9 أبريل، 2024 3:48 م
Search
Close this search box.

كتاب ثورة يوليو بعد نصف قرن.. أهم انجازها التنمية الوطنية الذاتية

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص: قراءة سماح عادل

يقيم كتاب (ثورة يوليو بعد نصف قرن) للكاتب المصري ” د. رؤوف عباس” ثورة يوليو 1952، حيث يتناول سلبياتها وإيجابياتها، مقدما تحليلا أقرب إلى التحليل الماركسي، لكنه رغم ذلك يتحدث من موقع المدافع عن ثورة يوليو والمعدد لمزاياها.

ثورة شعبية..

يبدأ الكتاب بالحديث عن ثورة 1919 مؤكدا أنه كان لا بد من تفجر ثورة شعبية جديدة عام ١٩١٩، قام بها الشعب المصري بمختلف قواه الاجتماعية، وعبر فيها عن رفضه للاحتلال، وللظلم الاجتماعي، والهيمنة الاقتصادية الأجنبية، واتخذت تلك الثورة طابع العنف، ولكنها انتهت بالحصول على استقلال منقوص، وباعتماد “التفاوض” سبيلا لإنهاء الوجود الأجنبي، وهو أسلوب طال أمده حتى أنهته ثورة يوليو ١٩٥٢.

ويوضح الكتاب أنه فيما بين الثورتين: ثورة ١٩١٩ وثورة يوليو ١٩٥٢ شهدت مصر مولد تيارات سياسية وطنية مختلفة، تزعمها الشباب الذي عاش ثورة ١٩١٩ بوعيه أو شهد أحداثها، وراعه ما أسفرت عنه من تبديد التضحيات التي قدمها الشعب في تلك الثورة، فقد استمر وجود الاحتلال البريطاني واستمر الاقتصاد المصري رهينة في يد الأجانب، رغم المحاولة الرائدة التي قام بها طلعت حرب لبناء اقتصاد وطني من خلال مشروع بنك مصر.

فقد كان الهيكل القانوني الذي يعطي مساحة واسعة لرأس المال الأجنبي (فيما عرف بالامتيازات الأجنبية) يقف سدا منيعا في طريق بناء اقتصاد وطني، ولعب كبار الملاك الزراعيين دورا سلبيا في المجالين السياسي والاقتصادي بحكم ارتباط مصالحهم كمنتجين للقطن مع تلك البنية التي أرسى قواعدها دستور ١٩٢٣ م.

النخبة الاجتماعية..

ويفصل الكتاب ذلك بأنه  انعكست ظروف نشأة وتطور النخبة الاجتماعية التي قادت العمل السياسي في مصر قبل ثورة ١٩٥٢، على درجة نضج وعيها الاجتماعي والسياسي، وكان لذلك أثره على خياراتها عند وضع أسس النظام السياسي الذي صاغته في دستور ١٩٢٣، فجاء تعبيرا عن مصالحها، ولم يأت تجسيدا لمصالح الجماهير الشعبية التي لعبت الدور الرئيسي في ثورة ١٩١٩، وعبر عن نوع من التوازن السياسي، لعبت فيه قوى القصر والإنجليز وكبار ملاك الأراضي الزراعية الدور الأكبر، ومن ثم النظام السياسي الذي أرسى هذا الدستور دعائمه، تعبيرا عن هذا التوازن وتأكيدا لاستمراره.

وقد أعدت الدستور لجنة إدارية شكلها الملك فؤاد، ولم يعهد به إلى جمعية وطنية تأسيسية منتحبة، وصدر بمرسوم ملكي على شكل منحة من الملك للشعب، ومن ثم كان من حق الملك أن يسترد ما منح وقتما شاء، وهو ما حدث بالفعل في الانقلابات الدستورية الشهيرة التي وقعت جميعا في عهد الملك فؤاد. وهكذا كانت الديمقراطية الليبرالية التي عرفتها مصر في ظل دستور ١٩٢٣، ديمقراطية وهمية، وكان الحكم بيد القصر، تمارسه نخبة محدودة من الشريحة العليا للبورجوازية المصرية، ربطتها بالقصر روابط التحالف والمصالح المشتركة، واحتدمت المسألة الاجتماعية احتداما شديدا، نتيجة تركز الملكيات الزراعية في أيدي نصف بالمائة من جملة عدد  ملاك الأراضي، مع وجود قاعدة عريضة تضم نحو ٨٠% من سكان الريف كانوا من الفلاحين المعدمين.

فاتسعت الفجوة بين الغنى والفقر بدون أن تطرح السياسات الاجتماعية التي تعالج مضاعفات هذه الظاهرة التي كانت بالغة القسوة، ولا أدل على ذلك من استمرار هبوط متوسط الدخل القومي للفرد، وذهاب ٦١ % من الدخل القومي إلى جيوب شريحة النصف بالمائة من الملاك عام ١٩٤٥، بينما كان متوسط أجر الفلاح في العام لا يزيد عن أربعة عشر جنيها وفق إحصاءات ١٩٥٠، بينما كان أجر العامل الصناعي لا يزيد على خمسة وثلاثين جنيها في العام. وكانت تلك الأجور المتدنية لا تكفي إلا لسد نصف ما تحتاجه أسرة مكونة من زوجين وأربعة أطفال (وهو متوسط حجم الأسرة عندئذ) من طعام وكساء فقط وفق الأسعار الرسمية وليس أسعار السوق السوداء، أي أن السواد الأعظم من المصريين (الفلاحين والعمال) كانوا يعيشون دون الحد الأدنى للكفاف بمقدار النصف تقريبا.

ولا عجب أن تشهد الحقبة الواقعة بين ثورتي ١٩١٩ و ١٩٥٢ بعض مظاهر الرفض الاجتماعي من جانب الطبقات المسحوقة، فإن ضغوط الحياة كانت تدفعهم إلى التمرد على واقعهم الاجتماعي التعس في صورة هبات تلقائية عفوية غير منظمة، سرعان ما يتم سحقها، وإنزال أشد العقاب بالمشاركين فيها دون الاهتمام بحل المشكلات التي قادت إلى تلك الحوادث. ولعل افتقار الفلاحين إلى القيادات السياسية الواعية، وإلى الخبرات التنظيمية والنضالية، وغياب الوعي الطبقي عندهم، يشكل الأسباب الجوهرية لفشلهم في تنظيم حركة للدفاع عن مصالحهم في مواجهة كبار الملاك، وهي أسباب يرجع إليها فشل الهبات التي قام بها الفلاحون في الريف المصري هنا وهناك، كلما اشتدت وطأة الظلم الاجتماعي، وضاقت سبل الحصول على القوت.

ثورة يوليو وغياب الإيديولوجية..

يذكر الكتاب أنه في أول كتاب عن الثورة ضمنه مجموعة مقالات نشرت بمجلة “التحرير” التي صدرت للتعبير عن الثورة، ذكر أنور السادات في الكتاب الذي حمل عنوان “صفحات مجهولة من تاريخ الثورة”، أن من أهم أسباب نجاح الضباط في التدبير لحركة الجيش “المباركة”، أنه لم تكن لأي منهم أيديولوجية معينة، ولذلك لم تجمعهم الأيديولوجية ولكن جمعتهم الصداقة الحميمة، وهذه “الصداقة” كانت وراء نجاحهم فيما قاموا به، ويبدو أن السادات أراد أن يخفي الأيديولوجية الغالبة على معظم أعضاء تنظيم “الضباط الأحرار” وهي أيديولوجية الإخوان المسلمين ومصر الفتاة والحزب الوطني الجديد، والجماعات الماركسية، وهي تتفق جميعا في موقفها المعادي لليبرالية، والتعددية الحزبية، ويتفاوت موقفها من الدستور من الرفض التام عند الإخوان المسلمين إلى القبول بالفكرة من منظور معين عند الآخرين.

فقد كان تنظيم “الضباط الأحرار” جبهة وطنية ضمت الضباط من مختلف الاتجاهات السياسية والأيديولوجية، لها هدف محدد وهو تحقيق الاستقلال الوطني والقضاء على الفساد السياسي وتحقيق العدل الاجتماعي.

ويؤكد الكاتب أن الحديث عن ثورة يوليو بعد خمسين عاما من قيامها، حديث عن تجربة عربية تمت في سباق تاريخي معين، وفي عصر الصراع بين الاستعمار وحركات التحرر الوطني من جهة، وبين القوى الغربية والمعسكر الاشتراكي من جهة أخرى. عصر أوجده نظام عالمي جديد (إن شئنا استخدام المصطلح الذي شاع استخدامه) وقام ذلك النظام من حطام الحرب العالمية الثانية، ليهيئ المسرح لحرب من نوع جديد هي “الحرب الباردة” عالم تصارعت فيه السياسات والأيديولوجيات، وراحت فيه الشعوب التي عاشت على هوامش الدنيا تحاول أن تجد لنفسها مكانا مقبولا في تلك الدنيا التي صنعوا هم وآباؤهم وأجدادهم رغدها وثراءها.

نظام ديمقراطي..

ويتناول الكتاب أهم سلبية للثورة موضحا أنه ورغم أن ثورة يوليو كانت ثورة شعبية قادتها طليعة عسكرية، وأنها كانت دائما منحازة لمصالح الجماهير الشعبية من الفلاحين والعمال والطبقة المتوسطة الصغيرة إلا أن الثورة عجزت عن وضع أسس لنظام ديمقراطي يكفل الرقابة الشعبية على أجهزة الدولة، ويطلق المبادرة الجماهيرية من عقالها. ورغم أن عبد الناصر توصل إلى صيغة تحالف قوى الشعب العامل إلا أن التجربة الفعلية لم تتضمن وضع صياغة تنظيمية صحيحة تتيح لتلك القوى الاجتماعية المشاركة الحقيقية في صنع القرار والتعبير عن مصالحها، وهي سلبية خطيرة ترتبت عليها كوارث سياسية.

فعندما تعرض النظام للخطر (في عام ١٩٦٧) لم يكن للتنظيم السياسي المسمى ” الاتحاد الاشتراكي العربي” دور ملموس، بعدما تحول إلى كيان بيروقراطي مترهل ومتسلط. ولذلك علينا أن ندرك أهمية الديمقراطية بشقيها السياسي والاجتماعي في صياغة مشروعنا القومي في المستقبل الذي يجب أن يفسح المجال للقوى الاجتماعية المختلفة للتعبير عن

نفسها والمشاركة الفعلية في صنع القرار من خلال صناديق اقتراع تعبر تعبيرا فعليا وواقعيا عن إرادة الناخبين وليس إرادة الإدارة التي تتولى إجراء الانتخابات، وتقدم نتائج حقيقة لعملية الانتخاب وليس نتائج مفبركة.

ويرتبط بهذا التخلص من “ثقافة الخوف” التي خلفها تعاظم دور أجهزة الأمن وتعددها، وهو أيضا من سلبيات تجربة ثورة يوليو، فقد كان الهاجس الأمين، وتعدد الجبهات التي دار عليها الصراع داخليا وخارجيا إلى الاعتماد على سلسلة من الأجهزة الأمنية التي اختص كل منها بمجال معين، وكثيرا ما تداخلت المجالات وتقاطعت، وكثيرا ما وقعت تجاوزات من جانب تلك الأجهزة لسلطتها على نحو ما اتضح في محاكمات ما بعد هزيمة عام ١٩٦٧ . فلا يمكن أن تكون هناك ممارسة ديمقراطية حقيقية في غياب الحريات الشخصية، وإنما يجب أن يحسها المواطن ويمارسها، وأن يحظى باستخدام كل وسائل التعبير عن رأيه طالما كان ذلك لا يخالف القانون.

الاستقلال الوطني..

ثم يبرز الكتاب الإيجابيات مؤكدا على أنه ورغم تلك السلبيات، عمرت تجربة ثورة يوليو بالإيجابيات فيما يتعلق بحماية الاستقلال الوطني في مواجهة التوسع الإمبريالي والصهيونية، كما كانت لها تجربة نافعة في مجال التنمية الذاتية، يمكن أن ننتفع بها عند صياغة سياستنا الراهنة والمستقبلة رغم تغير العصر واختلاف الظروف.

فقد رأت ثورة يوليو أن مختلف أنواع الارتباط بمخططات القوى الكبرى الدفاعية يعني العمل كأداة لخدمة مصالح تلك القوى، ويتنافى تماما مع الاستقلال الوطني. لذلك حاربت بشراسة الأحلاف رغم ما جره ذلك عليها من متاعب وما سببه لها من أزمات. ولعل ما نراه اليوم من تناقص لوزن العمل السياسي العربي. ولا شك في أن الروابط الإستراتيجية بمختلف مسمياتها مع القوى الكبرى تؤدي إلى تآكل قدرة النظام السياسي على ممارسة حقوق السيادة الوطنية، وترهن إرادته لصالح تلك القوى، وتضيق مجال حركته وقدرته على الدفاع عن سياسته الوطنية، وتجعله يرقص دائما على إيقاع أنغام لا يطرب لها.

وفهمت ثورة يوليو الصهيونية على حقيقتها، لا باعتبارها “ربيبة الاستعمار” أو “حارسة للمصالح الإمبريالية” في المنطقة، ولكن باعتبارها شكلا من أشكال التوسع الإمبريالي الاستيطاني، ولذلك لم تقبل ثورة يوليو بالتورط في مشروع التسوية السلمية الذي عرضه الغرب عام ١٩٥٤، لأنها تدرك جيدا أن هذه البؤرة السرطانية لا بد أن تتورم على حساب جيرانها، وبهذا الفهم كانت خطة ثورة يوليو لمواجهة التسلل الإسرائيلي في أفريقيا، واستخدام عبد الناصر مصطلح “السرطان” في وصفه لهذا التسلل في كلمته أمام أحد مؤتمرات القمة الأفريقية.

وحتى بعد كارثة عام ١٩٦٧، عكفت الثورة على إعادة بناء القوات المسلحة، ورحل عبد الناصر بعد أن وضعت خطة تحرير سيناء التي تم تنفيذها في ٦ أكتوبر عام ١٩٧٣ ، وكان يعني ما يقول عندما ذكر “أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”.

ويضيف الكتاب أنه لعل استفحال الخطر الصهيوني اليوم، وتحول الكيان الصهيوني إلى قوة إقليمية، تتغذى من ضعف الإرادة العربية خير دليل على أن تقييم الثورة وعبد الناصر للخطر الصهيوني كان سليما، فرغم معاهدة السلام مع مصر والأردن، والعروض العربية السخية والساذجة معا لتطبيع العلاقات والاعتراف وتقبيل الأيادي تمعن إسرائيل في غيها، وتمضي قدما في تنفيذ مشروعها التوسعي بمباركة الشريك والصديق والراعي الأمريكي الذي فرض هيمنته على المنطقة باحتلال العراق والسعي لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط دعما للدور الإقليمي لإسرائيل “الكبرى”.

وأخيرا، قدمت تجربة ثورة يوليو التنمية المستقلة كسبيل لبناء الدولة العصرية وتوسيع دعم قاعدة الاقتصاد الوطني. وكانت الصناعة قاطرة التنمية وخاصة الصناعات الإستراتيجية. وحتى رحيل عبد الناصر عام ١٩٧٠ كان حجم الدين المصري لا يتجاوز أربعة مليارات جنيه مصري، مثلت معظمها استثمارات في مشاريع صناعية منتجة، وقد تمت تصفية هذه التجربة في مصر كجزء من صفقة السلام مع الصهيونية، وتوطيد أواصر الصداقة مع أمريكا، واتساع النمط الاستهلاكي واتساع نطاق العجز التجاري. وشتان بين اقتصاد وطني لم يتحمل فقط أعباء ومتطلبات المجتمع المصري الذي تزايد سكانه، وإنما مول الحركات الوطنية في العالم العربي وأفريقيا دون أن يتورط في الديون على هذا النحو، وبين اقتصاد تابع يعاني خللا هيكليا، ويعيش أزمة خانقة.

إن إهدار تجربة التنمية الوطنية الذاتية يقود إلى التخلف، ربما قيل إن العصر جاء بقوانين أخرى للسوق، وإن بقاء الحال على ما كان عليه من المحال، ولكن أمامنا نموذج الصين التي حافظت على البنية الهيكلية لاقتصادها الوطني واستفادت من ظروف السوق الدولية حتى أن إحدى المجلات اليابانية الأسبوعية الشهيرة خرجت في يوليو عام ٢٠٠٢ تحمل عنوان “الصين مصنع العالم”.

.

 

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب