8 أبريل، 2024 5:37 ص
Search
Close this search box.

قيامة لتاريخ المقابر والحروب

Facebook
Twitter
LinkedIn

في مجموعة جذامير القصصية لقيس عمر/ قيامة لتاريخ المقابر والحروب
ربما كان التمرد على الصيغ التقليدية للسرد، عبر التأكيد على الأصالة الذاتية، والإنزياح خارج المتداول والمألوف، هو العنوان الأنسب لهذه النصوص. ذلك أن اللغة فيها تحيل إلى نوع من محنة التشكيلي في اختزال مركبات الواقع، في ضربات فرشاة وخطوط على مساحة محددة من الكانفاس. هذا التحدي الصعب الذي اختاره الكاتب لنفسه ساعيا إلى تحقيق اختراق ما في اللغة، حفزه على خلق صيغ لغوية جديدة وطازجة، متحررة من عتاقة المدونات، وخشبية القواميس.

“اللغة الشمس..”
تنسكب اللغة في المجموعة على العالم مثل شمس ساطعة كاشفة قبحه. عهره، وفظاعته، وخفاياه. في عملية تعرية مجهرية، متوغلة في أسراره، وأغواره، ومخاوفه، ومشاعره، وتناقضاته، وأحلامه. في بحثه عن بلاغة جديدة، ينقب المؤلف، في خبايا الأجساد، والذاكرة، والمخيلة، والحلم، عن اشياء، ورموز، وعلامات، يمكنها استيعاب رؤيته، أو تحيل إليها في الأقل. بعض جمل النصوص، تتشكل في الذهن في سورة لوحات أقرب إلى السريالية، تعابير من قبيل تمشيط اللسان، ظلمة فتحة الفم، الإنبعاجات، فوهة الماسورة، والمدفع، شقوق الأرض، عتمات الأرحام، مياهها. ثمة علاقات يرصدها المؤلف بهواجس تشكيلية متطورة، لا تلتزم المحاكاة، لكنها تعيد تشييد مفردات العالم وفق رؤيته الذاتية، باحثا عن الجوهري من المشاعر بدل العارض، والخفي من المعاني بدل المرئي.

“خطاب بديل..”
ربما تشكل اللغة في الجذامير، بما تتلمسه من أبعاد واغوار ومعان، نوعا من احتجاج على سطحية خطاب الصورة، وزيفه، ومحاولة تأسيس خطاب بديل، في نصوص، يحكمها هاجس تشكيلي قوي. يمكن القول أن اللغة في هذه النصوص، أكثر من مجرد لغة سرد، إنها نوع من لغة خالقة. لغة لا تصف، بل تضيف، وتتوغل، وتنتج الجديد من المشاعر، والمختلف من المعاني، منتهكة المدفون من الأشياء. لغة تتوفر على قدر عال من الأصالة، لا تعتمد في صياغاتها على رصف التعابير الجاهزة، والكليشيهات، بل تسعى إلى تمثل قلق الكاتب، حدود وعيه، مناطق الظلمة في نفسه، وحدائق النور. والإحاطة بدفق مشاعره، بصيغ جديدة متمردة، مع تأكيد خاص على العناصر المثيرة للتفاعل: الإيقاع، والعذوبة، والتناسق.

“قيامة المقابر..”
في حشرجة الترائب، أحد نصوص المجموعة، تتداخل أزمنة الحروب، والموت، والولادات، في رؤية قيامية، سريالية، سيبرانية، موشورية، فارقة. دورة كونية هائلة، تختلط بها مياه الأرحام مع هدهدات الأمهات، وتنويماتهن. صمت القابلات لحظات الولادة، وصمت المقابر. وجوه المارين في هذا العالم. والأسماء، بلحظات القصف الجحيمي، والقتل المجاني. إنها قراءة في سجل حارس مقبرة. في هذه القصة توظيف لتقنيات عديدة كاللصق، والقطع، لحظات ذات تركيز سردي مرتفع، يمكن تسميتها فوق سردية. وقفات لتغيير الاتجاه أحيانا، او لعبور الأزمنة، متجذرا بقوة في المعاني والمشاعر، مقتربا من روحية النص الشعري. قصائد وأغنيات للوجع الإنساني. وجع الفقد لدى الأمهات، صرخات جزع وحنين. تقلصات الأرحام باحثة في فراغات المقبرة الموحشة، وانبعاجاتها المظلمة، عن أجنتها الضائعة، في سورة كتابة. لكن السؤال الذي تستدعيه المراجعة. هل ما قصده النص هو مقبرة التلفزيون في الموصل تحديدا، أم صورة متخيلة لها، تاريخا لمجمل العلاقة بين المقابر والحروب..؟

“فاتحة الإكتشاف..”
في نص لوحف أو صورة اليحموم، محاولة لكتابة بروفايل للراحل يوسف ذنون، الخطاط الموصلي الشهير، بطريقة جديدة ومختلفة. رثاء لرجل ومكان وتاريخ. من كان يصدق أن جرار يوسف ذنون المترعة بالحبر ستتحطم، وتسيل في الطرق والأزقة وعلى الوجوه..؟ اللافت للوهلة الأولى التشابه الإيقاعي بين يوسف ولوحف. لوحف بهلول متوشح على الدوام قطعة من قماش، يقطع ظالعا المياه والأحلام، متلاشيا في عصاه من شدة انحنائه. أحيانا يمسك الأنهار من خاصرتها، ليكشف جفافها العميق. وهو رجل ضرير يستكشف العالم بيديه، رائيا في ظلمة عيونه إلى اللون الاسود، هذا الكائن الحزين والمقطب، الوحيد المحشور في هامش العالم، ناكرا كل الألوان الأخرى. عندما شعر لوحف بدنو أجله، أمر الجميع بالخروج، وأجلس بقربه يوسف، وصار يتعرق، ويتعرق. جلب يوسف إناء، ووضعه أسفل ذقنه، وراحت قطرات العرق اليحموم، لها لون الحبر، تنساب، وتتجمع في الإناء. قبل أن يدفن لوحف، كان يوسف ذنون يترع ريشته من اليحموم، والحروف ترتج في حضرته، فراح يفتض الجلود والرقاع، يفتض البياض بالسواد، مشيدا صورة الصوت والمعنى. هذا هو حبر اليحموم، لن يكتب أو يطرس، مهمته الافتضاض واشارته الصريخ. من يحموم يوسف أو لوحف، يأتي سر الإبداع في أعمال يوسف ذنون، ومنجزه الإبداعي الكبير.

“النقطة والدائرة..”
كل نص من جذامير، يحتاج إلى وقفة تأمل وغوص وتفكير. المعول، خلصاء المياه، الخرزات المبتورة، مكتبة السدى، لوحة لظهيرة صيف، حصاد الغرقى، صريف الرؤيا، مساء الحرب، خريف الدمى، خارج الغرفة. يبدأ نصه بكلمة، نقطة، لتستحيل بعد هنيهة إلى دائرة بسعة الكون. الجمل فيه تمتد تحت السطح مثل الجذامير، متجاوزة حدود الكتابة إلى التشكيل وربما الموسيقى. كلماته مترعة بطريقة غير مألوفة بالمرئي والمخفي من المعاني والظلال. وفي نصوصه يتحد الحاكي بالمحكي بالحكاية، في جسد واحد، رؤية تلسكوبية ترصد الماضي والحاضر والمستقبل، في لحظة خلق بالغة السطوع.
إن قيس عمر في جذامير كاتب مبدع، ومؤثر، يترك شيئا من نفسه على لغته، وقارئه، وعصره. متجاوزا كل المرجعيات التقليدية، والتجنيسات المعروفة. وإذا كان الأسلوب هو الشخص كما يقال، فإن قيس مسكون بهواجس تشكيلي، وروح موسيقي، ومخيلة شاعر مجدد، وبصيرة سارد أنيق. شاهد نافذ الرؤية والبلاغة على لحظته الرمادية، وعالمنا المغطى بالهباء والسخام.

المجموعة الحائزة على جائزة الشارقة للإبداع العربي
فخري أمين

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب