خاص : ترجمة – بوسي محمد :
في عام 1969، بعد ستة أعوام ونصف العام من سجنه لمدة 27 سنة، كتب “نيلسون مانديلا” رسالة إلى زوجته، “ويني”، جاء فيها: “منذ فجر التاريخ، كرمت البشرية واحترمت رجال ونساء مثلكم حبيبي – فتاة عادية تنحدر من القرية هي بالكاد تظهر في معظم الخرائط “. الرسالة هي واحدة من العديد من الرسائل التي كتبها “مانديلا” لزوجته “ويني”، التي لم يسبق نشرها من قبل.
بدأت قصة “مانديلا” مع السجن، منذ عام 1948، حيثُ استلم “الحزب الوطني” السلطة في “جنوب إفريقيا” في هذا الوقت، وكان لهذا الحزب سياسة معادية للعرق الأسود، فقد اعتمد في حكمه على سياسة الفصل العنصري بناءً على لون البشرة في كلّ تعاملات ومرافق الدولة، وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور حركات شبابية وطلابية مناهضة لسياسة الفصل العنصري، والقضاء على النظام العنصري، وأنضم “نيلسون مانديلا”، في منتصف الأربعينيات، إلى هذه الحركات التي نظمتها أحزاب معارضة، وأصبح بعد عدة سنوات رئيسًا لـ”حزب المؤتمر الوطني” المعارض.
ويعود تاريخ سجن “نيلسون مانديلا” الأول إلى سنة 1952؛ بعد أن تم اعتقاله من قبل سلطات الفصل العنصري بسبب دعواته وقيامه باحتجاجات عامة اكتسحت مناطق السكان ذوي العرق الأسود في “غوهانسبرغ”، حيث تم إيقافه تسعة أشهرٍ وأفرج عنه بعدها.
وفي عام 1955؛ بدأت مُحاكمته وعَددٍ من زملائهِ بتهمة الخيانة العظمى، وتمَّ سجن “نيلسون مانديلا” في سجن “غوهانسبرغ”، وأخذت قضيته تزداد حدة في أوساط الأحزاب المدنية والحقوقية في البلاد، إلى أن تم إصدار حكمٍ بالبراءة عام 1961.
فى عام 1962؛ تمَّت إعادة اعتقاله بتهمة قيامه بنشاط عسكري لقلب نظام الحكم والقضاء على حكومة التمييز العنصري، ونشر الفوضى في البلاد عن طريق دعم تنظيمات مسلحة، وصدر في عام 1964 حكم ينص على سجن “نيلسون مانديلا” مدى الحياة، وتم نقله إلى سجن يقع فى جزيرة “روبين”، حيث قضى مدة 18 سنة، مُعظمها كانت في الأشغال الشاقة.
رسائل “نيلسون مانديلا” المجهولة..
وقد حُكم عليه بالسجن مدى الحياة في تاريخ “جنوب إفريقيا”، عندما كانت الحياة تعني الحياة، وفي البداية كان يُسمح له بكتابة رسالة مكونة من 500 كلمة كل ستة أشهر، لأفراد العائلة فقط.
كتب “نيلسون” مسودات في دفاتر الملاحظات التي كان يحتفظ بها في زنزانته، (وفي وقت من الأوقات كان غاضبًا من اختفاء إثنتين منها). كان يعي جيدًا أن سلطات السجن ستؤخر رسائله – وأحيانًا لا ترسلها – وستعلق أو تصادر الردود، لكنه لم يعرف أبدًا ما إذا كان قد تم استلامها أم لا.
في إحدى المرات، عندما أدرك أن شخصًا ما لم يكن قد حصل على رسالته، قام بتجديده بكل عناية كما كان قبل عقد من الزمن. هكذا يمر الوقت ببطء في السجن.
كان “نيلسون مانديلا” رمزًا في وقته، وقد تم ترسيخه منذ وفاته كرجل جلب السلام لبلاده، وجعل من الغفران شيئًا ممكنًا.
كتاباته تنبض بإدانة متحالفة مع إنسانية ساعدت على صنع المعجزة في “جنوب إفريقيا”. وفي الوقت نفسه، تمنحنا لمحة عن حجم المعاناة التي عاشها هذا الرجل وعائلته.
بكلمات مؤثرة وقلب مكسور وعينان تملؤهما الدموع، أرثى “مانديلا” والدته التي توفيت وهو في السجن، وذلك بعد أن رفضت السلطات السماح له بحضور جنازة والدته، وهي الخسارة التي بقيت معه لفترة طويلة، في عدد من الرسائل، حيثُ كتب بعد سنوات من واقعة وفاة والدته، رسالة يصف فيها زيارة والدته له، ومشاهدته الأخيرة لها وهي تسير من السجن نحو الزورق الذي سيأخذها إلى البر الرئيس، وشعوره المفاجيء أنه لن يراها مرة أخرى.
يبدو أن العذاب كان مُصر على أن يزوره من حين لآخر، فقد تألم مجددًا بعد تسليمه برقية تخبره بأن ابنه “ثيمبي”، من زوجته الأولى “إيفلين”، الذي يبلغ من العمر 24 عامًا، قد توفي في حادث سيارة. يصف “مانديلا”، في رسالته، كيف تحول دمه إلى الجليد، كما كتب عن المكان الأخير الذي يجب أن يكون فيه الرجل المصاب بالحزن، لدفن ابنه أو لزيارة قبره. وبصورة حادة، يكتب عن آخر مشهد له مع نجله، “ثيمبي”، في عام 1962؛ قائلاً: “كان فتى مفعم بالحيوية.. كان يرتدي بنطلوناتي التي كانت فضفاضة عليه.. كان لديه الكثير من الملابس، ولم يكن لديه أي سبب لإرتداء ملابسي.. لقد تأثرت كثيرًا بسبب العوامل العاطفية التي كانت وراء تصرفاته”.
ها هو يكتب إلى أحد أقاربه، في عام 1971، قائلاً: “هل يبرر المرء إهمال أسرته على أساس التورط في قضايا كبرى ؟.. هل من الصواب أن يدين المرء الأطفال الصغار وكبار السن على الفقر والجوع أملاً في إنقاذ جموع البائسين في هذا العالم ؟”.
كيف تصرف “مانديلا مع بناته وهو في السجن ؟
أدرك “مانديلا” حجم الضغوط النفسية التي كان يعيشها أولاده بسبب غيابه عن المنزل ودخوله السجن، لهذا لم يُسمح لبناته، “زيني” و”زينزي”، بزيارته إلى أن بلغا 16 عامًا، ولكن لم يمنع هذا من ممارسة مشاعر الأبوه معهن، فكان يحرص وهو في السجن داخل زنزانته أداء واجباته الأبوية من خلال المراسلات.
في عام 1970؛ كتب “مانديلا” رسالة إلى نجله الثاني، “مكغاثو”، من زوجته الأولى “إيفلين”، ليوبخه بسبب إفتقاره للاعتزاز أو الضمير أو الإرادة أو الاستقلال.
وخلال عام 1971؛ كتب على غلاف رسالته إلى “زيني”: “كن مثل إلفيس، أذهب للرجل، أذهب”، أنه يأمل أنها كانت تستمع في الوقت التي تقرأ في رسالته إلى موسيقى “ميريام ماكيبا”، أو “بول روبسون” أو “بيتهوفن”.
وكتب رسالة إلى زوجة ابنه “ثيمبي” المتوفي، والتي لم يلتقي بها أبدًا، رسالة مليئة بالنصائح التي يقول فيها: “تذكر أن قبولك لنصيحتي لن يؤثر بأي حال من الأحوال على موقفي تجاهك.. أنت ابنتي في القانون، وأنا فخور بكِ للغاية”.
وكأن الموت يلاحق هذه الحروف، كتب رسالة حزينة مفاداها: “يجب عليك أن تكون محبوسًا في زنزانة السجن.. لتقدير الحزن المشلول الذي يستولي عليه عندما يقترب منك الموت”.
ويكتب رسالة اعتذار لزوجته الثانية، “ويني”، التي تم اعتقالها 200 يوم، قائلاً: “في مرحلة ما؛ كانت زوجتي محتجزة لمدة 200 يوم دون الحصول على حوض استحمام”. بسبب الهجوم عليها من قبل الدولة ومن قبل أشخاص مجهولين، ونفيها لأجزاء من البلاد، فهي انتصرت على مضطهديها.
وفي عام 1962، كتب رسالة إلى بلاده يقول فيها: “لا شيء يمكن أن يكون قيمًا ولا يتجزأ من تشكيل تاريخ البلد”.
وعبر رسالة تعزية إلى أرملة “ألبرت لوثولي”، وهو رئيس “حزب المؤتمر الوطني” الإفريقي، كتب “مانديلا”: “محاربًا عظيمًا؛ قد انتقل من المرحلة إلى التاريخ”.
عمل “مانديلا” على حماية الاقتصاد الوطني من الإنهيار، ووضع خطة لإعادة اعمار البلاد وتنميتها. وفي عام 1996، وقع “مانديلا” على مرسوم تشريع دستور جديد للبلاد، وأنشأ حكومة مركزية قوية تقوم على حكم الأغلبية، مع ضمان حقوق الأقليات وحرية التعبير. وعندما حان موعد الانتخابات العامة سنة 1999، أعلن “مانديلا” عزوفه عن الترشح، ورغبته في ترك العمل السياسي. ولكنه استمر في نشاطاته الرامية إلى جمع الأموال اللازمة لتشييد المدارس والمراكز الصحية في المناطق الريفية من “جنوب إفريقيا”.
وفي سنة 2004، أعلن “مانديلا” رسميًا عن تقاعده من الحياة العامة، وعاد ليعيش في قريته “كونو”.
عقد “مانديلا”، في سنة 2007، اجتماعًا مع عدد من زعماء العالم بهدف تأسيس مجموعة عمل معنية بمعالجة جميع الأزمات والمشاكل التي تحدث في مختلف البلدان، أُطلق على هذه المجموعة اسم “مجلس الحكماء”، وقد تمثلت أهدافها في نشر السلام في العالم، وتحقيق المساواة بين الجنسين.
حرص “مانديلا” على مكافحة مرض “الإيدز”، الذي كان متفشيًا في “جنوب إفريقيا”. وكان ظهوره العلني الأخير في المباراة النهائية لكأس العالم سنة 2010.
وفاة “نيلسون مانديلا”..
عانى “نيسلون مانديلا” من أمراض عديدة؛ مثل “عدوى الرئة”، وتم إدخاله إلى المشفى عدة مرات خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة من حياته. وفي اليوم الخامس من شهر كانون أول/ديسمبر سنة 2013، توفي في منزله بمدينة “غوهانسبرغ”.