خاص : بقلم – إلهامي الميرغني* :
*باحث اقتصادي وكاتب صحافي
قررت التوقف عن الكتابة في الاقتصاد والسياسة طوال شهر “رمضان المعظم”؛ واتكلم عن الذكريات والحياة.. و”رمضان كريم”، وكل سنة والجميع بكل الخير والصحة والسعادة..
01 – المسحراتي..
“المسحراتي”؛ مهنة أرتبطت بدخول الإسلام “مصر”، حيث لم يكن هناك وسائل للتواصل غير الاتصال البشري فكانت هناك مهنة إندثرت الآن؛ هي المنادي الذي يجوب الشوراع والأسواق يُعلن قرارات الوالي أو تعليمات الدرك أو ينادي على طفل تائه؛ ويصف أوصافه والمكان الذي يمكن أن يُسلم له في حالة العثور عليه، وكذلك كان الباعة الجائلين ينادون على بضاعتهم بأشعار مغناة. وقبل دخول الكهرباء كانت الناس تُشعل لمبات “الجاز” ليلاً، وكانت الشوارع أيضًا بها أعمدة إنارة يُشعلها شخص مكلف بذلك هو: “المشاعلي” أو “القناديلي”.
لذلك إذا نام الناس في “شهر رمضان”؛ بعد التراويح، فقد يغلبهم النوم فلا يستيقظوا للسحور وصلاة الفجر؛ لذلك ظهرت هذه المهنة من خلال وجود “مسحراتي” لكل حي؛ وهو عمل تطوعي بالأساس. بدأت قصة “المسحراتي” في “مصر”؛ منذ ما يقرب من 12 قرن مضى، وتحديدًا عام 853 ميلادية، وكان والي مصر العباسي؛ “إسحاق بن عقبة”، أول من طاف شوارع القاهرة، ليلًا في رمضان لإيقاظ أهلها لتناول طعام السحور، فقد كان يذهب سائرًا على قدميه من “مدينة العسكر” في “الفسطاط”، إلى “جامع عمرو بن العاص”، وينادي الناس بالسحور.
ومنذ ما يقرب من ألف عام، وتحديدًا في عصر “الدولة الفاطمية”، أمر “الحاكم بأمر الله”، الناس أن يناموا مبكرًا بعد صلاة التراويح، وكان الجنود يمرون على المنازل ويدقون أبوابها ليوقظوا المسلمين للسحور، حتى تم تعيين رجلاً للقيام بتلك المهة، أطلقوا عليم اسم: “المسحراتي”، كان يدق الأبواب بعصًا يحملها قائلاً: “يا أهل الله قوموا تسحروا”.
كادت مهنة “المسحراتي” أن تندثر في بلاد المحروسة، إلى أن جاء “العصر المملوكي”، وتحديدًا في عهد السلطان المملوكي؛ “الظاهر بيبرس”، والذي عمل على إحيائها كتراث إسلامي، ولتحقيق ذلك قام بتعيين صغار علماء الدين بالدق على أبواب البيوت، لإيقاظ أهلها للسحور، وبعد أكثر من نصف قرن، وتحديدًا في عهد “الناصر محمد بن قلاوون”، ظهرت طائفة أو “نقابة المسحراتية”، والتي أسسها؛ “أبوبكر محمد بن عبدالغني”، الشهير: بـ”ابن نقطة”، وهو مخترع فن “القوما”، وهي شكل من أشكال التسابيح، ولها علاقة كبيرة بالتسحير في شهر رمضان، ظهرت في “بغداد” في باديء الأمر، قبل أن تنتقل إلى “القاهرة”.
كان “ابن نقطة”، المسحراتي الخاص بالسلطان؛ “الناصر محمد بن قلاوون”، وعلى يديه تطورت مهنة “المسحراتي”، فتم استخدام الطبلة، والتي كان يُدق عليها دقات منتظمة، وذلك بدلاً من استخدام العصا، هذه الطبلة كانت تُسمى: “بازة”، صغيرة الحجم يدق عليها “المسحراتي” دقات منتظمة، ثم تطورت مظاهر المهنة، فأصبح “المسحراتي” يشدو بأشعار شعبية، وقصص من الملاحم، وزجل خاص بهذه المناسبة.
أذكر وأنا طفل في مدينة “المنيا”؛ وحين كان مكتب والدي والسكن في شارع “مصطفى فهمي”. تعلقت بالمسحراتي في رمضان وكان المسحراتي يعرف سكان كل بيت وأبنائهم وأصهارهم وينادي عليهم فردًا فردًا بزجل موزون وعلى نقرات الطبله التي كانت تصنع من جلد الماعز ويدق عليها بجلدة أو عصا صغيرة. فينادي مثلاً: “يا باشمهندس ميرغني قوم اتسحر”؛ “يا استاذ إلهامي قوم اتسحر”. وحكوا لي أنني وأنا في الثانية من عمري كنت أصر على أن يُنادى اسمي أكثر من مرة بل وأحيانًا أسوق الغتاته وأجبر والدي رحمه الله على المشي وراء المسحراتي مسافات طويلة مستمتعًا بصوته ونقرات الطبلة حتى أغفوا نائمًا.
وكان “المسحراتي” ينادي على أسماء الرجال والذكور فقط، ولكن بدأ أخوتي البنات يطلبن أن ينادي عليهم كما ينادي عليّ فأصبح ينادي بأسماء: “سامية وهدى وآمال”؛ وينظم بيت شعر على اسم كل منهن. وكان “المسحراتي” يمشي ومعه سلة من الخوص “سَبت”؛ يجمع به ما يجود به الناس عليه نقدًا أو عينًا. وعندما وصلت إلى المرحلة الاعدادية شغلني سؤال وهو ماذا يعمل “المسحراتي” في باقي أيام السنة ؟. وعرفت من أبي أنه عادة صاحب حرفة خياط أو سقا يحمل قرب المياه للمنازل؛ قبل دخول المياه، أو منجد ويقوم بهذا العمل لوجه الله في شهر رمضان. ويوم عيد الفطر يمر بالمنازل التي كان يوقظها للسحور فيحصل على “العديه” وما تيسر من المال أو الحلوى.
ومع بداية إندثار هذه المهنة بدأت الإذاعة المصرية إذاعة “المسحراتي”؛ كل ليلة، وهي من تأليف أبو الشعراء؛ “فؤاد حداد”، ولحن وغناء الشيخ “سيد مكاوي”. وكان عمنا “بيرم التونسي”، قد سبق في شعر السحور، ولكن نستطيع أن نفخر بأن “مسحراتي فؤاد حداد”؛ كان محطة مهمة في تطور شعر العامية، فهو الذي يُحث الناس على الصمود بعد النكسة، وهو الذي يتغنى ويفخر بالنصر.
مؤكد أنني وجيلي محظوظين؛ لأننا عاصرنا هذه الظواهر والمظاهر الرمضانية، والتي شكلت وعينا ووجدان متميز، جعلنا مختلفين. ورحم الله والدينا جميعًا وحفظ الآباء والأمهات جميعًا، وكل “رمضان” وكل الحبايب بخير وسعادة.
وما كتبه “فؤاد حداد”؛ من أشعار المسحراتي، تحتاج إلى كتب لتحليل مضمونها؛ رحمه الله، هو والشيخ “سيد مكاوي”، وكل من قام بدور لإيقاظ المصريين وصحيانهم من نومهم.
وقد كتب “حداد”:
مســحـراتي قديم جديد
مـنـقـراتي خفيف شديد
فاتح مدارس ساعة السُّحور
وطبلتي طبلة حضُور
خدت الثقافة على أساس
إن الثقافة كُتب وناس
قريت لطه وللحكيم
ولعم بيرم وللنديم
ومن المعرَّة على بولاق
أبوالعلا من أبوالعلاء
وكل سنة والجميع بخير ورمضان كريم