15 نوفمبر، 2024 6:10 ص
Search
Close this search box.

قضية شارلي الكبرى .. والبحث عن النص المفقود

قضية شارلي الكبرى .. والبحث عن النص المفقود

خاص : بقلم – د. محسن الميرغني :

“إن الثقافة السّائدة كفيلة بأن تحمي حالة النقص وتدافع عنها، فيحس صاحبها بأنه طبيعي ولا تتحول حالته إلى حالة من حالات الشذوذ”

إريك فروم – المجتمع السليم

 

الملحوظة النقدية الأولى بخصوص عرض (شارلي) أنه خاص بشريحة اجتماعية معينة، ذات قدرة مالية مميزة، بمعنى أن المواطن العادي صاحب الدخل المحدود في مصر الآن، سيُفكر أكثر من مرة قبل الحصول على تذكرة مسرح لحضور ليلة عرض ستُكلفه في حدها الأدنى 300 جنيه مصري، إضافة لتكلفة الوصول لمسرح فندق موفنبيك على طريق الواحات. وهو مبلغ كبير لإنفاقه على الترفيه والتسّلية لفردٍ واحد في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية.

(افتتح العرض أولى لياليه في المملكة العربية السعودية في كانون ثان/يناير 2023م، وهذا يوضح طبيعة الجمهور المسّتهدف من إنتاج هذا العمل الفني).

بالتالي عندما نتعامل مع العرض نقديًا ينبغي وضع هذا في الحسّبان، هذا عرض أنتج خصيصًا لاستهداف الربح المالي، واجتذاب جمهوره من أصحاب المداخيل المرتفعة، باعتباره بديلاً فنيًا محليًا لعروض “الميوزيكال” الأجنبية.

المخرج “أحمد البوهي” له رصيدٍ من العمل في تجارب وعروض مسرحية مصرية. ومن الطبيعي أن يُحاول تقديم نفسه للعالم وسوق الإنتاج المسرحي الخاص في مصر وخارجها كمخرج مسرحي لعمل فني جديد ومبهر.

“محمد فهيم” ممثل موهوب – ومغني موهوب جدًا- قدم أدوارًا كثيرة قبل تجربة (شارلي) أهمها وأبرزها تقديمه شخصية “سيد قطب” في الجزء الثاني من مسلسل (الجماعة). ومن المبهج والجميل أن يسّعى ممثل شاب موهوب في الرقص والغناء والتمثيل لتقديم نفسه بصورة فنية جديدة ومبهرة، تُخرجه من الصورة الكاريكاتورية السّاذجة التي قدم بها شخصية واقعية تاريخية في دراما تلفزيونية مُسيّسه.

أما مؤلف العمل الطبيب؛ “مدحت العدل”، فهو صاحب رصيد فني كبير في كتابة نصوص درامية سينمائية ومسرحية وأشعار غنائية ناجحة جماهيريًا، وربما يكون هذا ما دفع الناقدة الكبيرة؛ “وفاء كمالو”، لوصف (شارلي) بأنه: “صياغة درامية شاهقة”، وجعلها تكتب عن “مدحت العدل” أنه: “اختار أهم ملامحها (أي الدراما) الإنسانية والفنية والسياسية، وبعث حالة إبداعية مدهشة غير مسّبوقة، تُمثل إنجازًا دراميًا يُثير الجدل والتساؤلات”.

في حديث تلفزيوني لبرنامج (معكم مني الشاذلي)؛ صرح “محمد فهيم” و”أحمد البوهي” أن رغبتهما في تقديم عمل مسرحي “ميوزيكال” عن “شارلي شابلن” جاءتهما مناصفة، فانطلقا بالفكرة إلى الأستاذ “مدحت العدل” مؤلف العمل لاحقًا، باعتباره شخصًا له علاقة قوية بسوق الإنتاج الفني في مصر، وصرح “مدحت العدل” بأنه: “بعد أن استمع لهما، وقرأ ما أحضراه معهما من مواد وأفلام عن شارلي شابلن، أنهم تركوه في حالة (شابلينزم)، ومن ثم قرر أنه هو: “وحده في مصر من سيتصدى لكتابة هذا العرض”، هذه التصريحات توضح كيف تشّكلت نواة فكرة هذا العمل الفني في عقول صناعه. وبالتالي لن نُحّمل العرض أكثر مما قالوه عنه. عرض “ميوزيكال” عن “شارلي شابلن” بمؤلف أشعار وأغانٍ مصري مشهور.

