خاص: قراءة- سماح عادل
يتناول الكتاب فليسوف شهير آخر يدعي شون- دزه يؤمن بوجود الشر في الإنسان وفيلسوف يدعي جونج- دزه تكلم عن التطور وعن وحدة الكون وآمن باهمية العودة إلى الطيبعة. وذلك في الحلقة السادسة والتسعين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
شون – دزه..
فيلسوف آخر يحكي عنه الكتاب: “كان أشد الناس نقداً لمنشيس وأصعبهم مراسا أحد الموظفين العموميين، ويلوح أنه توفي في عام 235 ق.م وهو في سن السبعين. ذلك هو شون- دزه. وكما كان منشيس يعتقد أن الناس جميعهم أخيار بطبيعتهم، كان شون- دزه يرى أنهم جميعاً أشرار بفطرتهم، وحتى شون ويو كانا متوحشين حين ولدا. وقد وصلت إلينا قطعة من كتابات شون- دزه يقول:
“النفس البشرية أمارة بالسوء، وما تعمله من خير متكلف مصطنع. فهي قد غرس فيها من ساعة مولدها حب الكسب وإذا كانت أعمال الإنسان إنما تقوم على الحب فإن هذا يؤدي إلى انتشار المنازعات والسرقات. وليس إنكار الذات والاستسلام للغير من طبيعة الإنسان، بل إن من طبيعته التحاسد والتباغض، ولما كانت أعمال الناس لا بد أن تتفق مع طباعهم فإنهم لا يصدر عنهم إلا العنف والأذى، ولا نرى فيهم إخلاصا أو وفاء.
ومن طبيعة الإنسان أيضاً إشباع الأذن والعين، وهذا يؤدي إلى حب الأصوات العذبة والمناظر الجميلة. ولما كانت أعمال الناس لا أن تتفق مع هذه وتلك كان لا بد أن توجد الدعارة وسوء النظام، وأن تنعدم الاستقامة والاحتشام ومظاهرهما المختلفة المتسقة.
ومن هذا يتضح أن السير وفق الطبيعة البشرية وإطاعة أحاسيسها، يؤديان حتماً إلى الخصام واللصوصية، وإلى مخالفة الواجبات التي تتفق مع الوضع الذي وجد فيه كل إنسان، وإلى الخلط بين كل المراتب والمميزات حتى تعم الهمجية. ولهذا كان لا بد من قيام سلطان المعلمين وسلطان الشرائع، والاهتداء بقواعد الاستقامة والاحتشام التي ينشأ عنها إنكار الذات والخضوع للغير ومراعاة قواعد السلوك المنظمة، مما يؤدي إلى قيام الدولة، ذات الحكومة الصالحة.
وقد أدرك الملوك الأقدمون الحكماء ما طبعت عليه النفس البشرية من شر، فوضعوا قواعد الاستقامة والآداب، وسنوا النظم والقوانين ليقوموا طبائع الناس ومشاعرهم ويصلحوهم. حتى يسلكوا جميعاً الحكم الصالح الذي يتفق مع العقل””.
مصنع للصالح والطالح..
ويواصل الكتاب عن أفكار شون: “ووصل شون- دزه في بحوثه إلى ما وصل إليه ترجنيف وهو أن الطبيعة ليست معبدا يضم الصالحين، بل هي مصنع يجتمع فيه الصالح والطالح وهي تقدم المادة الغفل، التي يعمل فيها الذكاء فيصوغها ويشكلها. وكان يظن أن أولئك الناس الأشرار بطبعهم، إذا دربوا على الخير، قد يصلحون، بل إن في وسعهم إذا أريد لهم ذلك أن يكونوا قديسين. ولما كان شون- دزه شاعرا وحكيما معا فقد نظم فلسفة في هذا شعر:
إنكم تمجدون الطبيعة وتتفكرون فيها،
فلم لا تسخرونها وتنظمونها؟
إنكم تطيعون الطبيعة وتسبحون بحمدها،
فلم لا تسيطرون على أساليبها وتستخدمونها،
إنكم تنظرون إلى الفصول نظرة الإجلال وتنتظرونها،
فلم لا تستجيبون إليها لبذل النشاط في أوانه؟
إنكم تعتمدون على الأشياء الخارجة عنكم وتعجبون بها،
فلم لا تكشفون عن كفاياتكم؟
وتوجهونها الوجهة الصالحة؟”.
جونج – دزه..
وعن فيسلوف آخر آمن بالطبيعة واهميتها: “على أن “الرجوع إلى الطبيعة” قام في ذلك العصر من يدعو إليه كما قام من يدعوا إليه في كل العصور. ومن المصادفات إن كان الداعي إلى هذا الرجوع أبلغ كتاب عصره وأفصحهم لسانا. لقد كان جونج- دزه مولعاً بالطبيعة يرى أنها سيدته التي تتحفي به على الدوام مهما كان بغيه أو كانت سنه. كان جونج أديب وفيلسوف معا.
ولد هذا الفيلسوف في ولاية سونج، وتقلد وقتا ما منصبا صغيرا في مدينة خيان. وزار قصور الملوك التي زارها منشيس، ولكن كلا الرجلين لا يذكر فيما بقي لنا من كتاباته اسم الآخر. ولعل كليهما كان يحب صاحبه كما يحب المعاصرون بعضهم بعضا. ويروى عنه أنه رفض منصبا كبيرا مرتين. ولما عرض عليه دوق- ويه رياسة الوزارة رد على رسول الملك ردا مقتبضا يدل على ما يتراءى للكاتب من أحلام: “اذهب من هنا لساعتك ولا تدنسني بوجودك، لخير لي أن أسلي نفسي وأمتعها في حفرة قذرة من أن أخضع لقواعد في بلاط ملك من الملوك””.
العودة إلى الطبيعة..
وعن رفضه لطلبات الملوك يكمل الكتاب: “وبينما كان يصطاد السمك في يوم من الأيام إذ أقبل عليه رجلان من كبار الموظفين يحملان إليه رسالة من ملك خو يقول فيها: “أريد أن أحملك عبء جميع ملكي”، فأجابه جونج، كما يقول هو نفسه، دون أن يرفع نظره عن صيده:
“لقد سمعت أن في خو صدفة سلحفاة كأنها روح من الأرواح، وقد ماتت سلحفاتها منذ ثلاثة آلاف عام، وأن الملك يحتفظ بهذه الصدفة في معبد أسلافه، وأنه يضعها في سلة مغطاة بالقماش. فهل كان خيرا للسلحفاة أن تموت وتترك صدفتها تعظم على هذا النحو؟ أو هل كان خيرا لها أن تظل حية تجر ذيلها من خلفها في الوحل؟” فأجاب الموظفان الكبيران: “لقد كان خيرا لها أن تعيش وتجر ذيلها من خلفها في الوحل” فقال لهما جونج: “اذهبا في سبيلكما، وسأظل أجر ذيلي ورائي في الوحل””.
مهاجمة الملوك..
وقد كان يهاجم الملوك: “وكان احترامه للحكومات يعدل احترام سلفه الروحي لو- دزه، فكان يسره أن يشير إلى عدد ما يتصف به الملوك والحكام من صفات اللصوص. ويقول إنه إذا أدى الإهمال بأحد الفلاسفة الحقيقيين، فرأى نفسه يتولى شؤون إحدى الدول، فإن الخطة المثلى التي يجب عليه أن يسلكها هي أن لا يفعل شيئا، وأن يترك الناس أحرارا يضعون ما يشاءون من نظم حكمهم الذاتي. “لقد سمعت عن ترك العالم وشأنه والكف عن التدخل في أمره ولم أسمع عن حكم العالم” ولم يكن ثمة حكومات في العصر الذهبي الذي سبق عهد أقدم الملوك.
ولم يكن يو وشون خليقين بما حبتهما الصين وحباهما كنفوشيوس من تشريف وتعظيم، بل كانا خليقين بأن يتهما بالقضاء على ما كانت الإنسانية تستمتع به من سعادة بدائية قبل إقامة نظم الحكم في الحكم في العالم: “لقد كان الناس في عهد الفضيلة الكاملة يعيشون مجتمعين كما يعيش الطير والحيوان، ولا يفترقون عنهما في شيء، تتألف منهم ومن جميع المخلوقات أسرة واحدة. وأنى لهم أن يعرفوا فيما بينهم ما يميز العظماء فيهم من غير العظماء؟”.
ويرى جونج أن من واجب الرجل العاقل أن يولي الأدبار حين يشاهد أولى معالم الحكومة، وأن يعيش أبعد ما يستطيع عن الفلاسفة والملوك، ينشد السلام والسكون في الغابات (وذلك موضوع جد آلاف من المصورين الصينيين في رسمه) وأن يترك كيانه كله يتبع الدَّو المقدس- قانون حياة الطبيعة ومجراها الذي لا تدركه العقول- من غير أن يعوقه في ذلك تفكير أو تدبير، لا يتكلم إلا قليلا لأن الكلام يضل بقدر ما يهدى، ولأن الدَّو- طريقة الطبيعة وجوهرها- لا يمكن التعبير عنه بالألفاظ أو في أفكار، بل كل ما في الأمر أنه يمكن الشعور به في الدم”.
رفض الآلات..
ويتابع الكتاب عن كراهيته للآلات: “وهو يرفض أن يستعين بالآلات ويؤثر عليها الطرق القديمة المجهدة التي كان يجري عليها بسطاء الرجال، وذلك لأن الآلات تؤدي إلى التعقيد والفتنة وعدم المساواة بين الناس، وليس في مقدور أي إنسان أن يعيش بين الآلات ويستمتع بالسلام.
وهو يأبى أن يكون له ملك خاص ولا يجد للذهب نفعا له في حياته ويفعل ما فعله تيمن الأثيني فيترك الذهب مخبوء في جوف التلال واللآلىء في أعماق البحار. والذي يمتاز به من غيره أنه يفهم أن الأشياء جميعها تخص خزانة واحدة وأن الموت والحياة يجب أن ينظر إليهما نظرة واحدة”، على أنهما نغمتان من أنغام الطبيعة المتناسقة أو موجتان في بحر واحد”.
وحدة الكون..
وعن فكرة وحدة الكون واهميتها: “وكان الأساس الذي يقوم عليه تفكير جونج عين الأساس يقوم عليه تفكير لو- دزه شبه الأسطوري، وكان تفكير لو- دزه هذا يبدو لجونج أعمق كثيرا من تفكير كنفوشيوس، وكان في جوهره النظرة الصوفية لوحدة الكون غير الشخصية الشبيهة شبها عجيبا بنظرة بوذا وأتباع أبانيشاد، حتى ليكاد المرء يعتقد أن فلسفة ما وراء الطبيعة الهندية قد تسربت إلى الصين قبل أربعمائة عام من ظهور البوذية فيها حسبما يسجله المؤرخون.
نعم إن جونج فيلسوف لا أدري، جبري، من القائلين بالحتمية ومن المتشائمين، ولكن هذا لا يمنعه أن يكون قديسا متشككاً، ورجلا أسكرته الدرَية؛ وهو يعبر عن تشككه هذا تعبيرا يميزه من غيره من أمثاله في القصة الآتية:
قال شبه الظل يوما ما للظل” إنك تارة تتحرك وتارة تثبت في مكانك تارة تجلس وتارة تقوم. فلم هذا التذبذب في القصد وعدم الاستقرار فيه؟” فأجابه الظل بقوله: “إن شيئا أعتمد عليه هو الذي يجعلني أفعل ما أفعله، ولكن هذا الشيء نفسه يعتمد على شيء آخر يضطره إلى أن يفعل هو الآخر ما يفعله. وأنى لي أن أعرف لم أفعل هذا الشيء ولا أفعل ذاك؟.. إن الجسم إذا بلى بلى العقل معه ألا ينبغي لنا أن نقول إن هذه حال يرثى لها كثيراً؟. إن ما يحدث في الأشياء كلها من تغيير- وجود ثم عدم- يسير بلا انقطاع ولكننا لا نعرف من ذا الذي يسير هذه الحركة في طريقها على الدوام: وأنى لنا أن نعرف متى يبدأ الواحد منا؟ وأنى لنا أن نعرف متى ينتهي إن كل ما في وسعنا أن ننتظر هذه البداية والنهاية، لا أكثر من هذا ولا أقل”.
ويظن جونج أن هذه المشاكل إنما تنشأ من قصر تفكيرنا أكثر مما تنشأ من طبيعة الأشياء نفسها. فلا عجب والحالة هذه أن تنتهي الجهود التي تبذلها عقولنا الحبيسة لفهم العالم الأكبر الذي تكون هي جزيئات صغيرة منه، لا عجب أن تنتهي هذه الجهود بالمتناقضات والقوانين المتعارضة. ولقد كانت هذه المحاولة التي ترمي إلى تفسير الكل بإصلاحات الجزء إسرافا في التطاول والاعتداد بالنفس، لا نجيزها إلا لما فيها من تسلية وفكاهة لأن الفكاهة، كالفلسفة، هي النظر إلى الكل بمصطلحات الجزء، وكلاهما لا يمكن وجوده بغير الآخر”.
الشعور بالحقائق..
وعن الإحساس بحقيقة الكون والطبيعة: “ويقول جونج- دزه إن العقل لا يفيد في فهم الأشياء الغائية أو أي شيء عميق كنمو الطفل مثلاً. “وليس الجدل إلا دليلاً على عدم وضوح الرؤيا”، وإذا أراد الإنسان أن يفهم الدَّو “فعليه أن يكبت علمه أشد الكبت” إن من واجبنا أن ننسى نظرياتنا ونشعر بالحقائق وليس التعليم بنافع لنا في هذا الفهم، وأهم شيء في هذا أن نلقي بأنفسنا في غمرات الطبيعة.
وما هو الدَّو الذي يراه الصوفي المحظوظ النادر الوجود؟ إنه شيء لا يمكن التعبير عنه بالألفاظ؛ وكل ما نستطيع أن نصفه به في عبارات ضعيفة ملأى بالمتناقضات هو قولنا إنه وحدة الأشياء كلها وانسيابها الهادئ من نشأتها إلى كمالها والقانون الذي يسيطر على هذا الانسياب.
“ولقد كان موجودا ثابتا منذ الأزل قبل أن توجد السماء والأرض” وفي هذه الوحدة العالمية تتلاشى كل المتناقضات، وتزول كل الفروق، وتتلاقى كل الأشياء المتعارضة؛ وليس فيه ولا في نظرته إلى الأشياء طيب أو خبيث، ولا أبيض أو أسود، ولا جميل أو قبيح ، ولا عظيم أو حقير.
“ولو عرف الإنسان أن العالم صغير كحبة الخردل، وأن طرف الشعرة لا يقل في الارتفاع عن قمة الجبل، أمكن أن يقال عنه أنه يعرف النسبة بين الأشياء. وفي هذا الكل المبهم الغامض لا يدوم شكل من الأشكال، وليس فيه صورة فذة لا تنتقل إلى صورة أخري في دورة التطور التي تسير على مهل:
“إن بذور (الأشياء) دقيقة ولا حصر لها. وهي تكون على سطح الماء نسيجا غشائيا. فإذا وصلت إلى حيث تلتقي الأرض والمياه اجتمعت وكونت الحزاز الذي يكون كساء الضفادع والحيوانات الصوفية. فإذا دبت فيها الحياة على التلال والمرتفعات صارت هي الطلح؛ فإذا غذاها السماء أضحت نبات عش الغراب. ومن جذور عش الغراب ينشأ الدود ومن أوراقه ينشأ الفراش. ثم يستحيل الفراش حشرة وتعيش تحت موقد. ثم تتخذ الحشرة صورة اليرقة، وبعد ألف عام تصبح اليرقة طائراً. ثم تتحد الينجشي مع خيزرانة فينشأ من اتحادهما الخنج- تنج؛ ومنه ينشأ النمر، ومن النمر ينشأ الحصان، ومن الحصان ينشأ الإنسان. فالإنسان جزء من آلة التطور العظيمة، التي تخرج منها جميع الأشياء، والتي تدخل فيها بعد موتها”.
لا ننكر أن هذه الأقوال ليس فيها من الوضوح ما في نظرية دارون ولكنها أياً ما كان غموضها نظرية تطور.
“وفي هذه الدورة اللانهائية قد يستحيل الإنسان إلى صورة أخري غير صورته؛ ذلك أن صورته الحالية ليست إلا مرحلة عابرة من مراحل الانتقال، وقد لا تكون في سجل الخلود حقيقة إلا في ظاهر أمرها- أو جزءا من الفوارق الخداعة التي تُغَشّي بها مايا جميع الكائنات.
“رأيت أنا جونج- دزه مرة في منامي أني فراشة ترفرف بجناحيها في هذا المكان وذاك، أني فراشة حقاً من جميع الوجوه. ولم أكن أدرك شيئاً أكثر من تتبعي لخيالاتي التي تشعرني بأني فراشة. أما ذاتيتي الإنسانية فلم أكن أدركها قط. ثم استيقظت على حين غفلة وهاأنذا منطرح على الأرض رجلا كما كنت، ولست أعرف الآن هل كنت في ذلك الوقت رجلا يحلم بأنه فراشة، أو أنني الآن فراشة تحلم بأنها رجل”.