15 نوفمبر، 2024 10:33 م
Search
Close this search box.

كتابة الواقع (19).. الواقع أشدّ غرابة من الخيال أم للتّخفف من عبء الذكريات

كتابة الواقع (19).. الواقع أشدّ غرابة من الخيال أم للتّخفف من عبء الذكريات

خاص: إعداد- سماح عادل

يجزم بعض الكتاب أن الواقع أشد غرابة من الخيال، لذا حين يحاول الكاتب تصوير ورصد ذلك الواقع، تنجح بعض الكتابات في إشعال خيال القارئ وجذبه لأن لعبة الواقع ربما تكون شديدة التعقيد ومراوغة أكثر بكثير من خيال أي كاتب.

شارك في هذا الملف كاتبات وكتاب من مختلف بلدان الوطن العربي، وقد وجهت إليهم الأسئلة التالية:

  1. هل السيرة الذاتية صنفا من الرواية، هناك من يعتبرها خارج إطار الرواية، وما حجم إعمال الخيال المطلوب حين يكتب الروائي/ة عن ذاته؟
  2. ماذا يهدف الروائي/ة حين يكتب سيرته الذاتية وينشرها في كتاب؟
  3. هل جربت أن تكتب عن شخصيات محيطة من العائلة والأصدقاء، وهل انتابتك المخاوف من رد فعل من كتبت عنهم؟
  4. ماذا كان رد الفعل الذي قامت به شخصيات كتبت عنهم؟
  5. البوح، أم التعري والانكشاف، أم التوثيق لأحداث فارقة، أم اعتبار الواقع مصدرا هاما للكتابة هو ما يدفع الكاتب/ة لكتابة ذاته والآخرين؟

الواقع أشدّ غرابة من الخيال..

تقول الروائية التونسية “نورة عبيد”: ” هذه أسئلة في سؤال تستحق أطاريح دكتورا. ومع ذلك أطلق النقد الحديث مصطلح “رواية” على “السّيرة الذاتيّة”. ولنا في تونس دكاترة أجلاّء اشتغلوا على هذا المبحث ومنهم الدكتورة “فوزيّة الصفار الزاوق وجليلة طريطر وشكري المبخوت وفتحي فارس”. ومع اختلاف النقاد فيما ذهبوا إليه. إلاّ أنّهم أجمعوا على أنّ ما يجعل السّيرة الذاتيّة رواية تلبّس المرجعيّ بالتّخييل. حتّى بدا الواقعيّ خياليّا. ولا يقاس الخيال بالحجم. ولا الواقعيّ كذلك. ذلك أنّ الخيال قد يتحوّل هو الأساس الّذي بنى معالم السيرة الذاتيّة إذ يتيح للكاتب القدرة على التّعبير عن وقائع ما كان له أن يجرؤ على ذكرها. وهو أيضا ما يمكّن الكاتب /الروائيّ من حجب ما يريد حجبه.

إنّ رواية السّيرة الذّاتيّة طرحت أسئلة وجيهة. لعلّ محصّلتها أنّ السّيرة الذاتيّة لا تقدّم واقعا وحقائق دقيقة بقدر ما تحجبها. لأنّ الخيال مكّنها- وهو هبة الروايّة- أن يقول ما يشاء بذات القدر على حجب ما يشاء. المهم أنّ المتقبّل هام بهذا الصّنف الروائيّ الّذي اهتمّ به النّقاد وما زالوا. وخرجوا بمحصّلات تنير درب القارئ والباحث المختّص. بينما القارئ الشّغوف بالمطالعة حسبه أن ينهل من مُتع القراءة”.

وتضيف عن هدف الروائي/ة حين يكتب سيرته الذاتية وينشرها في كتاب: “لا يمكن أن أحدّد غايات الكتّاب. لكن فيما قرأت من سير ذاتيّة للأحياء. وأذكر على سبيل المثال كتاب “طريقي إلى الحريّة” للدكتور حمادي صمّود. أنّ أستاذنا الجليل بالجامعة التونسيّة صوّر للقارئ حربا على الجهل والفاقة. ورسم للمتقبّل نشيد الانتصار. ووهبه طريق والنّجاح والفلاح. نجاح الفرد والجماعة وملحمة الحياة يتقصّدها صغيرا ويديرها كبيرا. سيرة ومسيرة نهلت من المرجعيّ وقائع وأمكنة وأزمنة وحوادث يذكرها القاصي والدّاني. تداولها الأجيال.

فالسّيرة الذاتيّة إذا كتبت لابدّ أن تكون فريدة وعظيمة. فيها نحت حقيقيّ للكيان حتّى تكون مرجعا للأجيال. ولتحقّق فرادتها وتداولها لابدّ أن تتوفّر على جماليّة تنهل من فنون الكتابة ألوانها. فليست غاية الكاتب التّعبير والتأثير. وإنّما غايته المحاورة والمجاورة. إذ للسيرة الذاتيّة مع وظيفتها المرجعيّة، وظيفة حجاجيّة نقديّة. تضع زاد العمر في ميزان التفكّر والتّدبّر والاعتبار”.

3وعن تجربة الكتابة عن شخصيات محيطة من العائلة والأصدقاء، وهل انتابتها المخاوف من ردّة فعل من كتبت عنهم تقول: “نهلت من هذا المعين. لم تكن الكتابة عن شخصيات من محيطي. بقدر ما كانت كتابة ظلالها من محيطي. ذلك أنّي على يقين أنّ الواقع أشدّ غرابة من الخيال. وفي محيطي أرواح تتوفّر على مباهج كثيرة وغرابة شديدة وتفرّد لافت. عموما النّاس تسعد إذ نقلت سيرتها إلى كتاب. كأنّ الكتاب يعيد لهم الاهتمام الّذي جرّدته الحياة. أنا حين أكتب انزع الخوف نزعا لأنّني واعية بالحدود الّتي يفتكّ فيها الخيال كنسيج سرديّ مكانه”.

وعن ردّة فعل شخصيات كتبت عنهم تقول: “أطرف ما حدث أنّ ابنة أختي “آيات” الّتي قبست من اسمها وروحها وفرادتها الكثير في رواية لليافعين. باتت تحاكمني. إذ صدّقت أنّها هي فعلا. فباتت تحاكم الجانب المتخيّل. وفي قصص “مرايا التّراب” استعرت أسماء واقعيّة. فلامني البعض على تحريف الوقائع ههه. ولام آخرون على خطئي في إيراد الاسم الكامل ههه”.

وعن البوح أم التّعري والانكشاف، أم التوثيق لأحداث فارقة، أم اعتبار الواقع مصدرا هاما للكتابة هو ما يدفع الكاتب/ة لكتابة ذاته والآخرين تقول: “ما يدفعني لكتابة” ظلال” الذات والآخرين- على حدّ عبارة الدكتور فتحي فارس- هو كلّ ذلك. والواقع يتوفّر على مادّة سرديّة رهيبة. فلم يعد الحديث عن السّيرة الذاتيّة مادّة روائيّة فحسب. بل أصبحنا نقرأ “سيرة روائيّة غيريّة” و”المذكرّات” و”اليوميات” و”الرسائل”.

وقد انتشر في العالم ما يعرف “بالمكتبة البشريّة “. مكتبة من حكايات البشر تقدّم على لسان أصحابها للكتّاب من مسرحيين وروائيين وقصّاصين وكتّاب السيناريو. وهذا دليل على أنّ الواقع بكلّ أبعاده المرجعيّة محتوى جماليّا. فيه شعريّة الحياة وسحرها وسخريتها. وانظري المنجز الإبداعيّ المصنّف ضمن المدرسة الواقعيّة السّحريّة وأثرها على الآداب مشرقا ومغربا. وانظري كيف استطاع الأدب المتوسّل بالواقع أن يضطلع بمهام توعويّة وتربويّة. إذ يعكس الأدب لحظة الوعي الاستيطيقي”ّ.

التّخفف من عبء الذكريات..

وتقول الكاتبة التونسية “نجاح عز الدين”: “لا أجد نفسي مجبرة على تصنيف كتابة ضمن كتابة أخرى فكل منهما يندرج ضمن الكتابة السردية ويكتبان بمعاولها أي اللعبة السردية تتم في ملعب واحد، ولكن لكل منهما تكتيك يخصه أي أن السيرة الذاتية سيرة شخص الكاتب ذاته يكتبها بطريقته. وقد تتجاوز كتابة السيرة الذاتية أحيانا الصدق المنشود بلوغه، رغم حقيقة ماينقله عن ذاته. فتصبح كتابة إبداعية ومهارة لغوية تحمل خطابا أو مجموعة خطابات تجمع بين متعة الذكريات ومتعة الخيال غير أنها قد تقلل من متعة التّأويل. فلا تنضوي تحت الفنّ الرّوائي.

للسيرة الذاتية أبنية محدّدة يمكن إجمالها في الاعترافات واليوميات والمذكرات وأدب الرحلة والذكريات. أما الرّواية فهي سيرة غيرية ينعتق فيها كاتبها من الالتزام. ويزداد إبداعها كل ما ازداد التخييل فيها. الكاتب الروائي يصنع عوالم خيالية لا وجود لها بالأساس، ولا يمكن محاكمتها عليه.  فسارد الرّواية يصنع سيرا ذاتية خيالية، لشخوص لابدّ لها في نهاية الأمر من أن تتمثّل واقعيا في وعي المتلقي ليستقبلها، وإلّا استشعر أنها تنتمي إلى عالمه الأرضي. وإن كنّا لا نجزم ترك الرّوائيين أمر حياتهم الشّخصية بعيدا عن متخيلهم الروائي. فكثير من الكتّاب اعترفوا وكشفوا عن استفادتهم في رواياتهم من وقائع حياتهم الّتي عاشوها. فكتبوا سيرهم الذاتية بقالب روائي، كالروائية التونسية حياة الرايس في رواية سيرتها الذاتية “بغداد وقد انتصف الليل فيها” حيث تناولت فيها حياتها وكانت هي السّاردة فيها. ومع ذلك لا تدخل ضمن الفن الرّوائي، على ما بين هذين النوعين من الكتابة السردية من التباسات وتداخلات. لم تعد الحدود المعيارية عائقا. حيث تتنوّع طريقة وأسلوب كتابة كلّ من السيرة الذاتية والرّواية”.

وعن هدف الرّوائي/ة حين يكتب سيرته الذاتية تقول: “يلجأ الروائي إلى كتابة السيرة الذاتية ليسترجع بعض التّجارب واللّحظات ووصف الأماكن بعين الروائي المحنّك وكذلك وضع تجاربه الذاتية في صيغ أدبية، للتّخلص من جراح حياتية، والتّطهر من الأدران، والتّصالح مع الذّات، والتّخفف من عبء الذكريات، والنّظر في مرآة الذّات”.

وتواصل: “نعم كتبت عن أحد أفراد عائلتي بطريقتين أولا: أبتكر اسما له وأغيّر بعض الأحداث فيمتزج الواقعي بالتخييلي وأدرجه ضمن الكتابة القصصية، وأدّعي أنها كتابة تدخل في باب التّخييل وأتجنب قراءة النص أمام العائلة حتى يصدر للعلن. لقد سبق وقرأت نصا في حضرة أحدهم وثار فجأة بعد أن تفطّن إلى أنه كان طرفا رئيسا في القصة، من خلال بعض التفاصيل بعينها، لكنّي واجهت الأمر بالتأكيد على أنّ من يكتب يكتب ما يريد وقد يتخيّل أشياء تتفق كثيرا مع ما يحدث لي ولغيري وأتشبث بالقول بأن الصدفة وحدها هي الّتي حتّمت هذا التطابق.

ثانيا: أكتب عن شخصيات بأسمائها الحقيقية لأنّها شخصيات ساهمت بشدة في بلورة أحداث تتعلق بي، وكان لها دور أساسي في التأثير على شخصيتي سلبا وإيجابا. فلا أتوانى في البوح بالكثير من التّفاصيل التي تخصّها والحكي عنها. ومن هذه الشّخصيات الّتي أركن للحديث عنها: أمّي وأبي وفي هذه الوضعية لا أتخيّل أحداثا وهميّة ولا أزيف الحقيقة. وإن كنت أتجنّب سرد بعض التفاصيل عنها الّتي مازلت أؤجلها إلى حدّ الآن، على أمل أن أكون أكثر قوّة وجرأة في يوم ما، لأبوح بها”.

وتؤكد: “الدافع للكتابة عن الذات وعن الآخرين هل هو التّعري والانكشاف أم التوثيقي كلّ هذا دفعة واحدة، أوّلا التّعري والانكشاف أمام الذّات هذا من شأنه أن يحقّق التّصالح معها، ويعمّق فيها التّوازن لأنّه مطلوب للانطلاق والإبداع، وحتى يتسنّى للذّات الكتابة في كلّ شيء دون قيود.  فهي عملية تطهير لها ممّا شابها من ترسّبات الماضي ومتاعبه تقول سيمون دي بوفوار “أريد أن أتقيأ قلبي” وهو أيضا عملية استدعاء لطاقة الفرح وضخ حياة جديدة للحاضر باستحضار ماكان ممتعا وجميلا. وهو ما قد يسعدني ويسعد الآخر الّذي يضع النّص بين يديه ويقرؤه قراءته الأولى والمباشرة. كما يمكن أن يهوّن عليه هذا النّص ويجعله يشعر بالأمان والاطمئنان. لأنّه فقط أدرك أنّ هناك من يتألّم مثله ويقاسمه همومه وليس وحده الشّقي في هذا العالم الفسيح. فيجد نفسه في هذا النّص أو ذاك.

لكتابة الذّات أيضا دور توثيقي لمحطّات مختلفة من حياة المجتمعات تشترك فيها الذّات مع الآخر أفرادا أو جماعات. محطّات شاهدة على أحداث العصر للتّذكير بها ونقلها بطريقة فنية مستساغة تكون لها أكثر فاعلية على الذّاكرة الجمعية من فعل التأريخ بقلم المؤرّخ بتفاصيله الجافّة والمملّة والمنفّرة أحيانا. فنحن ندرك ما للحكي من تأثير وقيمة تاريخ القدامى مثلا ليس في حقيقة ماينقل بل في المتخيل الذي يغذيه عبر الزمن، كانوا يكتبون تاريخا مقدّسا متماهيا مع الخيال.

وهو ما يضمن للحدث استمراريته بأشكال مختلفة. يبدو إذن أن كتابة المتخيل بأشكالها المختلفة (أساطير وخرافات ووو) هي التي تبعث الحياة فيما يكتب، فالخيال في ألف ليلة وليلة هو الذي جعله يستمر ويتجدد ويمتدّ في الزمان. فالأسطورة معبّرة عن الفكر البشري ومفسّرة لحياتنا وهي التي تنتشر وتتناقل أكثر من الحوادث الواقعية. فالمتخيل الروائي منتج لكون متخيل أكثر واقعية من الواقع نفسه فلاشيء يضاهي المتخيل في الرّسوخ في الذاكرة الجمعية. هل يمكن أن يقوم دين ما دون أن يشكله المتخيّل؟ أليست المعجزات مثلا المقوّم الأوّل للإيمان والحقيقة المطلقة عند المؤمن؟ فالمتخيّل يعطي الأمل في حياة أفضل يجعل له آفاقا غير التي يعيشها.

إنّ عالم المتخيّل الرّوائي لا وجود له خارج الرواية ينتهي بانتهائها. المتخيل هو إنتاج عقلي يثبت الانتماء إلى الإنساني يصوّر الأشياء ويفسّر العالم. فالروائي ليس مؤرخا لا يهمه الحدث وقع أم لم يقع”

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة