خاص: قراءة- سماح عادل
الوعي الأسمى عندما يصل إليه الإنسان يجعله يتوحد بالذات الكونية، ويندمج فيها، ويصل إلي السلام النفسي المستمر والدائم. هذا ما تناوله كتاب (اليوجا المصري فلسفة التنوير”المعرفة الروحانية”) للكاتب الأمريكي”د. مواتا آشبى” ترجمة “صفاء محمد”، وهو كتاب هام وكاشف.
أسطورة أوزوريس..
يحكي الكتاب عن أسطورة أوزوريس: “جاء في التراث الشفهي الذي انتقل عبر أجيال عديدة أن أوزيريس كان أول ملك يحكم مصر القديمة، وأنه هو و زوجته ايزيس كانا من الكائنات الإلهية “النترو”، وأنهم جاءا إلى أرض مصر لينشئا فيها الحضارة.
ملحوظة للمترجمة: لا يوجد أي دليل أركيولوجى من الحضارة المصرية نفسها على أن أوزوريس أو أي شخصية ورد اسمها في أسطورة ايزيس و أوزوريس هم شخصيات حقيقية من لحم و دم. لأن الأسطورة ليست قصة تاريخية، وإنما هي قصة ميثولوجية تتناول معاني ماورائية وتحوى علوما باطنية تتعلق بأحداث نشأة الكون. ولذلك فأشخاصها هم مجرد رموز لقوى كونية وكيانات الهية، وليسوا أشخاصا من لحم ودم.
توصلت الأبحاث الجينية الحديثة إلى أن كل أجناس البشر الذين يعيشون على الأرض حاليا نشئوا جميعا من قارة أفريقيا، ثم هاجرت جماعات منها إلى كل أنحاء العالم في العصر الجليدي الأخير “منذ حوالي 31 ألف عام”. فالجينات البشرية التي تعود إلى تلك الفترة تثبت أن البشر جميعا كانوا متشابهين في ذلك العصر العتيق.
فقد دلت بقايا الهياكل العظمية التي عثر عليها في مناطق مختلفة من العالم والتي تعود إلى العصر الجليدي إلى أن كل سكان العالم في تلك الفترة كانوا يحملون صفات الإنسان الأفريقي الذي يعرف باسم “جريمالدى” Grimaldi” .
هجرة البشر..
وعن انتقال البشر من بقعة أرض واحدة لأنحاء الدنيا يواصل الكتاب: “أثناء العصر الجليدي لم يكن ممكنا للبشر التواصل أو الهجرة. فاضطرت جماعات من البشر للبقاء في مناطق معينة لا تبرحها لقرون طويلة، حيث كانت عرضة للعوامل الجوية المختلفة في المنطقة التي تسكنها.
فكانت النتيجة أن سكان المناطق الأقل حرارة أصبحت بشرتهم تميل إلى اللون الأفتح، بخلاف أجدادهم الأقدمين أصحاب البشرة الداكنة. وبعد انتهاء العصر الجليدي أصبحت الهجرات والتنقلات ممكنة، فبدأ أصحاب البشرة الفاتحة الذين عاشوا قرونا في مناطق شمالية باردة في الهجرة جنوبا نحو المناطق التي نشأ فيها أجدادهم، ومن اختلاط أصحاب البشرة السمراء وأصحاب البشرة الفاتحة نتجت سلالة جديدة من البشر أي أصحاب البشرة المختلطة. لذلك، فان أصل البشر واحد وهم جميعا انبثقوا من سلالة واحدة، و لكن العوامل المناخية المختلفة هي التي أدت إلى اختلاف ألوانهم وملامحهم.
إن الظروف البيئية التي عاشتها كل مجموعة بشرية أثناء العصر الجليدي وبعده، هي التي أدت إلى الاختلافات العرقية بين البشر والتي تتمثل في اختلاف لون البشرة والشعر واختلاف العادات والتقاليد واللغات، وأيضا اختلاف التركيبة السيكولوجية والعاطفية في كل منطقة”.
أصل البشر..
ويضيف الكتاب عن أصل البشر: “إن الباحث عن أصل البشر سيجد إجابة سؤاله إذا فهم نشأة الكون كما فهمها إنسان الحضارات القديمة، وكما أدركها الحكماء، وهي أن كل شيء في الكون انبثق من أصل واحد. هذا الأصل هو ما يطلق عليه البعض اسم “الانفجار العظيم” بلغة العلم الحديث. بينما يطلق عليه البعض الآخر اسم “الكيان الأعظم” أو “الروح الأسمى” بلغة العلوم الباطنية.
طبيعة الروح..
وعن معرفة المصريين القدماء بالروح: “والمتأمل للنصوص المصرية القديمة كمتون الأهرام ومتون التوابيت سيجد أن هذه النصوص المقدسة كانت تدور حول العلوم الباطنية والروحانية التي توارثها قدماء المصريين عن “الأجداد”. فقد تناولت الكتب السماوية المصرية موضوعات مثل طبيعة الروح ومم تتكون، والطاقة الحيوية التي تغذى الإنسان، وخلود الروح، وإعادة التجسد، وقانون السبب والنتيجة “مسخينيت” والمعروف في الثقافة الهندية باسم قانون “الكارما”.
حول معاني الحروف الهيروغليفية:
تعود الكتابة الهيروغليفية لأصول عتيقة، تتكون الحروف الهيروغليفية من صور لحيوانات وأحيانا أجزاء من جسم الإنسان وأحيان أخرى تكون صور لأدوات الحرف اليدوية وخاصة أدوات النجارة. والكتابة الهيروغليفية لا تتكون من مقاطع لفظية، وإنما تعتمد على التعبير من خلال المعنى أو الانطباع الذي تركته تلك الصور على الوعي البشرى عبر أزمنة طويلة.
تستخدم الهيروغليفية صورا عديدة من الطبيعة مثل صورة الصقر أو التمساح أو الحية، أو أجزاء جسم الإنسان كالعين أو الوجه أو اليد. ارتبط الصقر في ذهن المصري القديم بالسرعة، لأن الصقر يطير بسرعة وهو من أسرع الطيور. بينما ارتبط التمساح في ذهنه بنوازع الشر الكامنة في النفس الإنسانية، في اللاوعي، لأن التمساح يتربص بفريسته تحت الماء ولا يظهر من جسده شيء، ثم ينقض عليها فجأة.
أما العين فكانت عند المصري القديم هي حارس العدالة، وأحيانا هي حارس الجسد. أما اليد اليمنى عندما تبسط إلى الأمام، فهي رمز استقطاب طاقة الحياة، بينما اليد اليسرى المقبوضة فهي رمز الحفاظ على شيء أو حراسته. وعن طريق التأمل وتدريب العين على ملاحظة أدق التفاصيل، يمكن للقارئ أن يعي رموز الكتابة الهيروغليفية.
عالم ثابت..
وعن وجود عالم ثابت وحقيقي يكمل الكتاب: “إن كل ما هو موجود في عالمنا “المادي/النسبي/ المتغير” بما فى ذلك أجسادنا، ما هو إلا انعكاس لعالم آخر “حقيقي/ ثابت”.. هو عالم الجوهر. وهو عالم من الفكر والطاقة. عالم من “الوعي الخالص”.
لذلك فإن من يبحث عن المعرفة الروحانية عليه أولا أن يتعلم كيف يتخلى عن الشخصانية والوعي الفردي، الذات الزائفة، ليستطيع رؤية الذات الحقيقية “الإلهية” الكامنة فيه وفي كل شيء حوله.
عليه أن يتعلم كيف يجعل مشاعر الحب لديه أكثر نقاءا و طهارة، بأن يتخلص من الأنانية والرغبة في التملك. وعندما ينجح في ذلك، فلن ترى عينه سوى حقيقة واحدة، وهي الروح الأسمى الكامن في كل شئ في الوجود.
تلك هي خلاصة تعاليم حكمة اليوجا. وبمجرد فهمها وإدراكها بالقلب وليس بالعقل حتى ولو بشكل جزئي يبدأ طالب اليوجا في التخلي شيئا فشيئا عن التعلق بالعالم المادي وما فيه من أشياء يرتبط بها عاطفيا، فيحيا حياته الدنيا وهو يعلم أنها مجرد تجربة قصيرة، وليست حقيقة مطلقة.
أن الحقيقة المطلقة في نظر المصري القديم هي في عالم الجوهر، العالم الذي تسكنه “النترو” الكائنات الإلهية. وقد عرفت الكائنات الإلهية في ثقافة شعوب ال “يوروبا” سكان نيجيريا باسم “نتو”، وفي ثقافة شعوب ال “دوجون”سكان مالى باسم “أمما”، وفى الثقافة الهندوسية باسم “براهمان”، وفي ثقافة التاو الصينية باسم “تاو”، وفي الثقافة البوذية باسم “دارماكايا”، وفي الثقافة المسيحية باسم “مملكة السماء”، وفي القبالة اليهودية باسم كيثر وفي ثقافة الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين باسم “الروح الأعظم”، وفي الثقافة العربية باسم “الله”.
إن من يعي مبدأ التخلي فلن يمزقه الحزن لفقدان شخص يحبه، لأنه سيعلم أن الشخص الذي يحبه لم يمت وإنما هو ارتحل من البعد المادي إلى بعد آخر من
أبعاد الكون، لكي يحيا حياة أخرى، ويمر بتجارب مختلفة عن تجاربه في العالم المادي.
فالتخلي عن الأشياء المادية الصغيرة وعن الشخصانية والرغبة في التملك يفتح لنا أبواب الاتصال بالكون بكل اتساعه ورحابته. كلما تخلينا عن حدود الأنا الضيقة، كلما اتسعت الرؤية وكلما ارتقى الوعي.
و كلما ارتقى الوعي، كلما كان بمقدورنا أن نصل إلى حالة من السلام الدائم والسكينة التي لا تفارق القلب أبدا. فالتخلي يحررنا من الرغبة الملحة في تملك الأشياء، ويجعلنا نحب كل الناس بدرجة متساوية، لأنهم جميعا تجليات الذات الواحدة الإلهية.
إن تعاليم اليوجا ومنها التخلي هي تعاليم كتبها معلمون روحانيون استطاعوا السيطرة على عقولهم وأجسادهم بطريقة أتاحت لهم الوصول إلى حالة أعلى من الوعي، والاتصال بالذكاء الكوني، وبالأصل الذي ينبع منه الكل.
وبعد أن وصل المعلمون إلى ذلك الوعي الأسمى، عادوا إلى عالمنا لكي يأخذوا بأيدينا ويقدموا لنا المساعدة، لكي نصل مثلهم إلى السلام الدائم والسكينة التي لا تنقطع.