16 نوفمبر، 2024 7:59 ص
Search
Close this search box.

كتابة الواقع (6).. ثرية تشعل شغف القاريء أم اكتشاف وحصر التجربة الإنسانية

كتابة الواقع (6).. ثرية تشعل شغف القاريء أم اكتشاف وحصر التجربة الإنسانية

خاص: إعداد- سماح عادل

حين يهم الكاتب بكتابة سيرته، أو سيرة آخرين، لابد وأن يفكر هل تلك التفاصيل الحياتية التي يكتبها ثرية بما يكفي للإبقاء على ذهن القاريء متيقظا وشغوفا؟، هل تمتلك رؤية واضحة للواقع مستندة على معرفة وموقف، هل تساعم في فهم ذلك الواقع وتقييمه؟، وفي النهاية هل تخرج في صورة نص جذاب؟

ولقد شارك في هذا الملف كاتبات وكتاب من مختلف بلدان الوطن العربي، وقد وجهت إليهم الأسئلة التالية:

  1. هل السيرة الذاتية صنفا من الرواية، هناك من يعتبرها خارج إطار الرواية، وما حجم إعمال الخيال المطلوب حين يكتب الروائي/ة عن ذاته؟
  2. ماذا يهدف الروائي/ة حين يكتب سيرته الذاتية وينشرها في كتاب؟
  3. هل جربت أن تكتب عن شخصيات محيطة من العائلة والأصدقاء، وهل انتابتك المخاوف من رد فعل من كتبت عنهم؟
  4. ماذا كان رد الفعل الذي قامت به شخصيات كتبت عنهم؟
  5. البوح، أم التعري والانكشاف، أم التوثيق لأحداث فارقة، أم اعتبار الواقع مصدرا هاما للكتابة هو ما يدفع الكاتب/ة لكتابة ذاته والآخرين؟

من الصعب قول الحقيقة..

يقول الكاتب الليبي “محمد مفتاح الزروق”: “ضمن التصنيفات المتعددة للكتابة الإبداعية يأتي تصنيفها من حيث الجنس حيث تقسم الكتابة الإبداعية إلى أربعة أجناس ضمنها الواقع الإبداعي Creative Nonfiction إلى جانب Fiction أو الخيال والدراما (وهي غير الخيال وقد تكون عملا واقعيا أو خياليا إضافة إلى الجنس الرابع وهو الشعر.

السيرة الذاتية صورة من صور كتابة الواقع إلى جانب المذكرات الشخصية، أدب الرحلات واليوميات. لا يمكن أن نعدها صنفا من الرواية لأن الرواية يفترض أن تعتمد على أحداث لا صلة لها بالواقع، فهي قول الواقع أما الرواية فهي قول الخيال أو قول الحقيقة عن طريق الكذب.

إن ما يجعل الرواية قريبة من السيرة الذاتية هو فقط طولها واعتمادها على ذات التقنيات السردية، غير أن السيرة الذاتية لا تتطلب (الكذب). إن الكتاب العرب مع احترامي لهم يعتمدون كثيرا على تزييف الحقائق أو التهويل لأن (الفضيحة) ليست بذات وزن لديهم، لكن لدى كتاب أوروبا والأمريكتين فإن وجود كذبة في كتاب قد تنسف مجهود الكاتب وقد تعرضه للمساءلة.

من الممكن لأي كاتب حتى لو لم يكن لديه أي إصدار سابق وحتى لو لم يكن معروفا، فالقيمة فيها ليست في تاريخ الكاتب الإبداعي السابق بل في قيمة العمل المنجز في سيرته الذاتية وما الذي يمكن أن يقدمه أو يضيفه. قد تكون تجربة الكاتب الشخصية ثرية حتى لو لم يسبق له إصدار أي كتاب”.

ويواصل: “هدف الكاتب عندما ينشر سيرته الذاتية في كتاب يختلف من كاتب إلى آخر فمنهم من يرى أن تجربته الشخصية (الحياتية وليس الإبداعية مدهشة وغير مسبوقة كما فعل الإعلامي والطبيب الليبي نزار المتجول عندما كتب (العودة من البرزخ)، ومع أن نزارا لم يسبق له نشر أي كتاب لكن هذه التجربة كانت مذهلة فقد (فارق فيها نزار الحياة وعاد) بحق وحقيق. وهو أمر لا يحدث دائما، وطالما نزار يمتلك أدوات الكتابة فله الحق في كتابة هذه السيرة.

ومنهم من يفضل أن يكون Ghost Writer لأشخاص يراهم هم مهمين، ومنهم من يرى أن تجربته الشخصية انعكاس لأبناء جيله أو دولته (التي لم تأخذ حقها من الاهتمام في المجال الإبداعي)..

إن نشر السير الذاتية والمذكرات والرحلات والتي تسمى اصطلاحا بأدب الواقع شبيه بكتابة أي جنس إبداعي الفيصل فيه هو النجاح في جعل القارئ يقلب الصفحة تلو الصفحة في شوق وشغف ليعرف الأحداث والخاتمة”.

ويضيف: “في الواقع لقد كتبت عن شخصيات حقيقية كثيرا.. هناك قول لأحد أساتذة الكتابة الإبداعية وهو: من الصعب قول الحقيقة حتى لوأردنا ذلك.. لكن الكتابة عن الشخصيات الحقيقية تقيدنا من حيث أن شخصيات الخيال يجب أن نقدم فيها الخير والشرعلى حد سواء أما الشخصيات الواقعية فعلينا ألا نكون محايدين.. علينا أن نتغزل بها إذاكانت تهمنا.. أما إذا كانت شخصية عامة فإن لنا بعض الحرية في التعامل معها.. لكن هجومنا عليها يجب أن يكون مدعما بالدليل.

بالطبع كتبت عن بائع الفاصوليا وعن خفير المدرسة وعن بعض لاعبي الكرة وبعض الإعلاميين وأساتذتي في المدرسة، مثلما كتبت عن القذافي والملك والسياسيين الذي سبقوهما أو أتوا بعدهم.. قلما وجدت استنكارا لدى الناس حول ما أكتبه، لأنني دائما أستند على وقائع غير قابلة للإنكار وتحليلي لها من منطلق عاطفتي”..

ويؤكد: “وعلينا ألا ننسى شيئا، أن بعض الكتاب يلجأون إلى مايعرف بالميتافكشن وهي مزج بين الخيال والواقع في تيه القارئ بينهما ولايستطيع أن يعرف أين الحقيقة لكن مقدرة الكاتب هي التي تسوقه وتشوقه ولعل الأصفرهو أحد أبرز كتاب الميتافكشن في بلادنا.. ولدي كتابات في هذا المجال مثل (جزيرة الأميرات) التي صنفها النقاد رواية غير أنني صنفتها ميتافكشن، وهنا بعض القصص القصيرة التي لايمكن أن أعدها خيالا ولا واقع مثل قصتي (الطريدة) التي  كتبتها قبل عشرسنوات في الأجواء فيما كنت طائرا من تونس إلى بنغازي”.

فن الحياة..

يقول الكاتب الفلسطيني”سليم النجار”: “إن السيرة الذاتية تقع في جذر المعرفة الإنسانية سواء كانت علمية أو عامية، إنها ترتبط بعمليات الإدراك والفهم، أي إنها مرتبطة بعلاقة الذات العارفة بموضوع المعرفة الحياتية، ولما كان عالم الإنسان كونًا من العلامات والرموز والعلاقات الاجتماعية، فإنه يصبح موضوعًا للبوح السردي وآلية للتواصل بين أفراد المجتمع، وعليه، كانت وما زالت السيرة الذاتية نتاجًا للثقافة وآلية لإنتاجها في الآن نفسه.

إن السيرة ممارسة يتوقف عليها بناء المعرفة الإنسانية، إذ لا تخلو منها أي ثقافة ولا ينفلت من أسرها أي تفكير، ذلك أن بناء المعرفة وإنتاج الثقافة وممارسة التفكير، كلها تقوم على التواصل، تواصل الذات مع الآخر، وتواصلها مع العالم بأشيائه ووقائعه، ولما كان التواصل يطرّد على طريقة التجاوز في التدليل والاستدلال، فقد لزم التأويل كآلية لإقامة هذا التواصل، وبالتالي لبناء المعرفة.

وبعد هذا، تمثّل السيرة مستودع الحقيقة المفروض أنها معطاة من قِبل كاتبها وفي ذات الوقت لا تُكتب عن ذات متعالية، هذا ومع شساعة التنظير وتطور البحث عن قراءة السيرة، لم تعد قراءتها مقصورة على نوع بعينه من أنواع الخطاب، بل أصبحت مثل استراتيجية تمتد إلى مختلف الضروب، الأفعال والسلوكيات الإنسانية التواصلية، وعلى رأسها التواصل اللغوي، سواء كان إيقاعًا فنيًا أو عاديًا يوميًا، ما دام الالتباس يمثل الخاصية الجوهرية لكتابة السيرة، ومهما يكن، فإن الاستعارة اللغوية ليست إلا حالة خاصة من حالات الظاهرة التواصلية، حيثُ تعتمد على إيصال المعنى بشكل غير مباشر للمتلقي الذي يذهب أبعد من المعنى الأصلي للجملة السيرية، ويعمل على تجاوز المعنى الحرفي بهدف تحقيق مقصوده التواصلي، ويقترح سيرورة التجاوز هذه على مخاطِبِه -أي كاتب السيرة-“.

ويواصل: “إن قضية توجيه الخطاب السيري وصرفه عن مدلوله المباشر إلى مدلول آخر اقتضته موضوعية التخاطب، قد تمثل قضية شائكة لا تخلو من مجازفة، فهي تنتهي إلى إفراغ الخطاب من محتواه الدلالي وتشحنه بما قد يمثل المقصود، وقد تكون عملية الإفراغ والشحن هذه ضرورية وجادة من أجل الفهم، وقد تكون مدعاة لسوء الفهم عن قصد أو عن غير قصد، ولتوضيح هذه الفكرة، نذكر بعض الكتّاب الفلسطينيين الذين كتبوا سيرهم، مثل الكاتب الراحل فيصل حوراني في أجزاءه الخمسة “دروب المنفى”، والثابت في السيرة على الأقل من وجهة نظري، أن الاختلاف الذي أثاره بعض الكتّاب حول دروب المنفى، هو أنها كانت تحمل في طيات سردها جرأة أكثر مما يجب، خاصة أن حوراني كتب سيرته قبل النكبة، فهو شاهد عيان على الأحداث السياسية الكبرى التي وقعت في فلسطين، وهذا الولوج لهذه الحقبة بالذات تكشف زيف الثقافة الشفاهية التي كانت شائعة بين الفلسطينيين بعد النكبة، في السنوات الأولى لحدوثها على وجه التحديد، والتي تكشف أن معظم الفلسطينيين لم يملكوا أراضي كبيرة كما كانوا يدّعون، فلو كانت هذه الروايات الشفاهية التي تتحدث عن أملاكهم صحيحة، لأصبحت مساحة فلسطين تساوي مساحة الصين.

هذا البوح الذي كتبه حوراني أثار حساسية مفرطة من قبل الكثير الذين اطلّعوا على سيرة “دروب المنفى”، فقد تجاوز الكاتب في هذا البوح، الدافع الديني أو السياسي أو غيره مما يدعو إلى تضارب الآراء والمواقف، إلّا أن خطاب البوح هذا إنما دافعه تواصليًا محضًا”.

ويكمل: “كما أن هناك ملاحظة تتعلق بما يمكن أن نسجله في علاقة الكتابة السيرية الفلسطينية والبوح، وهي أن الفلسطينيين تاريخيًا، لم يعطوا اهتمام يُذكر بكتابة السيرة أو التعاطي مع فن السيرة، ولو ذكرنا على سبيل المثال لا الحصر، أن معظم الكتّاب العرب والفلسطينيين بطبيعة الحال، عندما كانوا يؤكدون أحقية الفلسطينيين في أرضهم وهذا صحيح، كانوا يستشهدون بأحفادهم الكنعانيين، لكن الأغلب منهم تناسى أن الكنعانيين لم يولوا أي اهتمام لسرد تاريخهم، بل من فعل ذلك الفراعنة، وكل المصادر المأخوذة عن الكنعانيين مأخوذة من الفراعنة، وهذا القصور التاريخي في كتابة السيرة الفلسطينية يفسر عدم كتابة السير الفلسطينية إلا متأخرًا جدًا.

وعلى كل حال، فإن كتابة السيرة يساعدنا على اكتشاف وحصر قراءة التجربة الإنسانية ضمن إطار جغرافي ثقافي محدد، وهذا يعني أن كتابة السيرة إحدى مكوناتها الرئيسة تتشكل من عوامل خارجة عن إطار المكوّن المحلي اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا، كما أبدع الروائي العربي المغربي الراحل محمد شكري في رائعته “الخبز الحافي”، والذي كتب فيها سيرة المحتل الفرنسي بتشابكه مع سيرته الشخصية، وأقام زمنًا تواصليًا لا يقف عند حدود الحكم، فترك هذه المهمة للمتلقي.

لقد مارس شكري تأويلًا للسيرة على مستويين منذ الزمن البعيد، وقد كان اختلاف المستويين تجسيدًا لاختلاف التيارات الفكرية في المغرب، فحكّم العقل على رصد الحياة الاجتماعية واشتغل عليها، كان هذا المستوى الأول والثاني، فلم يكن هدف شكري التأويل من أجل التأويل.

إن كاتبنا شكري انتصر على غرائزه في الخبز الحافي، وقدّم المرأة التي تلعب بجسدها على أنها لعبة تحمل في تركيبتها الإنسانية أوجاعًا تفتح على الخارطة السياسية في زمن المستعمر الفرنسي، وهذه التجربة الوجودية التي تكمن وراء أغلب النصوص السيرية الجريئة، وهذا الوعي بدور الجسد الأنثوي، ما هو إلّا تمرد على الثقافة النمطية التي تنظر لجسد المرأة على أنه متعة بمختلف أشكالها الجنسوي والفضائحي، فالتمرد على هذه الثقافة ومحظوراتها، ليس من أجل حرية الجسد وحده، ولكن من أجل حرية الوعي وحرية الوجود وحرية الحياة ذاتها، وهذا ما ذهب إليه الروائي محمد شكري في الخبز الحافي”.

ويؤكد: “وبلا شك، إن التطرق إلى موضوع السيرة وعلاقتها بالواقع بوجه خاص والكتابة عنهما بالغ التعقيد، خاصة وأن المفاهيم المثارة والتواريخ المقترحة للبدايات والنهايات تتضارب وتتناقض، وأعتقد أن أفضل الطرق لطرح مثل هذه الموضوعات هو محاولة مقاربتها في إطار مجموعة من التساؤلات والاجتهادات التي تقبل الشك واختلاف الرؤى والتصورات، طالما أنه ليس هناك ثوابت أو حقائق يقينية يُعتد بها في هذا المجال، وهذا يذكرنا بمقولة نيتشه التي تؤكد لنا أن كل الحكم على الاشياء هوفي حد ذاته نوع من التفسير الجاهز..

ولعل السؤال الرئيس الذي يطرح نفسه علينا حينما يحلو لنا الإشارة إلى موضوع السيرة وعلاقتها بالواقع هو: ماذا نعني بعلاقة السيرة بالواقع؟ أهي كتابة السيرة من أجل السيرة؟ هذا ما حاول الإجابة عليه الكاتب الفلسطيني شفيق الغبرا في كتابة “حياة غير آمنة”،حيث تناول فيه تفاصيل الحياة اليومية للمقاتل الفلسطيني أثناء تواجدة في لبنان، وظهرت هذه التفاصيل على شكل سيري، وتناول أدق التفاصيل.

ليس من السهل وضع تعريف دقيق للعلاقة بين الواقع والسيرة،لأن مفهوم الواقع نفسه يتميز بكثيرمن التعقيد والغموض كما يرى الغبرا في سرده سيرة المقاتل الفلسطيني، وهذا التداخل في العلاقة بين السيرة والواقع، يحيلنا إلى زمن كان فيه النسق في القراءة عابر للأوطان والثقافات والممارسات الإبداعية.

كما أن الغبرا حوّل كلماته إلى خطاب مشروط بسياق إنتاجها وتلقيها، ولذلك، فهي لاتستطيع أن تفي الموضوع الممثل كل عناصره ومقوماته، فحتى عندما نقول بأنها تحل محلّ الواقع، فهي لايمكن أن تقول هذا الواقع إلى هذا الحد الذي يغدو فيه التمثيل مشابهًا أومماثلًا له، فالكاتب عندما يقوم بتمثيل موضوعه، فهو يحتمي أيضًا بالمخيلة من أجل إعطاء موضوعه الكثافة والدلالة والرمزية التي يتطلبها، كما فعل الدكتور شفيق الغبرا في كتابه الموسوم “حياة غير آمنة””.

وبجمل: “على هذا النحو، إن علاقة السيرة بالواقع تندرج ضمن الحركة الشاملة بكل همومها وأسئلتها ورهاناتها، يمكن أن يكون إسهامها لافتًا في تحرير الذات والمجتمع، وذلك بتشييد معرفة جديدة تستطيع أن تجعل من الواقع انتقاد لما هو قائم”.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة