قيامة زياد .. سر الثقب الأسود الذي فتحه بعد إعلان وفاة زياد رحباني فدخلنا فيه

قيامة زياد .. سر الثقب الأسود الذي فتحه بعد إعلان وفاة زياد رحباني فدخلنا فيه

خاص: بقلم- وائل السمري:

لا أدري أي سر هذا الذي اجتمع عليه العالم العربي بعد موت ابن الرحبانة البار؟

كل القضايا الساخنة أصبحت أكثر برودة

كل المواضيع العاجلة وقفت في خانة الانتظار ليمَّر هذا الموت بما يُناسبه من حياة.

أهي حالة من الرفض الطبيعي لموت الإنسان؟ أم حالة من الاستقبال المهيّب لمولد الأسطورة؟

فزيائيًا.. مات زياد رحباني في السادس والعشرين من الشهر الجاري.

واقعيًا.. عاش زياد رحباني في هذا التاريخ وسيعيش.

كان هذا التاريخ موعدًا ثانيًا لقيامة زياد.

الملايين من المحيط إلى الخليج يفتشون في حياة الرجل وألحانه وموسيقاه وأعماله المسرحية ولقاءاته التلفزيونية وحواراته الإذاعية ومقالاته الصحافية.

كل هذه الحيوات عشتها يا ابن فيروز؟

كل هذا النشاط كنت؟

أتساءل وبعض السؤال إجابة، كيف عاش حينما مات، وكيف مات وقت أن كان حيًا؟

والإجابة التي وجدتها بعد عشرات الساعات التي قضيتها معه منذ الرحيل هي الصدق.

نعم، الصدق هو الإجابة، وهو أيضًا إكسير الحياة، الذي شربه زياد في حياته وأذاقنا منه بالرحيل.

كان زياد رحباني شُحنة من الصدق، صادقًا مع نفسه صادقًا مع من حوله.

حينما رأى أن حياته استحالت في بيت أبيه، تركه غير نادمٍ على شيء، يعيش في الغربة أفضل من أن يعيش في الريبّة.

وحينما استحالت حياته مع حبيبته، تركها، نعم، يعيش وحيدًا أفضل من أن يعيش كاذبًا.

كان صادقًا في كل ما يفعل، لذلك أغضب الكثيرين.

أغضب أمه التي رأت أن كلامه في السياسة والحياة يكسر ألواح الثلج التي فرضها الرحبانية على أنفسهم.

كثيرًا ما أشبَّهه بديونيسيوس، إله المرح الهارب من جبل الأولب.

حالة التأليه هذه لا تُناسبه، هو ملك صعلوك، فاجومي شريف، إنسان مرهف في بيت يتعلم أعضاؤه الصمت بدلًا من أن يتعلموا الكلام.

لكن للمفارقة الكبيرة، كلما أمعن زياد في إنسانيته، كلما وضع حجرًا في أسطورته الشخصية.

لدينا الآن رحبانية، ولدينا زياد.

لكل منهما أثر وعلامة، ولكل منهما طريق وطريقة.

كان زياد شيخ نفسه.

مهرجًا دون مساحيق، شيخًا دون مسبّحة، راهبًا دون نذور، حكيمًا دون عصا أو لحية.

بسيطًا حد الأسطورة، يُقابل كل العادات المتوارثة بسخرية تليق بعارف، رجته أمه، وأمه هي فيروز، ابنة النور والصحو والمهابة: تزوج يا بني.. أريد أن أحمل طفلك، فرد عليها بكل صدق صادم: أتخافين من أن تنقرض العائلة؟ فقالت نعم، ثم رد: الديناصورات انقرضت.

تحكي أخته أنهم حينما كانوا صغارًا كان زياد يسَّخر البيت كله لمشاريعه الفنية، وكان كثيرًا ما يوقظهم في الخامسة صباحًا ليصور فيلمًا، وإذا تطلب المشهد بعض دموع، كان يضع في أعينهم قطرات الليمون الحارقة لتدمع أعينهم، فالمهم عنده النتيجة وليست الطريقة.

من يتأمل في حياة زياد رحباني يرى أن هذا الطفل لم يُغادر زياد أبدًا، كانت: “المهم النتيجة” هي شعار حياته، يصحو في الخامسة صباحًا كل يوم، ليعمل ويُجرب، يجلس على البيانو سبع ساعات يوميًا يُجرب نوتات مختلفة يبحث عن نغمة أو لحن، يدّون ما يستطيع وينسى ما ينسى، لكن النتيجة كانت أمامه دائمًا.

يُغلق في غرفته بضع ساعات، لكي لا يهرب منه الوقت، فلديه الكثير، ولا يُريد أن يفلت منه الزمن، وكأنه يُردد قول محمود درويش “وأنا أريد أريد أن أحيا فلي عمل على هذه السفينة”.

هو صعلوك أيضًا لا يُريد الحياة وفقًا للتوقيت المحلي لأي عالم، يُريد أن يعيشها على طريقته فحسّب، يحكي أصحابه عن أنه ذات يوم وجد معه مليون دولار، فاجتمع بهم وقال ومنح منهم ما منح، ثم سدّد بعض الديون عليه وعلى أصحابه، ووزع بعض الهبات، ثم دفع مقدمات عدة مشاريع موسيقية، وفي اليوم التالي عاد زياد بلا أموال كالعادة، وهو كان كما يُردد دائمًا: “آخر همي المصاري” وفعلًا كانت آخر همه، بل أن جميع محبيه كانوا يشفقون عليه من كرمه الزائد وعطاياه التي لا تحد، كأنه كان متوحدًا مع أمير الصعاليك “عروة ابن الورد” الذي يُضّرب به المثال في الجود والكرم، حين قال:

إِنّي اِمرُؤٌ عافي إِنائِيَ شِركَةٌ

وَأَنتَ اِمرُؤٌ عافي إِنائِكَ واحِدُ

أَتَهزَأُ مِنّي أَن سَمِنتَ وَأَن تَرى

بِوَجهي شُحوبَ الحَقِّ وَالحَقُّ جاهِدُ

أُقَسِّمُ جِسمي في جُسومٍ كَثيرَةٍ

وَأَحسو قَراحَ الماءِ وَالماءُ بارِدُ

ذات يوم كان زياد يمَّر بضائقة مادية، باب الخروج من هذه الضائقة مكتوبٍ عليه: “60 ألف دولار” ولم يكن يملك منها شيء، وفي نفس الوقت عرض عليه أن يُشارك في لجان تحكيم برامج اختيار الأصوات، وفي الوقت الذي كان أكبر نجوم العالم العربي يتقاضون 500 ألف دولار عرضت القناة على زياد مليون ونصف المليون دولار، ولما رفض زادته 250 ألف فرفض أيضًا، وهنا ضرب أصدقاؤه ألف كفٍ على كف، لكنه ضحك ولسان حاله يقول: “يحلها الحلال”.

هذا هو الفنان الصادق الذي يعيش كما يُريد، لا كما يُراد له أن يعيش، مواقفه دفع ثمنها كلها، لا يهمه أن تغضب أمه أو تغضب حكومته أو يغضب أصدقاؤه، مواقفه السياسية أكبر من أن تُحصيّها مقال، لكنه كان صادقًا في كل ما يقول، أو على الأقل: “يحكي ضميره” كما يقول اللبنانيون.

ضميره هذا هو الذي جعله لا يقبل بأنصاف الحلول، ولا يُريد أن يعمل عملًا غير كامل، وحينما ضاق عليه الحال في لبنان اختفى عن الأنظار، حتى شك الجميع في مصيّره، لكن وراء هذا الاختفاء حكاية.

كنت أعرف هذه الحكاية منذ ما يقرب من 15 عامًا، لكني تمنّيت أن أنساها من فرط الألم، أو على الأقل تمنّيت أن يكون الذي أخبرني بها كاذبًا مفتريًا، وملخص القصة أن زياد أثناء هذا الاختفاء كان يعمل في أحد المطاعم أو الفنادق في إحدى الدول الخليجية، يعزف على البيانو في المساء، مثله مثل أي “بيانيست” في مطعم أو فندق.

كنت أريد أن أفقد ذاكرتي جزئيًا، لتَّمحى هذه المعلومة من رأسي، لكني للأسف عثرت على لقاء أجري معه سرد فيه هذه القصة بكل نُبلٍ وشموخ، وقال إنه ظل لسنتين يعمل في هذا العمل، ليُنفق على نفسه بعد أن سدَّت أمامه الأبواب، حينما ظن الجميع إنه اختفى.

هكذا رفض زياد أن يعيش عيشة الملوك وأن يتزيا بأزياء الصعاليك الشرفاء، لكنه أبدًا لا يُغامر باسمه وتاريخه، يأكل من عمل يده، ولا يلبس ثوب الرياء.

في أحد لقاءاته سأله المذيع: إذا قيل لك إنك ستموت بعد يوم ماذا تفعل؟

رد زياد دون تفكير: بسرّع الوقت. وإذا كنت في مستشفى على أجهزة الإنعاش سأفصل الكهرباء.

وهكذا مات زياد، رافضًا أن يعيش يومًا دون وعي، ورافضًا أن يزّرع كبًدا من جسدٍ آخر، لأنه يُريد أن يرحل “زياد” فيبُعث “زياد”… وما أقرب الرحيل والبعث!

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة