خاص: قراءة- سماح عادل
استعرض الكتاب بعض الحكام، في تاريخ الحضارة الصينية القديمة، الذين سعي الخيرين منهم إلي تحقيق المساواة بين الناس، وتنظيم البلاد اقتصاديا بحيث يمنعون الملكية الخاصة والجشع، وكانت دوما ما تقام الحركات المعادية لتلك المساواة. ثم انتهي الأمر بغزو التتار للصين. وذلك في الحلقة التاسعة والتسعين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
خوف المتسلط..
يكمل الكتاب الحكي عن أول إمبراطور للصين: “وكان من أثر القضاء على الأسر القوية وعلى حرية الكتابة والخطابة أن أمسى “شي” في شيخوخته لا نصير له ولا معين. وحاول أعداؤه عدة مرات أن يغتالوه، ولكنه كان يكشف أمرهم في الوقت المناسب ويقتل بيده من يحاولون قتله. وكان يجلس على عرشه والسيف مسلول فوق ركبتيه، ولا يسمح لأحد أن يعرف في أية حجرة من حجرات قصوره الكثيرة ينام ليله.
وقد حاول كما حاول الإسكندر من بعده أن يقوي أسرته بما يذيعه في الناس من أنه إله، ولكنه أخفق في غرضه هذا كما أخفق الإسكندر لأنه لم يستطع أن يقنع الناس بما بينه وبين الآلهة من شبه. وأصدر أمرا بأن يطلق عليه خلفاؤه “الإمبراطور الأول”، وأن يضعوا هم لأسمائهم أرقاما مسلسلة من بعده تنتهي بالإمبراطور المتمم لعشرة آلاف من نسله. ولكن أسرته قضي عليها بموت ولده. وإذا جاز لنا أن نصدق أقوال المؤرخين الذين كانوا يبغضونه فإنه صار في شيخوخته يؤمن بالخرافات، وينفق الأموال الطائلة في البحث عن أكسير الخلود.
ولما مات جيء بجسمه سرا إلى عاصمة ملكه، وقد نقلته إليها قافلة تحمل السمك النتن حتى تختفي بذلك رائحته الكريهة، ويقال أن بضعة آلاف من الفتيات قد دفن معه ليؤنسنه في قبره، وأن خلفه أراد أن يظهر اغتباطه بموته فنثر الأموال على قبره وأنفق الكثير منها في تزيينه، فنقشت على سقفه أبراج النجوم، وصورت على أرضه خريطة للإمبراطور بالزئبق فوق أرضية من البرونز، وأقيمت في القبة آلات تقتل من نفسها كل من يتعدى على حرمه القبر، وأشعلت فيه شموع ضخمة لكي تضيء أعمال الإمبراطور الميت وأعمال ملكاته إلى أمد غير محدود. أما العمال الذي حملوا التابوت إلى القبر فقد دفنوا فيه أحياء مع حملهم خشية أن يكشفوا للناس عن الطريق السري المؤدي إلى المدفن”.
تجارب في الاشتراكية..
ويتابع الكتاب عن الزمن بعد موت الإمبراطور الأول: “وأعقب موته عهد من الفوضى والاضطراب كما تعقب الفوضى والاضطراب موت الطغاة جميعهم تقريبا في أحقاب التاريخ كلها. ذلك أنه في وسع إنسان أيا كان أن يجمع السلطة كلها في يده ويحسن التصرف فيها. وثار الشعب إلى ابنه وقتله بعد أن قتل هو لي سيو بقليل، وقضى على أسرة تشين، ولم يمض على وفاة مؤسسها أكثر من خمس سنين. وأقام الأمراء المتنافسون ممالك متنافسة متعادية وساد الاضطراب من جديد.
ودامت هذه الحال حتى اغتصب العرش زعيم عسكري مغامر مرتزق يدعى جو – دزو، وأسس أسرة هان التي ظلت تحكم البلاد أربعمائة عام كاملة، تخللتها فترات أنزلت فيها عن العرش، وتبدلت فيها العاصمة مرة واحدة . وأعاد ون – دي (179-75ق.م.) إلى الشعب حرية القول والكتابة، وألغي المرسوم الذي حرم به هونج – دي انتقاد الحكومة، وجرى على سياسة السلم، وابتدع العادة الصينية المأثورة عادة هزيمة قائد الجيش العدو بتقديم الهدايا إليه”.
الإمبراطور وو- دي..
ويواصل الكتاب: “وكان وو – دي أعظم الأباطرة من أسرة هان وقد حكم البلاد زهاء نصف قرن (140-87 ق.م) وصد البرابرة المغيرين، وبسط حكم الصين على كوريا ومنشوريا وأنام، والهند الصينية والتركستان، وشملت الصين – لأول مرة في التاريخ جميع الأقاليم الشاسعة التي تعودنا أن نقرنها باسمها. وأخذ وو – دي يقوم بتجارب في الاشتراكية، فجعل موارد الثروة الطبيعية ملكا للامة، وذلك ليمنع الأفراد “أن يختصوا أنفسهم بثروة الجبال والبحار، ليجنوا من ورائها الأموال الطائلة، ويخضعوا لهم الطبقات الدنيا. واحتكرت الدولة استخراج الملح والحديد وعصر الخمور وبيعها.
وأراد وو – دي – كما يقول معاصره زوماتشين- أن يقضي على سلطان الوسطاء والمضاربين “الذين يشترون البضائع نسيئة، ويعقدون القروض، والذين يشترون ليكدسوا ما يشترونه في المدن، والذين يخزنون كل أنواع السلع”، فأنشأ نظاما قوميا للنقل والتبادل تشرف عليه الدولة، وسعى للسيطرة على التجارة حتى يستطيع منع تقلب الأسعار الفجائي. فكان عمال الدولة هم الذين يتولون شئون نقل البضائع وتوصيلها إلى أصحابها في جميع أنحاء البلاد.
وكانت الدولة نفسها تخزن ما زاد من السلع على حاجة الأهلين، وتبيعها إذا أخذت أثمانها في الارتفاع فوق ما يجب، كما كانت تشتريها إذا انخفضت الأسعار وبهذه الطريقة كان “أغنياء التجار وأصحاب المتاجر الكبيرة يمنعون من أن يجنوا الأرباح الطائلة. وكانت الأسعار تنظم وتتوازن في جميع أنحاء الإمبراطورية”. وكان دخل الأفراد كله يسجل في سجلات حكومية وتؤدى عنه ضريبة مقدارها خمسة في المائة. وكان الأمير يسك النقود المصنوعة من الفضة مخلوط بالقصدير لتكثر في أيدي الناس فيسهل عليهم شراء البضائع واستهلاكها”.
المنشآت العظيمة..
ويفصل الكتاب عن أعماله: “وشرع يقيم المنشآت العامة العظيمة ليوجد بذلك عملا لملايين الناس الذين عجزت الصناعات الخاصة عن استيعابهم، فأنشئت الجسور على أنهار الصين وحفرت قنوات لا حصر لها لربط الأنهار بعضها ببعض وإرواء الحقول وازدهر النظام الجديد وأفلح إلى حين، وراجت التجارة، وكثرت البضائع وتنوعت، وارتبطت الصين مع الأمم المجاورة لها ومع أمم الشرق الأدنى البعيدة عنها. وكثر سكان عاصمتها لو – يانج وزادت ثروتها وامتلأت خزائن الدولة بالأموال، وانتشر طلاب العلم في كل مكان، وكثر الشعراء، وبدأ الخزف الصيني يتخذ منظراً جميلا جذابا.
وجمع في المكتبة الإمبراطورية 123ر3 مجلداً في الأدب الصيني القديم، و 705ر2 في الفلسفة، و 388ر1 في الشعر، و 568ر2 في الرياضيات، و 868 في الطب، و 790 في فنون الحرب. ولم يكن أحد يعين في مناصب الدولة إلا إذا اجتاز امتحانا تضعه لهذا الغرض، وكانت هذه الامتحانات عامة يتقدم إليها كل من شاء. والحق أن الصين لم يمر بها عهد من الرخاء كالذي مر بها تلك الأيام”.
كوارث..
وعن تغير حال الرخاء: “ولكن طائفة من الكوارث الطبيعية مضافا إليها خبث بني الإنسان قضت على هذه التجربة الجريئة. فقد تعاقبت على البلاد سنون من الفيضان والجدب ارتفعت على أثرها أسعار السلع ارتفاعا لم تقو الحكومة على وقفه. وتضايق الناس من غلو أثمان الطعام والكساء فصاحوا يطالبون بالعودة إلى الأيام الحلوة الماضية، التي أضحت في اعتقادهم خير الأيام وأكثرها رخاء، وأشاروا بأن يُغلى مقترح النظام الجديد في الماء وهو حي، ونادى رجال الأعمال بأن سيطرة الدولة قضت على الابتكار الفردي السليم وعلى التنافس الحر، وأبوا أن يؤدوا ما يلزم لهذه التجارب من الضرائب الباهظة التي كانت الحكومة تفرضها عليهم.
ودخلت النساء بلاط الإمبراطور وبسطن نفوذهن السري على كبار الموظفين، وأصبحن عنصرا هاما في الموجة من الفساد انتشرت في طول البلاد وعرضها بعد وفاة الإمبراطور. وأخذ المزيفون يقلدون العملة الجديدة ونجحوا في تقليدها إلى حد اضطر الحكومة إلى سحبها من أيدي الناس، وعادت الخطة القديمة خطة استغلال الضعفاء، يسيطر عليها نظام جديد، ومضى قرن من الزمان نسيت فيه إصلاحات وو دي أو أضحت مسبة له وعارا”.
الإمبراطور وانج مانج..
وعن حاكم آخر خدم بلاده: “وجلس على عرش الصين مصلح آخر في بداية التاريخ المسيحي بعد أربعة وثمانين عاما من موت وو دي، وكان في بادئ الأمر وصيا على العرش ثم أصبح فيما بعد إمبراطورا. وكان هذا الإمبراطور وانج مانج من أرقى طراز وصل إليه الرجل الصيني الكامل المهذب وكان على غناه يعيش عيشة معتدلة بل عيشة مقتصدة، ويوزع دخله على أقاربه وعلى الفقراء من أهل البلاد. وقد قضى جل وقته يكافح لإعادة النظام إلى أحوال البلاد الاقتصادية والسياسية، ولكنه مع ذلك وجد فسحة من الوقت لا لمناصرة الأدب والعلم فحسب بل للاشتغال بهما بنفسه حتى أصبح من أكمل الناس ثقافة وتهذيبا.
ولما جلس على سرير المُلك لم يحط نفسه بما يحيط به الملوك أنفسهم من الساسة، بل جمع حوله رجالا من الأدباء والفلاسفة، وإلى هؤلاء الرجال يعزو أعداؤه أسباب إخفاقه، وإليهم يعزو أصدقاؤه أسباب نجاحه.
وروع وانج مانج في بداية حكمه انتشار الرق في ضياع الصين الكبيرة، فلم يكن منه إلا أن ألغى الرق وألغى الضياع بتأميم الأرض الزراعية، فقسمها قطعاً متساوية ووزعها على الزراع، ثم حرم بيع الأرض وشراؤها ليمنع بذلك عودة الأملاك الواسعة إلى ما كانت عليه من قبل. واحتفظ باحتكار الدولة للملح والحديد وأضاف إلى ذلك امتلاكها للمناجم وإشرافها على تجارة الخمور.
وحاول كما حاول وو- دي أن يحمي الزراع والمستهلكين من جشع التجار بتحديد أثمان السلع. فكانت الدولة تشتري ما زاد على الحاجة من الحاصلات الزراعية وتبيعها إذا عزت وغلا ثمنها. وكانت الحكومة تقدم القروض بفائدة منخفضة لكل مشروع إنتاجي.
لكن وانج لم يفكر في خططه إلا من الناحية الاقتصادية ونسي طبائع الآدميين. فكان يعمل الساعات الطوال بالليل والنهار ليبتكر الخطط التي تزيد ثروة الأمة وأسباب سعادتها، ولكن أحزنه وأضرم قلبه أن وجد الاضطراب الاجتماعي ينتشر في البلاد في أثناء حكمه. فقد ظلت الكوارث الطبيعية كالفيضان والجدب تعطل مشروعاته الاقتصادية، واجتمعت كل الطوائف التي قضت هذه المشروعات على مطاعمها وأخذت تكيد له وتعمل لإسقاطه.
فثار نقع الفتن في البلاد يصلت سيفها الشعب في الظاهر، ولكن أكبر الظن أن القائمين بها كانوا يتلقون الأموال من مصادر عليا. وبينما كان وانج يكافح ليقلم أظفار هذه الفتن، وقد ساءه كفر الشعب بفضله وجحوده بنعمته، إذ أخذت الشعوب الخاضعة لسلطان الصين تشق عصا الطاعة، كما أخذ برابرة الشيونج – نو يجتاحون الولايات الشمالية، فأضعف ذلك كله من هيبة الإمبراطور”.
ثورة عارمة..
لا يلبث النظام الاشتراكي أن يجد أعداء: “وتزعمت أسرة ليو الغنية ثورة عامة اندلع لهيبها في البلاد واستولت على شانج – آن، وقتلت وانج مانج، وألغت جميع إصلاحاته، وعاد كل شيء إلى ما كان عليه من قبل.
وجلس على العرش في أواخر أيام أسرة هان جماعة من الأباطرة الضعاف خاف بعضهم بعضاً، وانتهى بهم عهد هذه الأسرة وأعقب ذلك عهد من الفوضى حكمت في أثنائه أسر خاملة الذكر، انقسمت البلاد في أيامها إلى دويلات متعددة”.
التتار..
وعن غزو التتار يضيف الكتاب: “وتدفق التتار على البلاد ولم يصدهم عنها السور على مساحات واسعة من أجزائها الشمالية، وكانت غارات هؤلاء التتار سببا في اضطراب حياة الصين والقضاء على حضارتها النامية.
كما كانت غارات الهون الذين ينتمون إلى التتار بأواصر القرابة العنصرية سببا في اضطراب نظام الإمبراطور الرومانية وإلقاء أوربا في غمار الفوضى التي أرجعها نحو مائة عام كاملة. وفي وسعنا أن ندرك ما يمتاز به الصينيون من صلابة عنصرية، ومن قوة في الأخلاق والثقافة، إذا عرفنا أن هذا الاضطراب كان أقصر أجلا وأقل عمقا من الاضطراب الذي قضى على الدولة الرومانية. فلما أن انقضى عهد من الحروب والفوضى والامتزاج العنصري بين المغيرين والأهلين، أفاقت الحضارة الصينية من سباتها، وانتعشت انتعاشا رائعا يبهر الأنظار.
ولعل دم التتار الجديد قد بعث القوة في أمة كانت قد أدركتها الشيخوخة. وقبل الصينيون الغزاة الفاتحين بينهم، وتزوجوا منهم، وحضروهم، وارتقوا هم وإياهم إلى أسمى ما بلغوه من المجد في تاريخهم الطويل”.