان أقل إرتياحًا لأسلوب تقنين القصة أو تفتيتها كمُحفز للمشاهد لإعادة تركيبها. فهو يبدو هنا أكثر انهماكًا في مسار آخر مفاده الاستعمال السردي واللعب ضمن مساحة تعج بالأمكنة والمواقع والمؤثرات البصرية التي تبدو في تصميمها أقرب إلى الخياليات السوريالية. يُضاف إلى هذا، أن “نولان” هنا بدا منهمكًا في رسم وتقديم شخصيات “مغرّبة” عن محيطها وحتى عن المسار الذي تعيشه. كل هذا كان يُشكل أساس إستراتيجية الفيلم للزيادة من خلط أوراق المشاهد بما يؤدي بالنهاية إلى خلق مشاعر مختلطة تجاه شخصيات القصة ومجرياتها.

مع (تينيت)، يُزيد “نولان” من الجرعة في “وصفة” تعقيد وخلط مسار القصة واتجاهاتها المكانية والزمنية، واضعًا المُشاهد في قمة التشكيك بعلاقة مكونات الفيلم السردية ببعضها البعض وبطبيعة تلك العلاقة بالمضمون الثيمي للفيلم… هذا إذا افترضنا وجود مثل هذه الثيمة. ولجعل الموضوع أكثر “استفزازًا” للمشاهد المهتم بمتابعة تعقيدة قصصية تقليدية، يلجأ “نولان” وقبل انتهاء الفيلم بثلاثين دقيقة إلى تكوين ما يُشبه “المنصة” لمحاولة الشرح شبه المباشر لما حدث في سياق أحداث القصة. وما يجعل شكل السرد أشبه بلعبة “تذاكي” عبثية على المشاهد، تبوء محاولة التفسير الجديدة بالفشل في توضيح الأمور، بل تجعل الأشياء أكثر تعقيدًا وضياعًا من السابق. فما الذي يجري هنا، وهل له مفاعيل أو تواصلات فكرية معينة ؟

كما نعلم، ومنذ فيلمه الثاني، بدء “نولان” يستعمل فكرة تركيب الأحداث عبر التراجع “خلفًا” أو عبر التلاعب الزمني والمكاني في عملية السرد السينمائي. هذا الأسلوب لعب الدور الأهم في إطلاق الاهتمام بـ”نولان” وشهرته في عالم السينما. واستعمل “نولان” هذا التوجه إلى حد أقل في كل من أفلام (إنسيبشين) وحتى في (دنكرك). وفي (دنكرك) بالذات، يغوص الفيلم في التفصيلات التي تُربك استيعابنا لتفاصيل المكان والزمان، مما يدفعنا بالمقابل إلى تركيز اهتمامنا برصد بشاعات الحروب وعواقبها على الإنسانية. في هذا السياق يقوم “نولان” بلعب أحد مكونات الأسلوب ما بعد الحداثي والذي “يلعب” ضمن مساحة الخلط المتعمد والمتعدد الجوانب لدلالات المكان والزمان، وهذا يعمل بطبيعة الحال لمصلحة السرد اللاتاريخي لأحداث قصة المعركة نفسها. فالغوص بالتفصيل “المايكروكوزمي” يقود في هذه الحالة إلى إعطاء الأولوية لتهميش فهم المشاهد للمعطيات التاريخية المادية الأوسع للحرب ومفاعيلها وأدواتها ومسبباتها. وبالنتيجة، تتحول معركة (دنكرك) إلى حالة صراع بين أطراف تجمعها حرب سببها “الشر” الذي يكمن في الطبيعة الإنسانية والذي ينفجر من حين لآخر بفعل قدر قاس وظالم في عواقبه.

بمقابل تلك العبثية المطلقة في استعمال أدوات أسلوب “اللعب” ما بعد الحداثي، فإن ما جعل استعمال “نولان” لتقنية السرد المفكك في فيلم (ميمينتو) مميزًا إرتبط بشكل واضح بنجاحه في دفع المشاهد باتجاه لعبة معاكسة للعبة التفكيك. اللعبة في (ميمينتو) تتحول بإمتياز إلى لعبة “إعادة تركيب”… أي إلى لعبة متفاعلة وحماسية تهدف إلى دفع المشاهد لإعادة تركيب القصة الحقيقية لمرحلة مشوشة وشبه ممحية من حياة رجل قُتلت زوجته ويُحاول الآن أن يفهم الظروف التي أدت إلى قتلها، وحقيقة علاقته بشخصيات هي جزء من حاضره وماضيه الذي لا يمكن له أن يقبض على حقيقته بسبب ذاكرته القصيرة.

ما يحدث في (تينيت)، أو حتى في (دنكرك)، هو عكس ما يحدث في (ميمينتو). في الفيلمين الأولين فإن اللعبة هي لعبة عبثية لا مكان فيها لتفاعل ذو معنى مع قصة تُثير اهتمامنا بشخصية أو شخصيات أو أي قضية محددة. هنا يتحول الإنسان وقضاياه اإلى مجرد “كومبارس” أو خلفية للإحتفاء بالحذلقة السينمائية كهدف للعمل السينمائي بحد ذاته. في هذا السياق، بقي فيلم (ميمينتو) يُمثل بالنسبة للبعض أكثر أفلام “نولان” قوة وإبداعًا وأقربها إليهم. وهذا لا يمكن فصله عن المكون الإنساني الذي طبع تعاطي الفيلم مع مسار وعواقب ضياع ذاكرة شخصيته الرئيسة.

فتركيز (ميمينتو) يبقى منصبًا على البناء السردي للقصة بالتفاعل مع ثيمة “الذاكرة الإنسانية” والسؤال الأساس لسيناريو الفيلم: ماذا يحدث عندما يُحاول رجل قُتلت زوجته ويُعاني من فقدان الذاكرة على المدى القصير، في ما إذا حاول التحقيق لمعرفة قاتل الزوجة ؟ هنا يُصبح من الصعب “التفركش” بمستنقع حذاقة البنية المبدعة نفسها، بل يُصبح التماهي الثيمي مع أسلوب السرد أساسًا للفيلم نفسه. فعبر القصور المتعمد في تسريب وتركيب تفاصيل القصة، يدفعنا الفيلم باتجاه تقصي تلك التفصيلات بنفسنا وذلك عبر محاولة ربط مرجعيات الماضي مع مجابهات ومرجعيات الحاضر الدائمة التراكم. وهو بالتالي لا يسمح لنا بأن نفلت من “الصحبة” التي قمنا ببنائها عبر متابعتنا للمسيرة المأساوية للحياة المقطعة الأوصال لشخصية “ليونارد شيلبي”؛ (غاي بيرس).

بدايات “نولان” إذا اقترنت بتقديم أحد أهم تعابير الإبداع السينمائي عن مرحلة ما بعد الحداثة، والتي وصلت إلى أوجها بشكل خاص في أعقاب إنهيار الاتحاد السوفياتي في تسعينيات القرن الماضي. واتسمت تلك المرحلة بالطغيان الفكري والسياسي والمعرفي وعلى كافة المستويات الثقافية الشعبية منها والنخبوية، لمقولات “نهاية التاريخ” و”نهاية الإيديولوجيات”، وبالتالي نهاية أي إمكانية لإحداث أي تغيير ذو أبعاد جذرية في الواقع الجديد لعالمنا. وفي سياق هذا التصور، فإن العالم يعيش اليوم في عصر الهيمنة المطلقة للنظام الرأسمالي الغير قابل لأي تحدي أو مجابهة. أما البديل، فهو مزيد من الشيء نفسه، والمراوحة في خضم الأزمات التي من الممكن أن تتفجر من وقت إلى آخر إلى أن نتعود على التأقلم معها لتُصبح جزءًا من حالة عادية.

وبنفس الأهمية، فإن الفكر السياسي الذي اقترن بالعديد من الطروحات التي كانت تتداولها أوساط تصف توجهاتها بالما بعد حداثية وعبر عن قناعته بمقولة نهاية التاريخ وعدم إمكانية فرز أي تغييرات بنيوية أساسية في الواقع الاجتماعي والسياسي الذي تعيشه البشرية، كان يُعبر أيضًا عن قناعته بأن محاولات الغوص في تقصي التاريخ أو البحث في غياهب ما يوصف بالذاكرة الجمعية للشعوب وكل ما يمت إليهما بصلة، ما هي إلا جزء من نزعات تخفي توجهات “إيديولوجية شمولية” لا طائل أو فائدة منها. وانسجامًا مع هذا التفكير، أصبح التدوير العبثي، سواءُ في السياسة أو في الاقتصاد أو في الفكر أو في الفن هو البديل “الإبداعي” الوحيد الذي نستطيع العمل من خلاله في هذه المرحلة. من هنا كان احتفال بعض ما بعد الحداثيين بفكرة “اللعب العبثي” و”التفكيك” في حيز ما هو قائم ومتوفر، وذلك كهدف وكنمط حياة ومنهج فكري شامل لعملهم. هذه الطروحات الفكرية تقاطعت مع طروحات فنية كانت تتراكم منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي والتي عبرت عن نفسها سينمائيًا بالتفكيك وإعادة التدوير الجنري والخلط بين مرجعيات الزمان والمكان. ولنفهم بشكل أعمق ما مثله فيلم (ميمينتو)، سيكون من المفيد لنا أن نستطرد قليلاً فنعرج لنضع أنفسنا في الأجواء الإبداعية للسينما في نهايات القرن الماضي، وكيف يمكن لهذه التجارب أن تكون قد شكلت مساحة لظهور فيلم “مشغول” كليًا بفكرة “إعادة التركيب” عوضًا عن فكرة “التفكيك”.

04 – سينما ما قبل “ميمينتو”

يمكن رصد عدد من الممارسات التي جرى التعاطي معها في إطار تمثيلها للفكر الما بعد حداثي، خصوصًا في العقدين الآخيرين للقرن الماضي. من ضمن هذه الممارسات، الاتجاه للخلط المتعمد والواسع في ما بين معادلات لأنواع جنرية متنوعة، أو الاستعارة الواضحة من أفلام أخرى، أو استعمال النبرة العامة لأعمال فنية أخرى، كل ذلك في إطار الفيلم نفسه. وإحدى الممارسات المتكررة هي الاحتفال بتقديم الأحداث بأطر مختلطة تاريخيًا ومكانيًا. مثل هذه الاتجاهات شملت رسم مكونات بصرية للسياق العام لسرد القصة تتسم بجمعها لمكونات آتية من فترات زمنية متباينة (خلفيات لفترات مستقبلية مع فرعونية مع تلك التي تقرن بالغرب الأميركي في أواخر القرن التاسع عشر)، أو مكانية مائعة (كمدينة من المستقبل تضم تجسيدات عمارة ومطاعم وأمكنة وملابس متشابكة في ترابطها على الرغم من تمثيلها لخلفيات عربية وصينية وأوروبية وغيره). في هذا الإطار من “البناء” السينمائي (الذين يعرفون أنفسم بأنهم ما بعد حداثيين يرفضون تعبير “بناء” ويصفون ما يقومون به “بالتفكيك”)، الاتجاه هو للتعبير عن حالة من التوتر الدائم بين التجسيد للأفكار أو الرموز البصرية والثقافية والاحتماعية من ناحية، وما تعودنا على وصمها به ضمن هيمنة ونفوذ توجهات سياسية أو فلسفية أو “أخلاقية” محددة.

وفي كثير من الأحيان يُطلق على هذا النوع الممارسة “الدمجية” للعناصر توصيف “اللعب” بالأدوات والمرجعيات. وإذا كان هذا النوع من هذا “اللعب” ليس غريبًا عن بعض التيارات التي اقترنت مع مرحلة الحداثة (السوريالية هي مثال على ذلك)، فإن التشديد هنا هو على “عبثية” اللعب والتأكيد على اعتباره بمثابة غاية بحد ذاته، والتي لا يجب أن يسمح لها بالإرتقاء إلى دعم أو تثبيت أو الاحتفال باتجاهات نظرية أو فكرية محددة. وعكس ما يتجلى في التقليد الفني المعروف بالمحاكاة الساخرة “Parody”، حيث يجري نوع من التقليد لأسلوب أو عمل فني محدد؛ وذلك بهدف انتقاده والتصويب على بعض مكوناته (أفلام المخرج ميل بروكس في السبعينيات على وجه الخصوص)، فإن ما يحصل في الممارسة الما بعد حداثية هو شيء آخر. فهنا يكمن نوع من الاحتفال العبثي بالمرجعية التي يجري التعاطي معها عبر ما يُطلق عليه عادة تعبير “Pastiche”؛ والتي يُعاد تدويرها جزئيًا أو بشكل عام. وهذا لا يرتبط بالضرورة بالتعبير عن توجه إيجابي، أو سلبي، أو حتى “حيادي” تجاه هذه المرجعية أو ما ترمز إليه أو تُمثله.

والعديد من الأفلام الهامة بنت، عمدًا أو عن غير قصد، قاسمًا مشتركًا لملامح ثيمية وفنية طبعت العقد الثامن والتاسع من القرن الماضي. ولعل فيلم “ريدلي سكوت” عام 1982 (Blade Runner) مثل نقلة نوعية في رسم معالم الفيلم ما بعد الحداثي؛ خاصة لجهة دمجه “العبثي” ما بين مظاهر عوالم من المستقبل والحاضر والعابرة للمكان وللآثنية وحتى للهوية “الإنسانية”؛ والتي تتحول بدورها إلى ساحة للصراع على الهيمنة بين شقين: الآلي والبشري. والفيلم يُجسد لنا مدينة متهالكة تُعاني من التآكل والفراغ وهيمنة وسائل المراقبة التقنية على كل شيء فيها. أما فيلم (Blue Velvet) لـ”ديفيد لينش” عام 1986، فيدخلنا من بوابة ما يبدو حياة طبيعية في مجتمع معاصر نحو واقع مظلم من الفراغ النفسي الذي يستهلك نفسه إلى ما لا نهاية. ويستحضر “لينش” في الفيلم خليط من الأجواء السينمائية للخمسينيات والستينيات مع إعادة تدوير لأسلوب “النوار” الآتي من الثلاثينيات والأربعينيات، لكن هذه المرة من غير عنصر الإثارة الذي كان يُميزه. فيستبدله الفيلم بجو مشحون بالشك المزمن وبعدم القدرة على تمييز الواقع الحقيقي للشخصيات الرئيسة ولا أهدافها ولا الأسس “الأخلاقية” التي تحركها.

أما فيلم (Sex, Lies, And Videotape) لـ”ستيفن سودربيرغ” عام 1989، فقدم نوعًا من “التفكيك” الشامل للمجتمعات المعاصرة من خلال رصده لعالم الجنس في زمن “العلاقات الإلكترونية”. ومن خلال هذا الرصد نُعاين مظاهر عدة لتغير ملامح في رؤيتنا لنفسنا وللغير في ظل “مأسسة” وجود الوسيط التقني للعلاقات الإنسانية. وقراءة “سوديبرغ” للموضوع تُضفي عليه فنيًا طابع “إعادة التدوير” لأسلوب “الانعكاسية”؛ (Reflexivity)، الذي يبرز تقنية التصوير والمشاهدة كوسيلة للفت النظر إلى طبيعة السينما كتركيب مؤدلج. وهذا الأسلوب عرفناه من قبل مع “جان لوك غودار”. لكنه مع “سودربرغ” يكتسب بُعدًا جديدًا، لجهة تحول تقنيات التواصل إلى عنوان لواحدة من فتشيات المجتمعات المعاصرة.

بيد أن فيلم “كوينتن تارانتينو”؛ (Pulp Fiction) عام 1994، كان له وقع أساس لجهة ترسيخ العديد من المعالم التي اقترنت نظريًا بالتوجهات الفنية لما بعد الحداثة في إطار السينما. فكان نجاح أسلوب “تارانتينو” على المستوى الجماهيري في مقاومة احترام “أصول” السرد التقليدي؛ سواء في تجسيده لأزمنة وأمكنة وتراتبية الأحداث داخل سياق الفيلم، وعم التعاطف المسبق مع قيم أو شخصيات الفيلم، كل هذا كان له أثر هام في جعل هذا الأسلوب لصيقًا بالذوق الشعبي للسينما المهيمنة. بالإضافة لأسلوب السرد الروائي العام، فإن اتجاه الفيلم لاستحضار أنواع جنرية (وخصوصًا الكوميديا مع أفلام الإثارة البوليسية) وموسيقية متنوعة وإحالات لمراجع عديدة من أفلام أخرى ومن أزمنة مختلفة في تاريخ السينما كان له أيضًا دورًا مفصليًا في نشر وتعميم الاتجاهات التي اقترنت بما أضحى يُعرف بسينما ما بعد الحداثة.

ومنذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم؛ إزداد بشكل غير مسبوق تنوع مصادر الإقتباسات السينمائية لروائيات خارج نطاق الرواية والقصة بأشكالها التقليدية. ومن أهم الأمثلة في هذا المجال كتب “الكوميكس”؛ (Comics)، مثل (سوبرمان) و(باتمان) و(سبايدر مان) و(الإكس من) وغيرها، وألعاب الفيديو مثل: “سوبرماريو براذرز” و”بوكيمون” وغيرها. وبالرغم من أن هذه الإقتباسات السينمائية “العابرة للنصوص”؛ (intertext)، لم تستنفر الكثير من المناقشات التي شهدناها مع الأعمال الروائية الأدبية “التقليدية” والفيكتورية منها بشكل خاص، لجهة مواضيع “الإخلاص للنص” و”المشابهة” و”اللغة”، فإن تزايد هذه الإقتباسات أعاد التذكير بأهمية التعاطي مع موضوع الإقتباس في إطار التعامل مع النص نفسه عوضًا عن المضمون. فالتوسع الواضح في السينما “العابرة للنصوص” وتداخلها وتفاعلها مع مكونات ومصادر متنوعة بدرجات غير مسبوقة سواءً على مستوى الإنتاج، “النص”، أو على مستوى أشكال التلقي والمشاهدة ساهم بدوره في تحويل اهتمام المدارس النقدية والبحثية في السينما إلى اعتماد القالب والنص كأساس في منهجيتهم. وبطبيعة الحال، دفعت هذه المعطيات الجديدة باتجاه التعاطي مع موضوع الإقتباس السينمائي من قبل بعض الباحثين السينمائيين بتفاعل أكثر دينامية من ذي قبل.

وربما من أهم الأمثلة وأكثرها وقعًا على التوجهات السينمائية في فترة التسعينيات وما بعد؛ كان فيلم (Run Lola Run) لـ”توم تايكوير” عام 1998. الفيلم مبني على وقع مشابه لوقع لعب الفيديو، ويجمع بصريًا في ما بين السينما “الواقعية” والتحريكية ويستعمل صوتًا معروفًا في الثقافة الشعبية الألمانية لقصص الأطفال. ضمن هذا التوجه الملتبس في الأسلوب، يُضيف الفيلم تكريسًا للتوجهات النظرية ما بعد الحداثية، والتي تحتفي “بنسبية” الرؤية في قراءة الأحداث. حيث يُصبح تسلسل الأحداث التي تستتبع بدء لولا لركضها لإنقاذ شريكها، وتقديم لفيلم لعدة نسخ للقصة مع عدة نهايات، بمثابة رمز مجازي للاحتمالات التي تواجهنا في حياتنا ضمن عالم لم يُعد من الممكن التنبؤ بمفاعيله أو بصيرورته.

عدة أفلام أخرى أعادت رسم معالم ما بعد حداثية في تناولها للقصة السينمائية خلال مرحلة التسعينيات، ومن أهم هذه الأفلام التي يمكن الرجوع إليها في هذا الإطار: (The Big Lebowski) عام 1998، و(Fight Club) لـ”ديفيد فينشر” عام 1999، و(American Beauty) لـ”سام مينديز” عام 1999. كل هذه الأعمال ساهمت، كل من ضمن خاصيات ثيمية ونصية مختلفة، في إعادة رسم خطوط لسينما جديدة ولدت من رحم متغيرات مفصلية لرأسمالية متقدمة وأكثر سطوة وهيمنة على وعي من يعيش تحتها. هذه الأفلام عبرت إلى حد كبير حالة المراوحة والضياع والعبثية التي طبعت زمنها على وقع الزلزال الفكري الذي أصاب العالم بأشكال مختلفة منذ تسعينيات القرن الماضي. إلا أنها من ناحية أخرى ساهمت، كما أشرنا سابقًا، إلى توسع أشكال التعبير السينمائي وتداخل هذا التوسع بثقافة السينما الشعبية بما فيها السينما المهيمنة. وما توسع نفوذ سينما (مارفيل) في العقد الثاني للقرن الحالي إلا تعبير عن تراكمات التوجهات المغايرة المضمون والأسلوب الذي رسمت معالمه الأولى السينما ما بعد الحداثية لآخر عقدين من القرن الماضي.

05 – “ميمينتو” و”تينيت” أو وجهي مقاومة التفكيك المعرفي، أو التسليم به

(ميمينتو) كان واحدًا من أهم الأفلام التي تناغمت رمزيًا مع حالة الضياع الفكري المرتبطة بتصاعد لحالة فقدان الذاكرة الجمعية في واقع المجتمع الرأسمالي المعاصر. فالفيلم المبني سرديًا حول حكاية عن فقدان الذاكرة القصيرة المدى، ومحاولة الاعتماد على توظيف دلالات وإشارات سيميائية متناثرة لإعادة تركيب قصة فقدت وعاء الذاكرة الإنساني الذي إرتبطت به، حاكى إلى حدٍ كبير الحالة “اللاتاريخية” لذاكرة ما بعد الحداثة: هذه الذاكرة التي تميل إلى العيش من لحظة للحظة.

فالأوشام وصور كاميرا “البولارويد” المقرونة بكتابات وتعليقات عن أشخاص وأحداث، كما نراها في الفيلم، هي أشبه بومضات المعلومات المجتزأة والمبعثرة التي يجترها الكثيرون في عالمنا المعاصر خلال تتبعهم للعالم من خلال وسائل الإعلام السائدة والإنترنت وبشكل خاص من خلال وسائل التواصل الاجتماعي على اختلافها. فهذه المعلومات لا يمكن لها أن تكون ذات فائدة جدية على المدى البعيد أو حتى القريب أن لم يتم وضعها ضمن أبعادها وأطرها الأوسع والأشمل. وضمن هذه المحدودية في القدرة على إعادة تركيب الأحداث في سياقها الكرونولوجي، يتراوح مصير شخصية “ليونارد شلبي” في مكانه ليبقيه في النهاية ضحية تلاعب من يتمتعون بذاكرتهم وبالتالي قدرتهم على إعادة تركيب تفاصيل الأحداث في سياق الأطر التي تناسب رؤيتهم ومصالحهم.

في هذا السياق مثل (ميمينتو) إيقونة لسينما مستقلة جديدة وواعدة، استطاعت أن ترصد واحدًا من أهم تجليات حالة العجز التي هيمنت على عالمنا في مرحلة ما بعد إنهيار التجربة الاشتراكية السوفياتية. وهي الحالة التي كانت مفهومة من الناحيتين الاجتماعية والسياسية في المراحل الأولى للأحداث، لكنها تدريجيًا تحولت إلى حالة مرضية مزمنة يُسهم في تدويرها بشكل مباشروغير مباشر من قبل القوى الطبقية المهيمنة وضمن المقولات التي تحدثنا عنها سابقًا عن “نهاية التاريخ” و”نهاية الإيديولوجيات”. و”ميمينتو” جاء بتعاطٍ مختلف، في الفكرة وفي الأسلوب السردي، مع حالة المراوحة في مستنقع التفكير الآني وعدم القدرة على ربط القضايا ببعضها البعض. وفي هذا الإطار، قدم الفيلم مقاربة هامة لقصة عن محاولة منفردة ويائسة، وأن تكن في الواقع بطولية، لشخص يُحاول تحدي ما فرض عليه من خلل جذري في ذاكرته. وهذا التحدي ومحاولة إعادة تركيب كرونولوجيا تاريخه الشخصي، هو ما يستعيد لـ”شيلبي” بعضًا من هويته الإنسانية المفقودة في غياهب عالم مفترس لا هم له سوى استغلال حالة ضعفه وتشتت قدرته على الفهم المنهجي لواقعه وتاريخه.

وعلى مستوى المقاربة التأويلية، يتفاعل الفيلم بقوة مع حالة فقدان الذاكرة والعجز الفكري المزمن، الذي يُشابه إلى حدٍ كبير الحالة الإيديولوجية المهيمنة، خصوصًا لجهة تناغمها المباشر وغير المباشر مع تهميش الفكر النقدي والتاريخي تجاه مآلات حياتنا وواقعنا المعاصرين. فيُصبح عدم ربط القضايا ببعضها ورفض المقاربة العلمية لقضايانا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتركها “للمختصين”، من ناحية، كما “العبث” في الفكر وفي الممارسة، من ناحية ثانية، عناوين عامة لأسلوب تعاطينا المعرفي مع “الواقع” الذي نعيش فيه. وضمن هذه الرؤية تُصبح أي محاولة لمقاومة هذا الواقع والعمل من أجل تغييره، بمثابة ممارسة لا طائل منها ومجرد مضيعة للوقت.

في (تينيت) يتحول اللعب السردي العبثي بالدلائل والإشارات إلى هدف متكامل بحد ذاته، يتخذ هدفه القصصي والثيمي بُعدًا محدودًا. فبالرغم من براعة تصميم الإنتاج وتنظيم مشاهد الحركة وانفجارات المباني ثم استعادتها لشكلها ثم تفجيرها من الداخل، وتفجير طائرة حقيقية أمام أعين الكاميرا، وتحليق الطيور نحو الخلف، وتسيير الجنود وكأنهم يتبعون مشية “الموون”؛ التي إبتدعها “مايكل جاكسون”، وبالرغم من إنبهارنا بقيام شخصيات الفيلم بالقفز عبر الزمن بين المستقبل والماضي وما بينهما، فإن هذه الإنجازات البصرية للفيلم تبدو بعيدة عن إغناء أو مواكبة البنية العامة لقصة يفترض بشكل أو بآخر أن يكون لها معالم درامية وثيمية محددة يمكن التفاعل معها.

ويفقد القطع التوليفي ضمن هذا السياق ما يفترض أن يقوم به في إطار أي فيلم (وخصوصًا بالنسبة لفيلم هوليوودي) يعتمد على ربط منظومة المعلومات المبعثرة لتوضيح المسار القصصي العام للفيلم. وهذا لا يُطال فقط ربط القضايا التفصيلية العلمية المعقدة التي يرميها الفيلم يمينًا وشمالاً، بل يشمل أيضًا تعاطي الفيلم مع ربط قضايا بديهية ببعضها البعض، مثل، على سبيل المثال لا الحصر، كيفية وصول وسيلة نقل البطل إلى العالم المعكوس. مثل هذه المكونات السردية لا يمكن تركها من غير توضيح. بل إن ومضات الفيلم المدهشة بصريًا تتحول بالنهاية إلى مشاهد احتفالية يستعرض فيها “نولان” عضلاته التقنية والمالية لإثبات قدرته على إبهارنا وجعل تجربتنا مع تقنية “الآيماكس” أقرب إلى حالة “فتشية” خاصة تتجاوز الفيلم نفسه، وقصته التي نحاول متابعنها.

نحن هنا إذاً أمام لعب “حول القصة” بدلاً من أن يكون متناغمًا معها. الفيلم يجعلنا نُدرك أننا في سباق مع الزمن (سواء بالاتجاه نحو الماضي أو المستقبل) لإيقاف “الشرير” من تحقيق هدفه بإنهاء كل ما كان؛ وبالتالي إنهاء الوجود البشري نفسه. لكننا لا نفهم على سبيل المثال ماذا يعني هذا لا بالنسبة لـ”البروتاغونست” ولا لـ”الشرير” الروسي. وبالتالي فإن الفيلم يتركنا نُلملم بعض الاحتمالات لنعبث بها ليس إلا، لكن من غير أن يدفعنا للاهتمام جديًا أو وجدانيًا أو فكريًا بمصائر هذه الاحتمالات ومعانيها. بالنهاية، ما يبقى لنا من الساعتين ونصف من هذه الدوامة السينمائية لا يتجاوز التمتع باستعراضات لمؤثرات بصرية مبهرة تمر في سياق قصة مشتتة وغير مركزة، لا مرساة تشدنا إليها أو تشدها إلينا.

خاتمة

فإذا كنت مأساة فقدان الذاكرة الطويلة في أساس حالة الضياع والمراوحة التي تعيشها الشخصية الرئيسة في (ميمينتو) قد مثلت تعبيرًا بليغًا عن مكون إيديولوجي يطبع مرحلة الرأسمالية المتأخرة، فإن هذه المراوحة داخل الفيلم كانت أيضًا بمثابة حافز للمشاهد لمحاولة فك الطلاسم التي يزودنا شكل سرد القصة بها. بالمقابل، فإن اختلاط مسار القصة نفسها في (تينيت) يقود بالمشاهد إلى الاهتمام بشيء مختلف جذريًا. فيُصبح عامل الإثارة الرئيس رهنًا بمتابعة استعراض العضلات التقني في مشاهد الآكشن والمطاردة والانفجارات وما تحمله من رعشة تشويق وإنفعال أشبه بتلك التي نشعر بها ونحن نتسلى بألعاب الفيديو، ولكن على شاشة أضخم.

نحن هنا إذاً أمام مزيد من دق الأسفين في روح السينما كممارسة ثقافية إنسانية غنية ومتفاعلة مع واقعها. ويبدو أن “نولان”؛ الذي قدم ذروة إبداعه في أوائل عمله السينمائي حين جعل من الميزانية البسيطة للفيلم حافزًا لبناء تركيبة سينمائية يتكامل فيها الأسلوب مع الحبكة الدرامية والثيمة الإنسانية، قد وصل الآن إلى مرحلة تمخض فيها “معبود” ميزانيته الضخمة فلم يلد إلا المزيد من “العبث” الذي لا معنى ولا روح له.

السينما دائمًا تنحو باتجاهات جديدة وتُعيد تركيب نفسها أو تنفض عنها جذريًا طرقها وأساليبها السابقة، وهذا أساس جمالها وشعبيتها التي لا تتوقف. لكنها، كما قال المخرج “مارتن سكورسيزي”؛ في معرض تعليقه على ما تُمثله اليوم “أفلام مارفيل”، تبقى بالنهاية مبهرة بسبب قدرتها على تشويقنا للدخول في نوع جديد من الكشف الفني أو العاطفي أو الروحي. وهذا يرتبط بالنهاية بالشخصيات التي تقدمهم هذه السينما لنا وهم يواجهون تناقضاتهم، وأحلامهم، وآلامهم، وتقاطع تجاربهم.

نقلاً عن موقع “عين على السينما”

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة