9 مارس، 2024 6:37 م
Search
Close this search box.

كاردينا عراقية.. مسيرة الآلام على حدود الوطن النازف

Facebook
Twitter
LinkedIn

عرض/ باسل الجبوري
تحتاج الأمم في مسيرة تطورها إلى مشاركة فعلية من كافة أبنائها لدفع مسيرة تطورها، وأن لا تحتكر هذه المشاركة فئات نخبوية، كالمفكرين والكتاب، أو أصحاب الثروة والنفوذ، أو من يمسكون بزمام الحكم ومن يلتف حولهم. ومن هنا، تلعب السير الشخصية للعامة، دوراً مهماً في نقل التجارب لتستفيد منها الأجيال القادمة، عبراً ودروساً تصحح الأخطاء وتمنع تكرارها. وهكذا نشاهد كثيرين في الغرب من عامة الناس يدونون تجاربهم الحياتية وينشرونها لهذا الهدف، دون رغبة منهم في تحقيق عائد مادي، رغم أن بعض ما يمكن أن نسمية “كتب السيرة الشعبية” حقق بالفعل رواجاً كبيراً.
لكن تجربة تدوين السيرة الذاتية في عالمنا العربي ما تزال مقصورة على الكتاب والسياسيين والمشاهير، وهذا أمر يتطلب إعادة النظر فيه وتشجيع عامة الناس، من مر بتجارب تستحق أن يقف المجتمع عندها، على النشر، خاصة وأن مجتمعنا يعاني من مشاكل جمة، وبحاجة إلى تعديل مسيرته وبناء حياة جديدة على أسس سليمة.
ومن بين الكتب العربية النادرة في تدوين السيرة الذاتية، ذلك الذي نشرته السيدة سهاد إبراهيم أحمد، وإن لم يكن سيرة ذاتية مكتملة، بل فصلاً مؤلماً من حياتها، أرادت من خلال نشره، أن تصل تلك التجربة إلى أكبر عدد ممكن من الناس، خاصة وأنها تجربة أليمة عانى منها عشرات الآلاف أيام حكم حزب البعث للعراق (1968 – 2003)، وتتمثل بالتهجير القسري الذي تعرض له مواطنون عراقيون بحجة أنهم ممن يسمون بالتبعية الإيرانية، رغم أنهم ولدوا هم وآباؤهم في العراق، وبعضهم عرب لا يملكون شهادة الجنسية العثمانية فسجلتهم أسرهم بأنهم من أصل إيراني هرباً من الخدمة العسكرية، إذ كان الحكم العثماني يسوق شباب ولاياته إلى حروبه الكثيرة.
عنوان الكتاب الذي بين أيدينا “كاردينيا عراقية”. إختارت الكاتبة هذه الزهرة العطرة رمزاً لها، وأضافت لها انتماءها لوطن ما فتئت تكرر تعلقها به في العديد من الصفحات. وطن حُرمت منه دون ذنب، وهي التي تنتمي إلى أسرة عربية عريقة، سنية المذهب. إذن ما الذي حدث ولماذا الرحيل إلى إيران؟
كان خطر التهجير شبحاً يطارد أسرتها، فزوجها هو ممن تم تصنيفه ب”التبعية”، وعاشت في خوف دائم على مصيره ومصير طفليهما، في جو عاش المجتمع كله في رعب متواصل من أجهزة بوليسية يتساوى عندها المذنب مع أي برئ تحوم حوله شبهة. تسرد المؤلفة الوقائع بأسلوب أدبي رفيع، وهي التي درست الأدب الإنكلزي في الجامعة المستنصرية لتعمل بعدها مترجمة في مطار بغداد الدولي. تصف تلك الأيام العصيبة: “لا أشعر بالراحة، الكل يراقب الكل، الناس في خوف من بعضهم البعض، أشعر بالاختناق، كثرة الظلم حتى لو كان لا يصيبك شخصياً تولد مشاعر التذمر. وبدل أن نطالب بالعدالة ونعمل من أجلها، مع أنني لا أعرف كيف، أصبح همنا يتركز في أن نحرص على ما نقول وكيف نتصرف لكي نبقى في مأمن”. تتحدث المؤلفة إلينا بضمير الشخص الثالث، وكأنها تتحدث عن لسان امرأة أخرى، بدلاً من الحديث المباشر بصيغة الأنا. أسلوب أدبي ممتع استعارت فيه الكثير من الأشعار، وخاصة تلك التي كتبها بدر شاكر السياب. ورغم تبنيها تقنية الفلاشباك، متنقلة بين صفحات من حياتها في النمسا التي لجأت إليها مع أسرتها، وتجربة التهجير من العراق قبل ما يقرب من أربعين عاماً، إلا أنها لم تربك القارئ في هذا الاستخدام غير المحبذ، حيث حصرت كل التفاصيل في خلاصة التجربة المريرة: الحرمان من الوطن. إمرأة شابة تشارك زوجها مصاعب الحياة لبناء أسرة فتية تنعم بحياة عادية أسوةً بالآخرين. وعندما تخير بين البقاء في وطنها الذي تعشقه، وبين الإنضمام إلى زوجها وطفليها في مسيرة معاناة مضنية تحفها المخاطر، تختار الأسرة. فالأسرة هي الوطن الصغير، وحب الوطن لا يمكن أن يمحوه قرار من سلطة غاشمة ما تفتأ تذيق أبناءه الويل كل يوم. تتذكر كيف كان الناس يتحاشون الحديث معها بعد اعتقال زوجها تمهيداً لتسفيره. غير أن أكثر التفاصيل إيلاماً، تلك التي سردتها عن حياتهم في سجن التسفيرات: القمل الذي ينهش رأسها ورأس ابنتها ذات العامين: “أمس طلبت من جارتها التي تجلس قبالتهم أن تفحص شعرها. أخبرتها تلك أن القمل موجود فيه كما هو موجود في شعر وملابس كل من يحيط بها صغيراً كان أم كبيراً. أرتها تلك كيف هو شكل القمل الذي لم يحصل لها شرف التعرف عليه قبل ذلك”.
تسجل المؤلفة تفاصيل الآلام وكأننا نعيشها معها: مياه المراحيض المتسربة إلى غرفة زج العشرات من النساء فيها، والماء البارد الشحيح الذي يحول دون الاستحمام في شتاء بغداد القارس، حتى أنها سعت إلى غليه بأوراق تغليف الزبد، في محاولة فاشلة، إذ سرعان ما دفع حارس السجن القدر الصغير الذي كانت تدفئ الماء فيه، فقضى على حلمها: “لم يستغرق الأمر إلا جزءاً من الثانية حيث صب الشرطي جام غضبه على قدر الماء، ركله بقدميه مطوحاً به بعيداً، إندلقت المياه الدافئة على أرض الباحة ترافقها صيحات ذعرها وتوسلها به. وجدت نفسها تقف مذهولة وكم الغضب يتدفق منها كالبركان، نظرت ليديها اللتين تحملان آثار سخام القدر ورائحة الأزبال وحربها المستميتة لإيقاد النار.. كلمات المواساة ممن حولها تخجلها، إنها تعلم قصة كل واحدة منهن. كيف يواسينها على قدر ماء صغير فيما أكثرهن مشروع أرامل؟”.
آلام تتشارك فيها مع الأخريات، ولكل منهن حكاية: “كانت تلك قد وضعت طفلها قبل أيام من اقتيادها إلى هنا وقد جلبوها لسوء حظها وحدها ورفضوا أن تأخذ معها رضيعها وعليها أن تتركه عند والده الذي لم يكن مشمولاً بالتسفير. كانت (غ) مأساة إنسانية تمزق نياط القلوب وهي تبكي وتنوح على وليدها الذي لا يتعدى عمره أياماً معدودة، ثم أضيف لمأساتها فصل جديد حين تورمت أثداؤها التي تزخر بالحليب الذي كان لوفرته يتدفق منها مثيراً شجون تلك الأم الملتاعة بإبعادها عن ولدها وآلام صدرها. كانت النسوة تتحلق حولها وهي تنوح وتعصر الحليب من ثدييها ليذهب سدى عوضاً عن أن تتلقمه شفتان ورديتان صغيرتان هما بأمس الحاجة إليه”.
وعندما تحين ساعة الرحيل يخفق قلبها بشدة، وهي تسترق النظر من زجاج الحافلة إلى شوارع كانت بالأمس تسير فيها حرة طليقة، ذاهبة إلى كليتها أو مكان عملها أو زيارة صديقاتها أوأقربائها. بغداد أصبحت حلماً، فها هي الحافلات تنقل مئات العوائل إلى الحدود لتبدأ مسيرة طويلةً سيراً على الأقدام، في الوحل والبرد وصعود تلال ونزول منها، وطفلان يبكيان لا يقويان على هذه المشقة ووالدان لا يتمكنان من حملهما طوال الوقت الذي قضوه مع الباقين في خوف من الحيوانات المفترسة والألغام وعصابات أكراد من جماعة “قاسملو” أرادوا سلب ما يمكنهم سلبه.
رحلة الآلام هذه صورتها المؤلفة كلوحة انطباعية أو كفيلم سينمائي انضم إليه آخرون، بمن فيهم ذلك الشاب المختل عقلياً، فحتى من هم في مثل حاله لم يسلموا من الظلم، مروراً بأكواخ مهجورة تبعثرت هنا وهناك في الأرض الحرام التي تفصل بين القوات المتحاربة من الجانبين، العراقي والإيراني. أيام طويلة قضاها السائرون إلى مصير مجهول، مغادرين وطناً يئن القلب من وطأة حبه، لكنه حب مشوب بالعتاب: أهكذا يكون جزاء المحبين؟
ولحسن حظها، لم يطل مكوثها وزوجها وولداها في إيران، فسرعان ما غادروا إلى بيروت ومنها إلى فيينا. الطفلان كبرا، علي أصبح في الثامنة والعشرين من عمره، سبقها في العودة إلى العراق فور سقوط الصنم ليساهم في إعادة بناء وطن لا يتذكر عنه شيئاً. لكن المدهش، بل المذهل، أن نرى فيه شعوراً بانتماء قوي وغريب إليه، حتى راح، رغم المخاطر، يبحث عن بيت جده، يسأل هذا وذاك حتى وصل إليه وأرسل صورة بابه إلى والدته.
وتختتم المؤلفة كتابها بكلمة مباشرة توجهها إلى القارئ، هي خلاصة الدرس الذي لابد أن يعيه الجميع، فتقول: “لم يكن همي فقط ما حصل لنا.. أود أن أكون قد أفلحت في وصف معاناة العراقيين تحت نظام شمولي قمعي بوليسي اختزل الملايين في ظل الرئيس الضرورة. رغبت من خلال سردي لبعض تفاصيل الحياة اليومية في العمل والحياة عموماً أن أذكر العراقيين بتلك الحقبة المقيتة كي تكون لدينا الشجاعة لرفضها ونمنع بذلك عودة الزمن للوراء. إن احتزال تلك الممارسات بشخص صدام هو تسطيح الحقيقة التي يعرفها الجميع. خلف صدام كان هناك ألوف مؤلفة من المنافقين والمنتفعين.. جيوش من المصفقين والمهللين من أجل سيارة أو قطعة أرض أو بعثة دراسية أو منصب مهم، منشدي قصائد التمجيد.. النافخين في صورته حتى انفجر عليهم بكل أحقاده الدفينة وأحال العراق أرضاً بورا. هؤلاء أنفسهم كانوا ولازالوا آفة المجتمع العراقي”.
“كاردينيا عراقية” يأخذنا في دهاليز مظلمة صممت على الطراز الكافكوي، يعشعش فيها الخوف وينهبها القلق وينبعث من جدرانها أنين البائسين. تجربة شجاعة خاضتها السيدة سهاد إبراهيم أحمد في تأليف هذا الكتاب، أوجزت بعضاً من تفاصيله لعل ذلك يشجع غيرها على أن تحذو حذوها. فما أحوجنا إلى تسجيل تجاربنا عبراً للجيل الجديد، والأهم من ذلك أن نتحلى بشجاعة الإعتراف بالخطأ.. أن الكثيرين منا صفقوا للطاغية فانقلبت أكف التصفيق عليهم صفعات أو أيادٍ تخنق حريتهم أو تنهي حياتهم ليكونوا أرقاماً أخرى، لكنها في قائمة غير تلك التي ضمت من رحلوا دون ذنب ودون وداع.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب