خاص: قراءة- سماح عادل
يحكي الكتاب عن انتشار فلسفة “كنفوشيوس” بعد موته حتى وصلت إلى مرحلة التقديس لدى الشعب الصيني، كما يعبر الكاتبان عن رأيهما في تلك الفلسفة. وذلك في الحلقة الثالثة والتسعين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الفلسفة الكنفوشية..
انتقل الكتاب إلى الحكي عن فلسفة “كنفوشيوس” وكيف انتشرت بعد موته: “كان نجاح كنفوشيوس بعد موته ولكنه كان نجاحا كاملا. لقد كان يضرب في فلسفته على نغمة سياسية عملية حببتها إلى قلوب الصينيين بعد أن زال بموته كل احتمال لإصراره على تحقيقها.
أدباء القرون التي أعقبت موت كنفوشيوس استمسكوا أشد استمساك بمبادئه، واتخذوها سبيلاً إلى السلطان وتسلم المناصب العامة، وأوجدوا طبقة من العلماء الكنفوشيين أصبحت أقوى طائفة في الإمبراطورية بأجمعها. وانتشرت المدارس في أنحاء البلاد لتعلم الناس فلسفة كنفوشيوس التي تلقاها الأساتذة عن تلاميذ المعلم الأكبر، ونماها مِنشِيس وهذبها آلاف مؤلفة من العلماء على مدى الأيام. وأضحت هذه المدارس المراكز الثقافية والعقلية في الصين فأبقت شعلة الحضارة متقدة خلال القرون الطوال التي تدهورت فيها البلاد من الوجهة السياسية، كما احتفظ رهبان العصور الوسطى بجذوة الثقافة القديمة وبقليل من النظام الاجتماعي في العصور المظلمة التي تلت سقوط روما”.
طائفة القانونيين..
وعن فئة معادية لأفكار “كنفوشيوس” يواصل الكتاب: “وكانت في البلاد طائفة أخرى هي طائفة “القانونيين” استطاعت أن تناهض وقتاً ما آراء كنفوشيوس في عالم السياسة، وأن تسير الدولة حسب مبادئها هي في بعض الأحيان. ومن أقوالهم في الرد على كنفوشيوس أن نظام الحكم على المثل الذي يضربه الحاكمون، وعلى الصلاح الذي تنطوي عليه قلوب المحكومين، يعرّض الدولة لأشد الأخطار، إذ ليس في التاريخ أمثلة كثيرة تشهد بنجاح الحكومات التي تسترشد في أعمالها بهذه المبادئ المثالية. وهم يقولون أن الحكم يجب أن يستند إلى القوانين لا إلى الحكام، وإن الناس يجب أن يرغموا على إطاعة القوانين حتى تصبح إطاعتها طبيعة ثانية للمجتمع فيطيعوها راضين مختارين. ولم يبلغ الناس من الذكاء مبلغاً يمكنهم من أن يحسنوا حكم أنفسهم، ولهذا فإنهم لا يصيبون الرخاء إلا تحت حكم جماعة من الأشراف؛ وحتى التجار أنفسهم، وإن أثروا، لا يدل ثراؤهم على أنهم متفوقون في ذكائهم، فهم يسعون وراء مصالحهم الخاصة، وكثيرا ما يتعارض سعيهم هذا مع مصالح الدولة.
ويقول بعض القانونيين إنه قد يكون من الخير للدولة أن تجعل رؤوس الأموال ملكا عاما للمجتمع، وأن تحتكر هي التجارة، وأن تمنع التلاعب بالأثمان وتركيز الثروة في أيدي عدد قليل من الأفراد. هذه آراء ظهرت ثم اختفت ثم عادت إلى الظهور مرة بعد مرة في تاريخ الحكومة الصينية”.
المنع والتقديس..
ومع استخدام القوة في منع انتشار أفكار “كنفوشيوس” ساعدها ذلك أكثر: “ولكن فلسفة كنفوشيوس كتب لها النصر آخر الأمر. ولم يكن لعداء “الإمبراطور الأول” من نتيجة إلا أن يجعل الكتب التي أراد أن يعدمها كتبا مقدسة قيمة، وأن يستشهد الناس في سبيل المحافظة عليها. حتى إذا انقضى عهد شي هوانج- دي، وعهد أسرته القصير الأجل، وجلس على العرش إمبراطور أحكم منه، أخرج الآداب الكنفوشية من مخابئها وعيّن العلماء الكنفوشيين في مناصب الدولة.
وثبت حكم أسرة هان، وقوى دعائمه، بأن أدخل آراء كنفوشيوس وأساليبه الحكيمة في برامج تعليم الشبان الصينيين وفي الحكومة. وقربت القرابين تكريماً لكنفوشيوس، وأمر الإمبراطور بأن تنقش نصوص الكتب القديمة على الحجارة، وأصبحت الكنفوشية دين الدولة الرسمي. وناهض الكنفوشية في بعض الأحيان نفوذ الدّوية، كما طغى عليها أحيانا أخرى سلطان البوذية، حتى إذا كان عهد أسرة تانج أعادتها إلى مكانتها السابقة، وأعلت من شأنها.
ولما جلس على العرش تاي دزونج الأعظم أمر أن يشاد هيكل لكنفوشيوس في كل مدينة وقرية في جميع أنحاء الإمبراطورية، وأن يقرب له فيها القرابين العلماء والموظفون. وفي عهد أسرة زونج نشأت مدرسة قوية للكنفوشية الجديدة أضافت شروحاً وتعليقات لا حصر لها على الكتب الكنفوشية القديمة، وعملت على نشر فلسفة أستاذها الأكبر وما أضافته إليها من شروح مختلفة في بلاد الشرق الأقصى، وبعثت في اليابان نهضة فلسفية قوية. وظلت مبادئ كنفوشيوس من مبدأ قيام أسرة هان إلى سقوط أسرة منشو- أي ما يقرب من ألفي عام- تسيطر على العقلية الصينية وتصوغها في قالبها”.
حياة اجتماعية متناسقة..
ويتابع الكتاب عن تأثير فلسفة “كنفوشيوس” علي المجتمع: “والفلسفة الكنفوشية أهم ما يواجه المؤرخ لبلاد الصين؛ ذلك أن كفايات معلمها الأكبر ظلت جيلا بعد جيل النصوص المقررة في مدارس الدولة الصينية، يكاد كل صبي يتخرج في تلك المدارس أن يحفظها عن ظهر قلب، وتغلغلت النزعة المتحفظة القوية التي يمتاز بها الحكيم القديم في قلوب الصينيين، وسرت في دمائهم، وأكسبت أفراد الأمة الصينية كرامة وعمقا في التفكير لا نظير لهما في غير تاريخهم أو في غير بلادهم، واستطاعت الصين بفضل هذه الفلسفة أن تحيا حياة اجتماعية متناسقة متآلفة، وأن تبعث في نفوس أبنائها إعجابا شديدا بالعلم والحكمة.
وأن تنشر في بلادها ثقافة مستقرة هادئة أكسبت الحضارة الصينية قوة أمكنتها من أن تنهض من كبوتها وتسترد قواها بعد الغزوات المتكررة التي اجتاحت بلادها، وأن تشكل هي الغزاة على صورتها وتطبعهم بطابعها. ولسنا نجد في غير المسيحية والبوذية ما نجده في الكنفوشية من جهود جبارة لتحويل ما جبلت عليه الطبيعة البشرية من غلظة ووحشية إلى تأدب ورقّة.
ولسنا نجد في هذه الأيام كما لم يجد الأقدمون في الأيام الخالية دواء يوصف للذين يقاسون الأمرّين من جراء الاضطراب الناشئ من التربية التي تُعنى بالعقل وتهمل كل ما عداه، ومن انحطاط مستوى القانون الأخلاقي وتدهوره، ومن ضعف الأخلاق الفردية والقومية، لسنا نجد دواء لهذا كله خيراً من تلقين الشباب مبادئ الفلسفة الكنفوشية”.
كمال لا تطيقه الطبيعة البشرية..
ويقدم المؤلفان رأيهما في تلك الفلسفة من وجهة نظرهم الأوربية: “لكن تلك الفلسفة لا تستطيع وحدها أن تكون غذاء كاملاً للروح. لقد كانت فلسفة تصلح لأمة تكافح للخروج من غمرات الفوضى والضعف إلى النظام والقوة، ولكنها غل ثقيل يقيد البلد الذي ترغمه المنافسات الدولية على أن ينمو ويتطور.
ذلك أن قواعد الأدب واللياقة التي شكلت أخلاق الصينيين ونظامهم الاجتماعي أضحت قوة جارفة تسير كل حركة حيوية في طريق مرسوم لا تتحول عنه، وكانت الفلسفة الكنفوشية تصطبغ بصبغة جامدة متزمتة، وتقف في سبيل الدوافع الطبيعية القوية المحركة للجنس البشري، وسمت فضائلها حتى بلغت حد العقم؛ ولم يكن فيها قط مجال للهو والمجازفة كما لم يكن فيها إلا القليل من الصداقة والحب، وقد أعانت على تحقير النساء وإذلالهن، كما أعان ما فيها من كمال بارد على تجميد الأمة الصينية وجعلها أمة متحفظة لا يضارع عداءها للرقي إلا حبها للسلام.
وليس من حقنا أن نعزو هذا كله إلى كنفوشيوس، وأن نوجه إليه اللوم من أجله، إذ ليس في مقدور إنسان أياً كان شأنه أن يسيطر على تفكير عشرين قرناً من الزمان. بل كل ما يحق لنا أن نطلبه إلى المفكر أن يضيء لنا بطريقة ما، وبفضل تفكيره طوال حياته، سبيل الفهم الصحيح. وقَلَّ أن تجد في العالم من اضطلع بهذا الواجب كما اضطلع به كنفوشيوس. وإذا ما قرأنا تعاليمه، وتبينا ما يجب أن نمحوه من فلسفته بسبب تقدم المعارف في العالم وتبدل أحواله، وعرفنا قيمة ما يسديه إلينا من هداية في عالمنا الحاضر نفسه، إذا فعلنا هذا نسينا من فورنا ما يشوب فلسفته من تفاهة تارة ومن كمال لا تطيقه الطبيعة البشرية تارة أخرى”.
تأليه كنفوشيوس..
وعن تقديس كنفوشيوس لدي الصينيين يكمل الكتاب: ” كونج جي حفيده الصالح التقي قام بكتابه تسبيح كان بداية تأليه كنفوشيوس.
لقد نقل جونج- في عقائد يُو وشوِن كأنهما كانا من آبائه، ونشر نظم وُن و وُو واتخذهما مثلين يحتذيهما وينسج على منوالهما. وكان في صفاته الروحية قديسا أو ملاكا يتناغم مع السماء، ولكنه لم ينس قط أنه مخلوق من طين وماء. وهو يشبه السماء والأرض في أنه كان عمادا لكل شيء وعائلا لكل شيء، يحجب نوره كل شيء، وتغطي ظلاله كل شيء. وهو أشبه بالفصول الأربعة في تتابعها وانتظام سيرها، وأشبه بالشمس والقمر في تتابع ضيائهما.
فهو في شموله واتساع آفاقه كالسماء، وفي عمق تفكيره ونشاطه كالهوة السحيقة والعين الجائشة الفوارة. إذا رآه الناس وقروه وعظموه، وإذا تكلم صدقوه، وإذا فعل أعجبوا بفعله وأحبوه.
ولهذا ذاع صيته في “المملكة الوسطى” وانتشر بين القبائل الهمجية، فحيثما وصلت السفائن والمركبات، وحيثما نفذت قوة الإنسان، وفي كل مكان امتد على سطح الأرض وأظلته السماء وأضاءته الشمس وأناره القمر، وفي كل بقعة مسها الصقيع وطلها الندى يجله ويحبه كل من سرى فيه دم الحياة وترددت في صدره أنفاسها، حباً صادقاً لا تكلف فيه ولا رياء، ولهذا قيل عنه إنه: “هو والسماء صنوان””.