خاص : بقلم – إلهامي الميرغني* :
خبير اقتصادي وكاتب صحافي
03 – فانوس رمضان..
المصريون هم أول من استخدموا “فانوس رمضان”؛ وذلك في العهد الفاطمي.. إلا أن هناك العديد من القصص والروايات حول بداية استخدامه؛ فتقول إحدى الروايات أن بداية استخدام الفانوس كان مرتبطًا بيوم دخول “المعز لدين الله الفاطمي”؛ مدينة “القاهرة”، قادمًا من الغرب.. وكان ذلك في يوم الخامس من رمضان عام 358 هجرية، وخرج المصريون في موكب كبير اشترك فيه الرجال والنساء والأطفال على أطراف الصحراء الغربية من ناحية “الجيزة”؛ للترحيب بـ”المعز”، الذي وصل ليلاً.. وكانوا يحملون المشاعل والفوانيس الملونة والمزينة؛ وذلك لإضاءة الطريق إليه.. وهكذا بقيت الفوانيس تُضيء الشوارع حتى آخر شهر رمضان.. لتُصبح عادة يلتزم بها كل سنة.. ويتحول “الفانوس” رمزًا للفرحة وتقليدًا محببًا في “شهر رمضان”.. ثم انتشرت ظاهرة “الفانوس المصري” إلى العالم.
ومن الروايات التي قيلت في هذا السياق أيضًا، أن الناس في العصر الفاطمي كانوا يولون الاحتفالات والأعياد اهتمامًا عظيمًا، ويتفننون في الإعداد لها، وكان قدوم “شهر رمضان” مناسبة عظيمة يقوم الناس بتنظيف المدينة وشوارعها.. والتجار يقومون بترتيب بضائعهم وتزيين حوانيتهم لاستقبال الشهر.
ومن ضمن هذه الاستعدادات كانت فوانيس الإضاءة الجميلة تُستخدم في الشوارع والمساجد والحوانيت، الأمر الذي جعل “الفانوس” يرتبط بمقدم “رمضان”.. وليس هناك بالضبط تأريخ دقيق للوقت الذي أصبح فيه “الفانوس” هدية الآباء لأبنائهم في “رمضان”.. ولكن الثابت أنه تحول إلى موروث شعبي أصيل في “مصر”. وقد تحول “الفانوس” من وظيفته الأصلية في الإضاءة ليلاً إلى وظيفة أخرى ترفيهية؛ إبان الدولة الفاطمية، حيث راح الأطفال يطوفون الشوارع والأزقة حاملين الفوانيس ويُطالبون بالهدايا من أنواع الحلوى التي ابتدعها الفاطميون، كما صاحب هؤلاء الأطفال – بفوانيسهم – “المسحراتي” ليلاً لتسحير الناس، حتى أصبح “الفانوس” مرتبطًا بـ”شهر رمضان” وألعاب الأطفال وأغانيهم الشهيرة في هذا الشهر، وبالتالي ارتبط “الفانوس”؛ بـ”المسحراتي”، الذي يجوب الشوارع لإيقاظ الناس في ليالي “رمضان”؛ حتى إن أول أنواع الفوانيس المعروفة كانت تحمل اسم “المسحراتي”، وهو “فانوس” صغير القاعدة وله أبواب كبيرة، قبل أن تظهر أشكال أخرى من الفوانيس. وقد انتقلت فكرة “الفانوس المصري” إلى أغلب الدول العربية؛ وأصبح جزء من تقاليد “شهر رمضان”، لاسيما في “دمشق وحلب والقدس وغزة” وغيرها.
صناعة “فانوس رمضان”..
تُعد مدينة “القاهرة”؛ من أهم المدن الإسلامية التي تزدهر فيها هذه الصناعة. وهناك مناطق معينة مثل منطقة “تحت الربع”؛ القريبة من “حي الأزهر”؛ و”الغورية”؛ ومنطقة “بركة الفيل”؛ بـ”السيدة زينب”، من أهم المناطق التي تخصصت في صناعة الفوانيس.
وفى جولة في منطقة “تحت الربع”؛ تجد أشهـر ورش الصناعة، وكذلك أشهر العائلات التي تتوارثها جيلاً بعد جيل. وقد شهدت هذه الصناعة تطورًا كبيرًا في الآونة الأخيرة، فبعد أن كان “الفانوس” عبارة عن علبة من الصفيح توضع بداخلها شمعة، تم تركيب الزجاج مع الصفيح مع عمل بعض الفتحات التي تجعل الشمعة تستمر في الإشتعال. ثم بدأت مرحلة أخرى تم فيها تشكيل الصفيح وتلوين الزجاج ووضع بعض النقوش والأشكال. وكان ذلك يتم يدويًا وتستخدم فيه المخلفات الزجاجية والمعدنية، وكان الأمر يحتاج إلى مهارة.
فوانيس رمضان في المنيا..
كان شراء الفوانيس أحد مظاهر قدوم “شهر رمضان”؛ وكانت محلات السمكرية في “المنيا”؛ هي التي تصنع الفوانيس بأشكالها المختلفة. وكان أبي، رحمه الله؛ يصطحبنا إلى أحد المحلات في شارع “الحسيني”؛ (الشارع التجاري الرئيس في مدينة المنيا)، لنختار الفوانيس. المكونة من تشكيلات مصنوع من الصاج وملحومة بالقصدير وفراغات الفانوس مملؤة بالزجاج الملون وشكله مبهج. وكانت توضع الشموع داخل الفانوس ويتم إشعالها وإغلاق باب الفانوس. وفي طفولتنا المبكرة كانت عملية إشعال الشمعة وإدخالها الفانوس تحتاج لمهارة خاصة مع استعمال الكبريت في عصور ما قبل الولاعات.
كانت والدتي؛ رحمها الله، تتولى إشعال الشموع وإدخالها في الفوانيس خوفًا علينا، ولكي لا نُحرق المنزل. ولأني طفل رخم كنت انفخ لأطفي الشموع في فوانيس أخواتي لتبدأ معركة لإطفاء الشموع وإشعالها، وكان ذلك أحد مظاهر الفرحة في الشهر الكريم.
الغريب أن مهنة صانع الفوانييس اختفت من “المنيا” الآن، ولكن ظلت مناطق “تحت الربع” و”بركة الفيل”؛ في “القاهرة”، مصدر رئيس لإنتاج الفوانيس لكل محافظات “مصر”. ورغم تطور الفوانيس من الصاج والزجاج الملون والشموع إلى فوانيس بلاستيكية وكهربائية تعمل بالحجارة ثم الفوانيس الصيني التي تُغني.
يظل “الفانوس” القديم المزخرف المصنوع يدويًا له سحره الخاص. ورغم عمل فوانيس من الخشب تُضاء باللمبات الكهربائية وأخرى مصنوعة من قماش الخيامية، يظل “الفانوس” الزجاجي يحمل متعة خاصة وذكريات لا تُنسى عن حرائق وسقوط الشمع المشتعل ولسعات النار لأصابعنا الصغيرة.
ويظل “فانوس رمضان” أحد مظاهر البهجة التي لا تُنسى.
ورمضان كريم..