خاص : كتيب – عمر رياض :
مع مطلع الشهر الجاري، وفي يوم 2 آب/أغسطس مضت الذكرى الـ 28 للغزو العراقي للكويت.
وصل الرعب يومها إلى قلوب الأطفال في معظم البلدان العربية، بعد أن بدأ تأثير الصدمة يأخذ منحى التأويل الغير منطقي والغير دقيق, وربما الهذيان, لدى الأسر المتابعة لما يحدث آنذاك.
فسرت شائعات، ربما بدافع من هؤلاء المحبين “للزعماء العرب” والمتمسكين بذيل القومية العربية، بأن (صدام حسين) “يعد منصة من الكويت لقصف إسرائيل”.
كانت مثل هذه الشائعات يمكن أن يصدقها الأطفال من افواه الكبار, خاصة عندما تطلق داخل مصر, في بلدان المناطق الحدودية الشرقية مثلاً وقت وجود الإحتلال الإسرائيلي في غزة.
لم يكن أحد يعلم ماذا سيحدث بعد رفع درجة الطواريء في إسرائيل إلى الدرجة القصوى.
وبعد أن بدأت مصر, على سبيل المثال, بعمل إجراءات حالة الحرب داخل المدن المتاخمة للحدود الإسرائيلية.
وطُلب من المواطنين شراء أشرطة لصق النوافذ لمنع دخول الغازات السامة, إذا ما قصف “صدام” إسرائيل بعد ضم الكويت.
راحت أسر تبحث عن قناع الغاز في كل منافذ وزارة الزراعة المصرية، والتي كانت تبيعها لعمال المبيدات.
لكن ما حدث في الحقيقة أن العملية العسكرية للغزو استغرقت يومين وانتهت باستيلاء القوات العراقية على كامل الأراضي الكويتية في 4 آب/أغسطس, ثم شكلت حكومة صورية برئاسة العقيد “علاء حسين” خلال 4 – 8 آب/أغسطس, تحت مسمى “جمهورية الكويت”, وأعلنت الحكومة العراقية يوم 9 آب/أغسطس 1990، ضم الكويت للعراق وإلغاء جميع السفارات الدولية في الكويت، إلى جانب إعلان “الكويت” المحافظة رقم 19 للعراق وتغيير أسماء الشوارع والمنشآت, ومنها تغيير اسم العاصمة الكويتية.
اما في الطائف بالمملكة العربية السعودية, فقد تشكلت الحكومة الكويتية في المنفى حيث تواجد أمير الكويت الشيخ “جابر الأحمد الصباح” وولي العهد الشيخ “سعد العبد الله الصباح”.
وأستمر الاحتلال العراقي للكويت فترة 7 شهور، وأنتهى الاحتلال بتحرير الكويت في 26 شباط/فبراير 1991 بعد شن “حرب الخليج الثانية”.
العراق من السياسة إلى الصحافة..
كان مشهد سقوط بغداد في عام 2003 الأكثر تأثيراً فى أجيال الألفية الجديدة، حتى مع النكسات التي جلبتها أنظمة “الدفاع العربي المشترك”.
ميدان التحرير (ميدان الثورة) في قلب العاصمة المصرية يوم 9 نيسان/إبريل من نفس العام، وقتها كان مغلقاً.. وكان اسبوع سقوط بغداد يصادف عملي ومجموعة من جيلي كمحررين صحافيين لأول مره في الصحف المستقلة والخاصة، وكنا قد عرفنا بعض الحقائق عبر هذا العمل، كتأثير الغزو العراقي للكويت على كلا البلدين بالإضافة لتأثيره على البلاد العربية التي كانت ترسل العمالة للبلدين، لكن الآن نحن أمام غزو أميركي يبدو استعمارياً لكل المتابعين.
كانت تعليمات رؤساء العمل وقتها أن نباشر عملنا في الشارع دون أن نخلط السياسة بالصحافة. وإن كان هذا الأمر يصعب تحقيقه في الواقع، ليس لأننا من المحسوبين على العمل السياسي فقط, لكن لتراكم التاريخ السياسي لهذا اليوم الطويل، خاصة مع دعوات للانتفاض ضد الخراب الأميركي العاجل.
وكان ما يدور في الذهن وقتها: ماذا يمكن أن يفعل القلم في موقف مثل “سقوط بغداد” ؟.
كانت السفارة الأميركية في مصر قد فرضت طوقاً أمنياً على محيط كبير من ميدان التحرير وسط القاهرة بمعاونة الأمن المصري، وكأن الميدان يتهيأ لحدث كبير على الرغم من فراغه سوى من مرور عدد قليل من سكان ذلك المحيط.
تحول وسط المدينة لشبه ثكنات عسكرية, لما يحويه من مبان ومنشآت حكومية أيضاً.
ماذا يحدث داخل سفارات أميركا وبريطانيا مع أخبار عن اقتراب سقوط بغداد ؟.. هذا ما كان يشغلني عندما توقفت عند شارع السفارة، ودون تردد قررت العبور من الكردونات الأمنية الثلاثة، بحجة دخول مكتبة السفارة، قبلت الحجة وبالفعل عبرت, لكني أجد وأرى جنود “المارينز” الأميركي لاول مرة بالداخل، حيث توجد مكتبة عامة للطلبة كخدمة معرفية تقدمها السفارة.. قبل الوصول لطرقة صغيرة تنتهي بالمكتبة، كان جميع الموظفين في انشغال بشيء ما غير الإجابات على أسئلة الزوار كالعادة.
وبدا امام كل منهم كومة كبيرة من الأوراق في ازدياد دائم بسبب الطباعة المستمرة لبيانات تأتي لكل السفارات الأميركية في وقت واحد من وزارة الخارجية الأميركية.
انتظرت قليلاً حتى بدا لي أن الماكينات أفرغت كل ما في بطنها, واخذت كومة من الأوراق المكتوبة بالإنكليزية.
خرجت متجهاً لمقعدي في الصحيفة لأترجمها، ولأن الكمبيوتر لم يكن متوافراً وقتها, ساعدني زملاء قسم الترجمة في فهم متن المنشورات، والذي كان يتحدث عن انتصارات القوات الأميركية في دخول المدن العراقية الواحدة تلو الأخرى.
كان ذلك ملخص لموضوع نشرته الصحيفة بعنوان (الخيانة).
العراق.. شحنات موازيه في اللغة والفن والأدب..
كان للعراق بناء آخر في خلفية الوعي.. يتمثل هذا البناء في الثقافة والفنون، فكل من لم تسمح له الفرصة بزيارة العراق كان يسافر عبر قصيدة أو غنوة أو تراث وصل عبر شخص مجهول.
وإذا ما استعرضنا تاريخ هؤلاء الفنانين المؤثرين في معرفة الشارع العربي وثقافتة, فسوف نحتاج لسلسلة هائلة من المقالات والأبحاث.
لا اتذكر أنني قابلت شخص مهتم بالشعر لا يعرف “بدر شاكر السياب” في المحيط الثقافي الجامعي أو ما بعد الجامعي حتى.
وربما كانت قصيدة (أنشودة المطر), وهو نفس أسم الديوان الذي صدر عام 1962, واحدة من كروت التعريف الهامة بتلك الثقافة.
ولد الشاعر “بدر شاكر السياب” في 25/12/1925, بقرية (جوي كور) “وهي من قرى قضاء (أبى الخصيب) في محافظة البصرة، وهي قرية صغيرة لا يزيد عدد سكانها آنذاك على (500) نسمة، اسمها مأخوذ في الأصل من الفارسية من لفظة (جوي كور) أي (الجدول الأعلى)، تحدثنا كتب التاريخ بأنها كانت موقعاً من مواقع “الزنج” الحصينة، دورها بسيطة مبنية من طابوق اللبن، الطابوق غير المفخور بالنار وجذوع أشجار النخيل المتواجدة بكثرة في بساتين جيكور التي يملك (آل السياب) فيها أراضٍ مزروعة بالنخيل, تنتشر فيها انهار صغيرة تأخذ مياهها من شط العرب…، وحين يرتفع المد تملئ الجداول بمائه، وكانت “جيكور” وارفة الظلال تنتشر فيها الفاكهة بأنواعها ـ مرتعاً وملعباً ـ وكان جوّها الشاعري الخلاب أحد ممهدات طاقة “السياب” الشعرية وذكرياته المبكرة فيه ظلت حتي أخريات حياته تمد شعره بالحياة والحيوية والتفجر, (كانت الطفولة فيها بكل غناها وتوهجها تلمع أمام باصرته كالحلم.. ويسجل بعض اجزائها وقصائده ملأي بهذه الصور الطفولية…), كما يقول صديقه الحميم، صديق الطفولة: الشاعر “محمد علي إسماعيل”.
هذه القرية تابعة لقضاء “أبي الخصيب” الذي اسسه (القائد مرزوق أبي الخصيب) حاجب الخليفة “المنصور” عام 140 هـ, والذي شهد وقائع تاريخية هامة سجّلها التاريخ العربي، ابرزها “معركة الزنج” وما تبعها من أحداث. هذا القضاء الذي برز فيه شعراء كثيرون منهم (محمد محمود) من مشاهير المجددين في عالم الشعر والنقد الحديث, و(محمد علي إسماعيل) صاحب الشعر الكثير في المحافظة, و(خليل إسماعيل) الذي ينظم المسرحيات الشعرية ويخرجها بنفسه ويصور ديكورها بريشته, و(مصطفي كامل الياسين) شاعر, و(مؤيد العبد الواحد) الشاعر الوجداني الرقيق وهو من رواة شعر السياب, و(سعدي يوسف) الشاعر العراقي المعروف, و(عبد اللطيف الدليشي) الاديب البصري, و(عبد الستار عبد الرزاق الجمعة) وآخرين”.
بعد “السياب” يأتي الشاعر “عبد الوهاب البياتي” كمجدد للشعر، يعتبره البعض من مؤسسي القصيدة الحرة.
وفي الزمن الحديث نسبياً, خرج لنا الشاعر “سركون بولوص” (1944 – 2007) من جماعة “كركوك”, بطاقة شعرية هائلة، وهي الجماعة التي ضمّت أسماءً أخرى، كـ”صلاح فائق, جان دمو, فاضل العزاوي, مؤيد الراوي”. وكان “سركون” ينتقل بين مسقط رأسه في الحبّانية وبين بغداد، حين بدأت لوثة المغادرة والهروب تقضّ مزاجه ومزاج كتاباته التي كانت تطرق أبواباً غير مرئية، وتحاول “الوصول إلى مدينة أين”، كما سيعنون باكورته الشعرية الأولى, التي سيتأخر في نشرها حتى عام 1985.
ثم يأتي “عبد العظيم فنجان”, في آخر تلك المعرفة, وليس نهايتها, ليمزج الحرب بالحب في قصائد تحمل الشعرية والمفارقة معاً.
ولم يكن الأدب وحده ما عبر بين غبار الحروب في العراق للشوارع العربية فقط، فقد عبرت الموسيقى والألحان والأغاني والأصوات.. فعلى سبيل المثال، تنتشر اليوم أغاني من التراث العراقي في الساحات بصوت ولحن “إلهام المدفعي” وآخرون, وبعدها أغاني “كريم العراقي” على سبيل الإنتشار التجاري.
“داعش” وسلطة الحرب الأخيرة المشتركة..
حسب بحث حول نشأة “داعش”, فقد شكل تنظيم “داعش” الإرهابي أو ما يسمى بـ(الدولة الإسلامية في العراق والشام) في نيسان/ابريل 2013 وعرف نفسه في البداية على انه اندماج بين ما يسمى بـ(دولة العراق الإسلامية) التابع لتنظيم “القاعدة”, الذي تشكل في تشرين أول/أكتوبر 2006 وتنظيم “جبهة النصرة” في سوريا, إلا أن هذا الاندماج الذي اعلن عنه “أبو بكر البغدادي”، رفضته “النصرة” على الفور.
وبعد هذا الاعلان بشهرين أمر زعيم القاعدة “إيمن الظواهري” بالغاء الاندماج، غير إن “البغدادي” خالف هذا الرأي واكمل العملية لتصبح “داعش” (الدولة الإسلامية في العراق والشام), واحدة من اكبر الجماعات المتطرفة المسلحة التي تقوم بالقتل والدمار في العراق وسوريا ليبايعها مسلحون بعد ذلك في مصر.
أصبح “داعش”, فيما بعد, مصدر التخويف, ليس بالشكل المباشر فقط, بل بكونه ورقة فى يد الأنظمة، وحجة لفرض مزيد من التضييق، سواء كان اقتصادياً أو حتى على مستوى الفكر والتعبير.
لتصبح مقاومة “داعش” في المجتمعات العربية مقاومة مزدوجة أو مضاعفة في ظل خروج بلدان مثل العراق من زمن الحرب الطويل واخفاقات السياسة.
وربما تظل تلك الحرب مفتوحة بسبب ما تحققه من انجاز وتمكين لأطراف الصراع فيها، كما سيظل التفكير في النجاة منها سؤال مفتوح أيضاً ليس في العراق فقط.