خاص : عرض – سماح عادل :
في هذا الملف سوف نعرض الكتب التي أثارت جدلاً عند صدورها.. وكتاب (هوامش الفتح العربي)؛ للكاتبة المصرية “سناء المصري”، من تلك الكتب، حيث أثار ضجة كبيرة عند صدوره، لأنه يتناول الفتح العربي لمصر وملابساته وينقل رد فعل المصريين على ذلك الفتح، كما يرصد ثورات الأقباط التي أمتدت لمئة عام قبل حدوث الإنصهار بين المصريين والعرب الوافدين.
إنصهار إجباري..
يقوم الكتاب بدراسة أحداث القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني، حتى سقوط الدولة الأموية 132 هجرية، لأنها الفترة، في وجهة نظر الكاتبة، التي شكلت مقدمة الإنصهار “الإجباري” بين المصريين والعرب، وجسدت طرق القضاء على مقاومة الطرف المغلوب.. ويعتمد الكتاب ليس على المصادر العربية فقط؛ ولكن على مصادر قبطية أيضاً.
في الفصل الثاني بعنوان: “وقائع الفتح”؛ يقوم الكتاب بإستقراء أحداث الفتح العربي من خلال مصادر التاريخ العربي، أو ما يعرف بـ”كتب التراث”، والذي يؤكد أنها تغفل وجود الشعب القبطي أو أن ما يأتي على ذكر الشعب القبطي في مواضيع عابرة كدافع الجزية وللخراج، أي كممول خفي لحياة الصفوة التي تعيش بسيوفها ورماحها، فهي مصادر تقدم وجهة نظر الفاتح العربي المشغول بنفسه دائماً والحريص على إظهار صورته المعتدلة في الحكم، ويشير الكتاب إلى أن التعرف على وجهة نظر الشعب القبطي ليس سهلاً، لكنه ممكناً من خلال المراجع البالغة الندرة.
حيث أن هناك مؤرخ قبطي عاش في أواخر القرن السابع الميلادي وبداية القرن الثامن، وأشارت المصادر القديمة إلى أنه كان في 698 ميلادية شيخاً كبيراً، فعاصر في شبابه أحداث الفتح وسجلها في مخطوطة تحمل اسمه، (مخطوطة يوحنا النقيوسي)، تتكون من مئه وأثنين وعشرين باباً، وقد ظلت مخطوطة “يوحنا النقيوسي” مجهولة للدارسين العرب فترة طويلة، بينما جرى الإستشهاد بها في الدراسات الغربية.
مخطوطة “يوحنا النقيوسي”..
من القراءة الأولى للمخطوطة تلحظ الكاتبة عداء “النقيوسي” للجانب العربي من جهة، حيث يسميهم “الإسماعيليين” مرة و”المسلمين” مرة أخرى، ويظهر عداءه للجانب الروماني من جهة أخرى، ويتمنى “النقيوسي” أن ينزل عقابه على الجيش العربي وقادته بسبب ما فعلوه بالمصريين، مؤكداً على أن العرب أستطاعوا غزو مصر بسبب ضعف الحكم الروماني في ذلك الوقت، وبسبب كثرة الهزائم التي حلت بالرومان في المدن، ويشير إلى أن كثرة القتل والنهب التي أحدثها الجيش العربي خلقت حالة من الفوضى والذعر في كل مدن مصر، وأن المدن التي شرعت في المقاومة كان “عمرو بن العاص” ينشب النار في أسوارها وبيوتها وطرقها وزرعها، مثلما فعل بمدينة “دمياط”، وأحياناً أخرى كان قتل من يقف في طريق الجيش العربي من المدنيين وسيلة الجيش العربي في الإستيلاء، كما حدث عندما دخلوا مدينة “نقيوس” وأحتلوها ولم يجدوا أحداً من المحاربين، وكانوا يقتلون كل من وجدوه في الطريق وفي الكنائس، رجالاً وأطفالاً ولم يشفقوا على أحد.
وتضيف المخطوطة أنه وبعد وصول الجيش العربي إلى الإسكندرية “هدم بيوت السكندريين الذين هربوا وأخذ أخشابها وحديدها وأمر أن يمهدوا طريقاً من حصن بابليون حتى يصلوا به إلى المدينة ذات النهرين ليحرق هذه المدينة بالنار”، ويذكر “يوحنا النقيوسي” أن الجمهور المصري لم يأخذ وضع المتفرج السلبي الساكن أو الفأر المذعور دائماً أمام الإجتياح العربي، رغم أنه أعزل، بل كان نواة المقاومة في هذه المدن التي كان الحرق جزاءً لمقاومتها، وخصوصاً مدن الشمال، حتى أن “ابن العاص” مكث أثنى عشر شهراً يحارب المسيحيين الذين كانوا في شمال مصر، ولم يستطع فتح مدنهم وكانت طريقة التعامل لدى “عمرو بن العاص” في غزو مصر إما أن تخضع أو تحرق.
ابن المقفع..
يذكر الكتاب أن هناك قبطياً آخر اسمه “ساويروس”، هو نفسه “ابن المقفع”، الذي نعرفه، والذي كان متواصلاً مع الحضارة العربية وله كتب بالعربية، فقد ترهبن بعد ذلك وكتب مخطوطة له ذكر فيها الفتح العربي وأكد على وجود القسوة الشديدة في غزو مصر.
أسر وسخرة..
ثم تنتقل “سناء المصري” إلى المصادر العربية؛ مؤكدة على أن “الطبري” و”البلاذري” و”السيوطي” و”المقريزي” ذكروا ما يتفق مع ما قاله الأقباط، حيث يشير “الطبري” إلى أن الجيش العربي قد أسر أعداداً كبيرة من المصريين، وأن صفوف العبيد من القبط أمتدت من مصر إلى المدينة، حيث تنقل تلك الأقوال صورة الصفوف الطويلة من العبيد والجواري الذين أنتزعهم الجيش العربي من قراهم وبعث بهم، في ذلة وإنكسار، إلى مدن الجزيرة العربية بعد فقدان حريتهم، ويذكر “ابن الحكم” في كتابه (فتوح مصر وأخبارها) الخلاف الذي دار بين الخليفة “عمر بن الخطاب” و”عمرو بن العاص” حول وضع الأقباط، خصوصاً حين سمح “بن العاص” لهم بالبقاء في وظائف جباية الخراج وحساب الضرائب، مما جعل “عمر” يعترض وكتب إلى “عمرو بن العاص”: “كيف تعزهم وقد أذلهم الله”، وكان “عمر بن الخطاب” يريد استمرار عمل القبط في مصر في الزراعة والحرف و”يؤدون الجزية عن يدهم صاغرون”، مما يعود بالخير على بيت مال المسلمين دون أن يتقلدوا أية وظائف إدارية.
كما يشير “الطبري” إلى معاناة المصريين أثناء حفر “قناة أمير المؤمنين” في عمل أكبر أعمال السخرة الجماعية، وخوف “بن العاص” نفسه من هذا الوضع لأن تسخير آلاف المصريين في أعمال الحفر يسبب إنكسار خراج مصر وخرابها، ولكن حسم “بن الخطاب” دفع إلى استمرار العمل في ظل الظروف القاسية، حيث كتب إليه “بن الخطاب”: “أعمل فيه وعجل أخرب الله مصر في عمران المدينة وصلاحها”، ويؤكد “السيوطي” في كتاب (حسن المحاضرة)؛ على واقعة تسخير “بن العاص” للمصريين في حفر القنوات وإقامة الجسور، بالإشارة إلى أن “بن العاص”، “ألف قوة من المصريين عددها مئة وعشرين ألف عامل مهمتها الأولى العمل في حفر القنوات وإقامة الجسور والقناطر”.
ثورات القبط..
تستمر “سناء المصري” في الإستشهاد بالمصادر العربية، حيث تنقل رصد “المقريزي” في كتابه (المواعظ والإعتبار) سلسلة ثورات القبط من عام 107 هجرية، ويذكر “المقريزي” أمر زيادة الضرائب على القبط بما لا يستطيعون إحتماله، وثوراتهم ضد بعض الولاة وإسراع الولاة والخلفاء في قمع هذه الثورات بكل وسائل العنف الممكنة، فيذكر: أنه “لما قدم حنظلة بن صفوان على مصر في ولايته الثانية تشدد على النصارى وزاد في الخراج وأحصى الناس والبهائم وجعل على كل نصراني وسماً صورة أسد وتتبعهم فمن وجد بغير وسم قطع يده”.
ويؤكد الكتاب أن ثورات القبط زادت في أواخر عهد “الدولة الأموية”، وكلما تقدم الزمن كانت تفصيلات الإضطهاد والتعذيب تتضح أكثر فأكثر لدى “المقريزي”، الذي أكد على أن الحكام العرب كانوا يتمادون في فرض الضرائب ليس على الشعب فقط وإنما على الكنيسة ورجالها ويقبضون عليهم ويعذبونهم، كما حدث زمن “مروان بن محمد”، آخر الخلفاء الأمويين، ويروى أنه بمجرد إعلان “حفص بن الوليد”، 128 هجرية، إعفاء كل من يسلم من الجزية بادر حوالي 24 ألفاً من الأقباط وأعتنقوا الإسلام تخلصاً من قيود الجزية وشتى أنواع الضرائب والإضطهادات الأخرى، وقد ظلت ثورات الأقباط تتابع منذ 107 هجرية حتى عام 226 هجرية، حيث قمع “المأمون” قبط مصر ونكل بهم مما أدى إلى إنكسار شوكتهم.
اللغة القبطية..
بخصوص اللغة يبين الكتاب أن اللغة القبطية ظلت صامدة، خصوصاً في الريف خلال القرون الأربعة الأولى للفتح العربي، ويذكر “المقريزي” أن بعض نساء القبط في الصعيد كن لا يتحدثن إلا بالقبطية حتى الزمن الذي عاش فيه “المقريزي”، القرن التاسع الهجري، ويؤكد الباحث الأجنبي “ماسبرو” على أن بعض سكان الصعيد كانوا يتكلمون ويكتبون باللغة القبطية حتى السنين الأولى من القرن الـ 16 في أوائل حكم الأتراك، ويستنتج من ذلك “سليمان نسيم” أن نهاية القرن السابع عشر الميلادي شهدت إختفاء اللغة القبطية كلغة للحديث، وذلك في الصعيد الأعلى أقوى مراكز اللغة القبطية، وذلك لأنه بمرور الأيام وتوطيد دعائم الحكم العربي؛ كانت الحلقة تضيق على وضع الأقباط المصريين، وكان ضعف الكنيسة يتضح أكثر فأكثر.
حياد لا إبراز مساوئ..
تؤكد الكاتبة ” سناء المصري” على أن البحث في تاريخ فتح مصر وما تلاه من الحكم العربي لها؛ ليس بهدف إبراز مساوئ الفتح والحكم، ولا الإنتصار للشعب القبطي، ولكنها قصدت بالبحث الإجابة عن سؤال شغلها كثيراً، وهو كيف حدث الإنصهار بين العرب الوافدين من الشرق والمصريين المقيمين في الأرض ؟.. فتغيرت اللغة والمعتقدات وأصبحا شعباً واحداً، مؤكدة على أن رحلة الإنصهار لم تكن سهلة، وإنما مرت بأطوار العنف أحياناً والمهادنة أحيان أخرى وصراع إستغرق قروناً، وترى أن الكتابة عن أحد أطراف الصراع دون الآخر هو ظلم، فالكتابة عن غنائيات التسامح الإسلامي القادم على صهوات الجياد دون النظر إلى حالة الشعب المقيم خلل في التفكير يؤدي إلى نتائج ظالمة، كما أن التأثر ببكائيات الشعب المهزوم خلل آخر يعوق فهم الحالة ويتركنا أسرى حالة عاطفية مشوهة ومنقوصة.
مئة سنة مقاومة..
يؤكد الكتاب على أن أكثر من مئة عام دخل الأقباط خلالها في ثورات متتالية ضد حكامهم العرب، ولأنها كانت ثورات كبيرة لم يستطع المؤرخون العرب إغفالها وان حاولوا التقليل من شأنها بذكرها عرضاً، فـ”الكندي” في كتابه (الولاة والقضاة) أشار إلى ثورات الأقباط، وفهم مما أورده في كتابه أنه أمام الضغوط المادية المتمثلة في فرض الضرائب والضغوط المعنوية المتمثلة في إخراج غير المتحولين إلى الإسلام من بلادهم أشهر الناس إسلامهم حفاظاً على أموالهم وممتلكاتهم وأراضي أجدادهم.
الكنيسة وإمتيازاتها..
يذكر الكتاب أن “عمرو بن العاص” أحدث معياراً مزدوجاً في المعاملة واستخدمه استخداماً سياسياً، حين أعطى الكنيسة إمتيازات في نفس الوقت الذي طبق فيه قانون جباية الجزية والخراج على جموع الشعب القبطي، بل أن القبضة التي استخدمها “بن العاص” في تشديد سيطرته على الشعب كانت قبطية بالدرجة الأولى، بعد أن قرب أغنياء القبط إليه وترك لهم أعمالهم فأكرم الأعيان وسماهم مقدمي القبط واستخدم “موازيت” القرى أو المشرفين على جباية الضرائب من القبط، وبذلك خلقت تلك الإزدواجية، التي قسمت الشعب القبطي وظل أغنياء القبط حلفاء للحكام العرب يلعبون دور التهدئة وتمرير السياسات.
الكاتبة..
“سناء المصري” كاتبة مصرية.. صدر كتابها: (هوامش الفتح العربي) عن دار سينا عام 1996، وقد أستفز ذلك الكتاب الإسلاميين، كما كان اليساريين ينتقدوها بسبب كتابها (تاريخ الطبقة العاملة المصرية – ودور اليسار فيه) الصادر في مطلع التسعينيات، حيث عرت عملية الخصخصة من قبل الحكومة وعجز اليسار.
وكان كتابها الأخير: (تمويل وتطبيع – قصة الجمعيات غير الحكومية)، الذي صدر جزؤه الأول في 1998 والجزء الثاني في 1999، شائكاً أيضاً ومثيراً للجدل، حيث تناولت خلاله مافيا التمويل من أفراد المجتمع المدني.
ولقد دخلت “سناء المصري” خلال الثمانينيات في مواجهات عدة مع الإسلاميين؛ بسبب كتابها (المرأة خلف الحجاب)، الذي صدر في نهاية الثمانينات، وهاجمت فيه دعوات السلفيين إلى عدم خروج المرأة إلى العمل وحصر وجودها في المنزل، فقام السلفيون بالتهديد بإحراق الكتاب أمام أحد مساجد القاهرة.
رحلت “سناء المصري” عن عمر 42 عاماً، قضت معظمها في العمل العام، ما بين الشأن الثقافي والسياسي. وعرفت “سناء المصري” كوجه بارز في جيلها، الذي عمل في العديد من الفصائل اليسارية وداخل لجان الدفاع عن الثقافة الوطنية. وكانت ضمن فريق من المثقفين قد أتخذ مواقف راديكالية في شأن أسلوب وطبيعة العمل السياسي داخل أحزاب المعارضة.
بدأت “سناء المصري” حياتها بكتابة الشعر، إلا أنها سرعان ما أنصرفت عنه، وأتخذت بإبداعها مساراً مغايراً، تمثل في إنجاز عدد من المؤلفات المهمة، ومنها (موقف الجماعات الإسلامية من قضية المرأة)، الذي صدر في العام 1989، وتعرض للمصادرة ضمن كتب أخرى العام 1992.
وبعده بسنوات أصدرت كتابها (الإخوان المسلمون والطبقة العاملة)، وهو كتاب مكمل لكتاب آخر أصدرته أوائل الثمانينيات حول القوى السياسية وعلاقتها بالطبقة العاملة المصرية.
ورغم هذه الجهود المهمة، فإن “سناء المصري” ككاتبة، لم تلفت النظر بقوة خارج الأوساط اليسارية، إلا مع صدور كتابها (تمويل وتطبيع.. فقه الجمعيات الأهلية في مصر)، وهو كتاب واجهته النخبة المصرية بصمت كبير، لكنه بات كتاباً شهيراً حين أصبح مرجعاً يشار إليه في الحملات الصحافية التي أستهدفت كشف ممارسات هذه الجمعيات وأعتمادها على التمويل الأجنبي.