الآن يمكننا طرح السؤال: ماذا قدم لنا صُناع العرض من حياة “شارلي شابلن” الممّتدة لأكثر من ثمانين عامًا ؟

اختار المخرج (باعتباره صاحب الفكرة والسيناريو كما أعلن) تقديم “شارلي” في دراما موسيقية واقعية توثيقية، تُجسّد فترة ثلاثين عامًا من حياة “شارلي” تبدأ في 1921م؛ في أثناء تصوير أحد مشاهد فيلم (الطفل-The kid) وتنتهي برحيله عن الولايات المتحدة الأميركية في 1952م؛ بعد مثوله أمام لجنة تحقيق لسؤاله عن حقيقة كونه شيوعيًا معاديًا للرأسمالية أم لا ؟، وبين هذين التاريخين نشاهد “شارلي شابلن” النجم السينمائي، وهو يواجه صراعًا نفسيًا داخليًا مضنيًا لتقديم فنه السينمائي بالصورة المُثّلى التي يراها وسط عدم فهم المحيطين به لما يُعانيه من هموم وأحزان داخلية، وشكواهم الجماعية من طريقته في إخراج العمل، وإرهاقهم لتحقيق رؤيته الفنية، هذا بالإضافة لمواجهته صراعًا خارجيًا يتمثل في تعرضه لمضايقات أمنية وتضييقات وملاحقات قضائية وحرب إشاعات وتشّهير من الصحافة تقودها الصحافية؛ “هيدا هوبر”، والتي تتفق مع مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية؛ “إدغار هوفر”، حتى يتم في النهاية اتهام “شارلي”: بـ”تخريب قيّم المجتمع الأميركي”، وتحفيز مجموعات عديدة من فئات المجتمع لتأييد طرده من البلاد بزعم إنه موالٍ للشيوعية.

فهل هذا السّياق الدرامي الذي اختاره صُناع العرض، يحتوي فعلاً على أهم وأبرز المواقف والمشاهد الدرامية في حياة “شارلي شابلن” الخاصة وسّيرته الفنية والمهنية المسرحية والسينمائية ؟.. في الحقيقة – ومن وجهة نظري النقدية – أعتقد أن الإجابة في رأيي هي: لا.

والمصدر الرئيس لهذه الإجابة هو كتاب (قصة حياتي)، لـ”شارلي شابلن”، من ترجمة: “كميل داغر”، الصادر في بيروت، عن المركز الثقافي العربي، في طبعته الأولى، عام 1994م، وقد سّجل فيها “شارلي شابلن” تفاصيل سنوات طفولته الأولى بشكلٍ أدبي رفيع المستوى، ورسّم صورة ملهمة لتشّكل وعيه كطفل وصبي صغير ومراهق إنكليزي في سنوات بداية القرن العشرين، وهو يواجه واقعًا اجتماعيًا مترديًا، يتمثل في الفقر الشديد، والعيش تحت وطأة تجربة انفصال الوالدين، وقلة حيلة الأم في تدبير نفقات معيشتهم، ثم انتزاع أمه منه بقسوة، لمرضها واحتجازها في مصحة تابعة لملجأ خيري، واضطراره لمواجهة عالم الملاجيء القاسي والبارد وحيدًا دون عونٍ أو سّند، بعد ابتعاد أخوه؛ “سيدني”، عنه بسبب بحثه عن عمل.

والمذكرات على روعتها الأدبية والفنية تحتوي بين سّطورها على لحظات ومواقف كثيرة مؤثرة دراميًا وهامة فنيًا وإنسانيًا، منها على سبيل المثال: لحظة صعوده للمسرح وهو ابن خمس سنوات، ليُنقذ أمه بعد أن احتبس صوتها وهي تؤدي نمرتها الغنائية في بارٍ فقير، ونجاحه في تحقيق مكسّب مالي من تصرفه هذا.

ثم لحظات لقاءاته القليلة والنادرة مع والده الممثل السّكير، وكذلك لحظة موت والده وحضوره جنازته مع أمه وأخيه، ثم ممارسّته لمهن كثيرة ومتنوعة طوال فترة صباه ليُعيّل نفسه وأمه، وهو يحكي في هذه الصفحات تفاصيل ويصف لمحات كانت تصّلح لتقديم وكتابة لوحات عظيمة من حيث محتواها الدرامي، وكان من الممكن تقديمها بين مُجمل اللوحات الراقصة التي قدمها صُناع العرض، مثل لحظات سّفره وانتقاله لأميركا لأول مرة، واكتشافه لعالم السينما الجديد ولحظات نجاحه وتقدمه في عمله بالتمثيل والإخراج السينمائي بسرعة مدهشة ومفاجئة له هو شخصيًا، في ظل صعود فن السينما كفن جماهيري في أميركا في تلك الفترة. وعلاقاته النسائية المتعددة والمرتبكة بزوجاته وحبيباته على مدار سنوات حياته، ثم مرحلة صراعه للبقاء على قمة نجوميته في أواسط الثلاثينيات بعد أن تغيّرت طبيعة صناعة السينما بظهور الفيلم الناطق، وإصراره على الاستمرار في تقديم أفلام صامتة تمسّكًا بهويته الإخراجية والإبداعية، ثم بدايات الحملة الشرسة عليه، والتي تصاعدت وطالته بحلول الأربعينيات، وكان أطرافها صحافيين فضائح ونميمة وأصحاب شركات إنتاج من الخصوم، وجهات تحقيق أمنية وقضائية تعمل في ظل حُمى المكارثية، رأت في توجهاته اليسارية وحياده في لحظات الحرب، خطرًا على قيّم المجتمع الرأسمالي الأميركي، كل هذه المواقف والمشاهد في مذكرات “شارلي شابلن”، كانت تصلح لتقديم مادة درامية وفنية ثرية عن شخصية ممثل مسرحي وسينمائي وأيقونة فنية عالمية.. وهي ذات المصدر الذي استند إليه مبدعو المسرحية الأميركية الموسيقية (شابلن)؛ التي كتب نصها “كريستوفر كيرتس” ونشرها في كتاب (مسرحية في فصلين) اشترك في تأليفها معه؛ “توماس ميهان”.

والمسرحية الأميركية؛ (شابلن)، ظهرت للمرة الأولى في عام 2006م، بـ”مهرجان نيويورك للمسرح الموسيقي”، ثم عُرضت مرة أخرى في عام 2010م على مسرح “لا-غولا” بسان دييجو، ولاية كاليفورنيا؛ من إخراج “وارن كارلايل” و”مايكل آنغر”، وانتقلت بعدها في عام 2012م لتُعرض على مسرح “إثيل باريمور”؛ في “برودواي”، من إخراج “وارن كارلايل”.

بعدها بأربع سنوات؛ أنتجت مرة أخرى لكن خارج “برودواي” من قبل شركة “برينتلي ديفرنت برودكشن” في مدينة “هندرسون” بولاية “كنتاكي”، وقدمت لثلاثة ليال في آب/أغسطس من عام 2016م، ثم أنتجتها أيضًا أكاديمية ألبوكيرك لمدرسة ألبوكيرك الثانوية، بنيومكسيكو، وعُرضت في مركز “سيمز” للفنون المسرحية.

“شارلي” المصري وغياب النص الدرامي:

يبدأ عرض (شارلي) المصري؛ بأوفرتير (افتتاحية) راقصة على أنغام موسيقى كلاسيكية وتمثال أوسكار يتوسّط عمق منتصف المسرح وأغنية يُغنيها أربع مغنون في ملابس عصرية حديثة تنتمي لزمننا الراهن، ثم بعد الافتتاحية الراقصة يظهر مستويين متحركين (بارتكبلات) من يسار المسرح عليه “شارلي” طفلاً وهو نائم يحلم بأحلامه المستقبلية ويدخل أخوه؛ “سيدني”، ليوقظه ويقطع عنه حلمه، فتدور بينهما مشادة وتتحول لخناقة سببها أن “شارلي” يحلم بالوصول للنجومية والتألق العالمي وأن يكون مشهورًا في كل بلدان العالم ومنها “لبنان واليابان” (ولا أدرى ما أهمية وجود بلد كلبنان في طموحات طفل إنكليزي في تلك الفترة الزمنية، لكن أغلب الظن أن المكتوب شعرًا يُغني دون التفكير فيه من قبل صُناع العمل) ثم تظهر الأم  (قامت بالدور الممثلة الموهوبة والمجتهدة نور قدري)؛ قادمة من يمين المسرح فوق مستوى متحرك آخر وبجوارها ماكينة خياطة يدويه. لتشتبك مع طفليها في حوار مغّنى وتنصح “شارلي” في نهايته بأن يحلم.. “أحلم يا شارلي”. وهذا المشهد الافتتاحي لـ”شارلي” طفلاً هو التجسّيد الواقعي الوحيد لمرحلة الطفولة لشخصية “شارلي”. (نور قدري في دور الأم كانت محظوظة كممثلة، فطبيعة الدور الذي تؤديه، اقتضى في معظم مشاهدها التمثيلية أن تظهر طيفًا أو خيالاً يتجسّد أمامنا في عقل شارلي، وبالتالي لم تكن مُلزمة بتقديم تفاصيل واقعية في أداءها لشخصية الأم، وبالتالي أفلتت من الوقوع في فخ التقليد الطبيعي لشخصية “هانا”؛ وهو ما وقع فيه بطل العرض الأول؛ محمد فهيم، وعماد إسماعيل في شخصية سيدني؛ والتي نجد لها شكلاً خارجيًا معروفًا في الفيديوهات والأفلام الموجودة لهما).

بعد هذا المشهد ننتقل مع صوت بطل العرض الرئيس؛ “شارلي”، وهو يُعلمّنا بأننا في عام 1921م في كواليس تصوير فيلم (الطفل-the kid) – ثم بعد تقديم لوحة فنية راقصة على الموسيقى يؤديها مجموعة شباب من الراقصين الرائعين المبهرين بنشاطهم وحيويتهم في أداء اللوحات الراقصة وسط ديكور منظر داخلي للاستوديو (وهي الخلفية المشهدية التي ستظل مستمرة  كخلفية رئيسة لمعظم أحداث العرض؛ بالإضافة إلى وجود مشهدين جانبيين فوق “برياكوتا” متحركة يمين ويسار المسرح).

يظهر “سيدني”؛ أخو “شارلي” الأكبر ومدير أعماله، ليُهّديء العمال والموظفين المعترضين والثائرين على طريقة إخراج “شارلي” المرهقة، ثم بعد مشهد تمثيلي مقتضب بين “سيدني” والعاملين بالاستوديو، يظهر “شارلي” ليُقدم لنا مشهدًا تمثيليًا من مشاهد فيلم الطفل، (مشهد يُثبت به مخرج العرض أن محمد فهيم ممثل يُجيد تقليد حركات شابلن الإيمائية في أفلامه الصامتة)، وبعد ذلك يتغير المشهد لنجد أنفسنا في غرفة “شارلي” جالسًا أمام المرآة، ويدخل عليه “سيدني” ليطلب منه تقليل حجم الفيلم لأنه طويل فيرد عليه “شارلي”:

شارلي: ده رأيك ولا رأي الناس البُعدا ؟

سيدني: لا طبعًا ده رأيي، بس رأي البُعدا أهم..

طبعًا يا شارلي، هما رأس المال والبيزنس يعني فلوس

شارلي: إلا فني..

سيدني: طب ممكن تسمعني ؟

شارلي: تاني يا سيدني هتعصّبني وأنا قدامي شغل كتير

سيدني: طب ما كفايه وقفل فكره..

شارلي: لما أتطمن

سيدني: شارلي أنت كده ممكن تقعد سنه بحالها تتطمن

شارلي: إن شالله أقعد عشرين

سيدني: ومين يتحمل ؟

شارلي: وأنا مين يتحمل حزني لو فيلمي الناس رفضوه ؟

مين يتحمل إني أموت وأتوه ؟

والقلب الحاسس بالفن ومن فوقه الصدق الغالي يصادروه

علشان حبة دولارات

علشان حبة دولارات يا سيدني ؟”.

في نهاية هذا الحوار الحالم يُحاول “سيدني” تلطيف الأجواء بينه وبين أخيه، بإلقاء نكتة لإضحاكه وعندما يفشل في هذا، يسأله بشكلٍ مفاجيء: “فاكر أمنا ؟” لينتقل المشهد إلى لوحة غنائية راقصة تُقدمها الأم في خيال الشخصيتين تنتهي بجملة ممهورة من جمل العرض هي: “أوعى تبيع فنك ببلاش”، وهنا يُكرر “شارلي” المعترض منذ قليل على تقليل حجم الفيلم، والذي كان يُدافع عن عملية مقايضة فنه بـ”حبة دولارات” ؟!!، مقولة الأم المغناة: “أوعى تبيع فنك ببلاش” في تناقض سريع وعجيب في الحوار وتبدل سريع في موقف الشخصية لم أفهمه كمشاهد.

ينتقل المشهد إلى الكواليس مرة أخرى لنرى العمال والموظفين وهم يعملون مع دخول شخصية “هيدا هوبر”؛ صحافية النميمة والفضائح التي تسّعى لإجراء مقابلة مع “شارلي” دون أي سابق معرفة، وعندما يمنعها مساعدوه من مقاطعة تصوير الفيلم، واقتحام الاستوديو دون إذن مسّبق، ثم يسألونها من تكون، تنطلق الممثلة في تقديم لوحة استعراضية راقصة: “أنا هيدا هوبر.. وهيدا هوبر أنا”، وبعد أن نتعرف على “هيدا هوبر”، ينتهي المشهد بدخول “شارلي” مرة أخرى لأداء مشهد تقليد صامت آخر، وفي أثناء هذا يقتحم رجال الـ”إف. بي. آي” بقيادة؛ “إدغار هوفر”، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية؛ (وهي اللحظة التي تُمثل نقطة الهجوم على الوسط السّاكن في دراما العرض). ليتم المشهد في حوار موقع مسّجوع، يُشبه حوارات “ألف ليلة وليلة” التي كنا نسّمعها ونحن صغار ويتواجه الخصمان العنيدان؛ “شارلي” و”هوفر”:

شارلي: أنت مين ؟

هوفر: الأمن بذاته.. أنا كونت الأمن بكل حاجاته

شارلي: (يضحك) كل حاجاته ؟

هوفر: ما هو لما بتسّخر م الشرطة في فيلمك

وعلى جثة أميركا تحقق حلمك.. وأنا موجود ولا عمره هيحصل..

شارلي: اطلع بره.

هوفر: أنا دلوقتي راح أطلع بره

لكن بكره إنت إللي هتطلع بره بلادي

شارلي: فاشل سادي.. اطلع بره

هوفر: عادي

أفلامك مش مع مبادئنا أفلامك ضد الحرية

شارلي: أفكارك سجن يُقيّدنا وعدوة كل البشرية

هوفر: أنا شايف أفلام تتكلم عن حرية راس المال

شارلي: وأنا شايف أفلامي بتحكي عن مأساة كل العمال..

هوفر: إنت شيوعي

شارلي: أنا إنسان

هوفر: إنت مناهض للأديان ؟

شارلي: أنا متصاحب ع الأحزان المخفية في ضحكة بسيطة

هوفر: مش راح أسيبك

وعلى هذا المنوال ينسّج المؤلف حوار الشخصيات في العمل كله، ومن الواضح أن كتابة حوار بهذه الطريقة المسّجوعة، كانت تهدف لأن يكون مُغنى ومصحوبًا بالموسيقى، لكن المخرج اختار تقديم الحوار منطوقًا بهذه الطريقة المضحكة أحيانًا، لسّذاجتها الفنية فأنت كمتفرج تُشاهد شخصًا يرتدي ملابس غربية عصرية حديثة، وينطق بحوار مسّجوع في موقف جاد ومتوتر، تشعر بانفصال عما تراه من صورة بصرية، ومع تكرار هذه التنغيمات الصوتية للحوار، وارتباطها في مخيلتنا بأدب المقامات والنصوص الأدبية القديمة، يُصبح تركيب الصوت على الصورة منفرًا وظالمًا للممثلين. لأن تقديم هذه المشاهد بهذه الصورة، أفقد حتى الملابس والديكور قدرتهما على نقل الواقع الفني للأحداث بصورة جمالية صادقة.

بإعلان الخطوط الدرامية الرئيسة للصراع بين “شارلي” بطلاً مدافعًا عن الإنسانية والحرية والسلام ومناشدًا العالم أن يتوحد ضد الظلم، وبين المحقق “هوفر” غريمًا وخصمًا شرسًا مدافعًا عن السياسات الرأسمالية والقيّم الاجتماعية للثقافة الأميركية، وتتصاعد أزمة البطل طوال الفصل الأول من العرض لتصل بنا إلى احتدامها في لوحةٍ تعبيرية غنائية يُصارع فيها “شارلي” خيوط عنكبوت تحتل كامل مساحة المسرح بتقنية “الفيديو ما بينغ” وهي الحيلة الفنية الأكثر إبهارًا لجمهور أي عرض مسرحي، وبدءًا من هذا الجزء تتحدد لنا صيغة البُنية المشهدية في بقية الحبكة المسرحية في الفصل الثاني، إذ تتابع لوحات موسيقية راقصة مغناة يقدمها شباب الراقصين، تتخللها مشاهد تمثيلية حواريه جلوسًا أو وقوفًا يُقدمها الممثلون، يقطعها مقاطع صوتية إذاعية تسجيلية توثق للجمهور محطات مهمة في تاريخ شخصية “شارلي شابلن” من وجهة نظر صناع العرض ولا جديد، والأدهى تلك المسّحة التوثيقية التي أراد صُناع العرض إضافتها للعرض فأكدوا عدم عنايتهم بتدقيق وتحقيق مادتهم التسّجيلية، مثل المقطع الذي يقول فيه الراوي الصوتي:

“في عام 1931 تقابل شارلي شابلن مع مهاتما غاندي في لندن وتحدثا عن مأساة تسّريح العمال، وقال له غاندي نحن في زمن سيطرة الآلة على الإنسان فصنع شارلي فيلم الأزمنة الحديثة”.

في حين نجد “شارلي شابلن” يقول في مذكراته عن هذه اللحظة:

“ثم تذكرت مقابلة أعطيتها سابقًا لمراسّل شاب ولامع لجريدة (world) النيويوركية. فحين علم أنني سأزور ديترويت، حدثني عن سلسلة التركيب الموجودة هناك: تلك القصة المحزنة للصناعة الكبرى التي تجتذب من المزارع شبانًا أقوياء يُصبحون بعد أربع سنوات أو خمس من العمل على السلسلة كائنات بشرية واهنة. ذلك الحديث هو الذي أعطاني فكرة الأزمنة الحديثة”.

المصدر: (قصة حياتي)، شارلي شابلن، ترجمة: كميل داغر، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994م، ص352.

فمن نصدق “شارلي شابلن” أم صُناع العرض ؟!

لهذا يمكننا القول بغياب نص درامي في عرض (شارلي)، نص يلتزم أبسط قواعد التأليف للمسرح الموسيقي، من حيث وجود حبكة فنية تُسّاندها موسيقى أو تُفسّرها موسيقى وتُعبر عنها، بحيث يستمتع المتلقي بفعل المشاهدة دون خروج من حالة الاستمتاع الفني أثناء التلقي للحظات تفكير عقلي جافة تسّببها عثرات النص الدرامي، أو هفوات الإخراج..

(تظهر شخصية؛ “أونا”، زوجة “أونيل” الرابعة؛ وهي صامته، وقد تصورت وأنا أشاهد المشهد التمثيلي أن الممثلة غير قادرة على الكلام أو أنها تعرضت لمشكلة في صوتها ألزمتها عدم الكلام، ثم اكتشفت بعد سؤال أحد الأصدقاء العاملين في العرض أن المخرج رأى في صمت “أونا أونيل”؛ بعد وفاة “شارلي”، وعدم حديثها عنه مبررًا لجعل الشخصية الدرامية في العرض صامتة لا تتكلم، فأي منطق إخراجي هذا الذي يضع المتفرج في حيرة من أمره ؟).

وقد أدي غياب النص الدرامي الموسيقي المُحّكم لتصور المخرج والمؤلف أنهما بتقديمهما لعرض راقص يعتمد الإبهار البصري لجمهور لا يهتم بالتفاصيل سيُحققان النجاح الفني وهو ما يؤكدونه بعدما حققت المسرحية أرباحًا مالية لمنتجيها خلال عرضها خارج مصر في السعودية، وأنا أعتقد أن المؤلف تصور أن كتابة أغنيات للوحات راقصة مع مشاهد تمثيلية موقعة مسّجوعة سيحول المسرحية إلى عرض “ميوزيكال” مثل عروض “برودواي”، كما يتباهى بذلك صُناع العرض في حواراتهم وتعليقاتهم وردودهم، وكما كتب الناقد “أشرف فؤاد” في (مسرحنا)؛ قائلاً عن المسرحية أنها: “أول عرض ميوزيكال احترافي من نوعه بالشرق الأوسط”، أو كما كتب الناقد القدير والزميل العزيز “أحمد خميس” في نشرة المهرجان التجريبي عن العرض أنه: “فتح… الطريق أمام الصناعة الجادة كي تأخذ دورها في التحكم في سوق العرض المسرحي الخاص، من خلال صناعة ممتازة خارجة من عباءة التكوين الوثائقي الذي يخلط المعلومة بالحكاية”؛ فيا ترى أي جدية كان يقصد ؟

الرقص والاستعراضات:

من اللحظات الأولى للعرض نكتشف أن وجود الراقصين فوق خشبة المسرح هو الركيزة الرئيسة لنجاح هذا العرض جماهيريًا، فالقوة والحيوية والتكوينات الجسّدية التي يُقدمها هؤلاء الشباب من الراقصين في مشاهد تعبيرية هو ما يمنح عرض (شارلي) إبهاره البصري، وهذا مما يُحسّب لمخرج العرض؛ “أحمد البوهي”، مع مصمم الرقصات؛ “عمرو باتريك”، في تقديمهما لهذه الطاقة الموظفة فنيًا على خشبة المسرح المصري،  واجتهاد الجميع في أن تظهر الصورة بهذا القدر من النشاط والانضباط. مع اقتراب ثيمات الرقص في الافتتاحية من طبيعة الأجواء الزمنية التي تدور فيها أحداث العرض فيما بعد.

وقد أعجبني بشكلٍ خاص لوحة الحرب العالمية في الفصل الثاني؛ وتحديدًا مشهد الجندي الذي امتنع عن قتل الأبرياء العزل، فيقوم القائد العسكري بضربه من ظهره بالرصاص. لكن وبعيدًا عما أعجبني تظل الرقصات المصممة في كثير منها ذات طابع حركي حديث مقارنة بالفترة التي يتناولها العرض والملاحظ أن البصمة الفنية لمصمم الرقصات تبدو واحدة في كثير من الجماعية فالمفردات التي يستخدمها والموتيفات الأكروباتية يُعاد تكراراها مرارًا وتكرارًا في لوحات: “إحنا جنون الشوارع” ورقصات مشاهد الاستوديو الأولى.

الموسيقى:

ينتمي عرض (شارلي) إلى النوع المسرحي المعروف جماهيريًا وعالميًا باسم عروض المسرح الموسيقي (Musical performance)؛ والتي اشتهرت بها تحديدًا مسارح “برودواي” في الولايات المتحدة الأميركية ومسارح “الوست إند” في إنكلترا منذ بدايات القرن الماضي، لعقود طويلة ظلت هذه العروض الموسيقية المبهرة ذات الألوان الهارمونية المتعددة بما تحمله من إمكانات فنية وجمالية، طموحًا مرجوًا لدى صُناع العرض المسرحي المحلي في مصر، وعلى الرُغم من أن بدايات مسرحنا المصري كانت غنائية طربية، فقد عرفت مسارحنا الشعر المُغنى والملحن بموسيقى شرقية وكان المؤلف في تلك الفترة يُعد النص المسرحي ليوافق هوى البطل وطموحاته وإمكاناته الخاصة، ورُغم أن رصيدنا الإبداعي في هذا المجال الموسيقي غير قليل، فمحاولات “سيد درويش” و”كامل الخلعي” تلحينًا لنصوص “بديع خيري” و”أمين صدقي” و”بيرم التونسي” تأليفًا. تُثبّت قدرتنا الفنية على تقديم النوع المسرحي الموسيقي بطابع شرقي، لكن للأسف توقف إبداعنا الفني في هذا المضمار وتعطلت قدرتنا على التعامل مع النصوص الغنائية باعتبارها هدفًا فنيًا لمبدعي المسرح والموسيقى، بل إن كثير من مبدعينا باتوا يرون في نموذج الشكل الغربي للمسرح الموسيقي ما يُحقق لهم طموحهم الفني، مما تسبب في إغراق المسرح المصري بمحاولات عديدة لتقديم أعمال مسرحية موسيقية وكلها مأخوذة عن أصول غربية أجنبية كأعمال “ديزني” التي صارت موضة خلال السنوات السابقة، ولا يتقدم الصف فنان مصري واحد ليتصدى لتقديم موسيقى غنائية عربية الطابع، بالرُغم من وجود معهد للموسيقى العربية ومعهد للكونسيرفاتوار في أكاديمية الفنون، يُخرجان كل عام طلابًا نابهين وموهوبين؛ بالإضافة لخبراء التلحين والتوزيع الموجودين على الساحة، حاول المؤلف الموسيقي للعرض “إيهاب عبدالحميد” الاقتراب بالميلودي أو اللحن الأساس للعرض من الشكل الموسيقي الرائج في تلك الفترة الزمنية المواكبة لأحداث العرض، وهو ما يُحسّب له فنيًا، ويُعد ملمحًا رئيسًا من ملامح نجاح عنصر الموسيقى، فرغم تنوع الأغاني وكثرة الانتقالات بين اللوحات من ثيمات فردية وجماعية أو ثيمات حزينة وفرحه مبهجة، إلا أن الموسيقى لم تفقد تسلسلها وانسّيابيتها الممتعة في كل لوحة.

ولا أخفي إعجابي بموسيقى “إيهاب عبدالواحد”، رُغم الطابع الغربي لألحان العرض؛ وهو ما فرضته عليه طبيعة الموضوع، وتظل أغنية: “إحنا جنون الشوارع”، التي أداها “محمد فهيم” بصوت شجي وتطريب شرقي أغنية جميلة، وإن ظهرت رغم عذوبتها الفنية كجزء غريب خارج سياق الألحان المصاحبة للوحات الاستعراضية الجماعية.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة