15 نوفمبر، 2024 8:47 ص
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (91) “كنفوشيوس”: إصلاح المجتمع يبدأ من تطهير القلوب من الشهوات

قصة الحضارة (91) “كنفوشيوس”: إصلاح المجتمع يبدأ من تطهير القلوب من الشهوات

خاص: قراءة- سماح عادل

حكي الكتاب عن كتب “كنفوشيوس” وعن بعض من أفكاره الفلسفية، والتي ترى أن إصلاح حال المجتمع يبدأ من تطهير القلوب، ومن تنظيم العقل بالمعارف، وإصلاح نظام الأسرة. وذلك في الحلقة الواحد والتسعين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

الكتب التسعة..

انتقل الكتاب للحكي عن الكتب التي خلفها وراءه الفيلسوف الشهير “كنفوشيوس”: “ترك كنفوشيوس وراءه خمسة مجلدات ربما كتبها أو أعدها للنشر بيده هو نفسه، ولذلك أصبحت تعرف في الصين باسم “الجنحات الخمسة” أو “كتب القانون الخمسة”. وكان أول ما كتبه منها هو اللي- جي أو سجل المراسم، لاعتقاده أن هذه القواعد القديمة من آداب اللياقة من الأسس الدقيقة التي لا بد منها لتكوين الأخلاق ونضجها، واستقرار النظام الاجتماعي والسلام.

ثم كتب بعدئذ ذيولاً وتعليقات على كتاب إلاي- جنج أو كتاب التغيرات، وكان يرى أن هذا الكتاب خير ما أهدته الصين إلى ذلك الميدان الغامض ميدان علم ما وراء الطبيعة الذي كان جد حريص على ألا يلج بابه في فلسفته. ثم اختار ورتب الشي- جنج أو كتاب الأناشيد ليشرح فيه كنه الحياة البشرية ومبادئ الأخلاق الفاضلة. وكتب بعد ذلك التشو- شيو أو حوليات الربيع والخريف، وقد سجل فيه تسجيلاً موجزاً خاليا من التنميق أهم ما وقع من الأحداث في “لو” موطنه الأصلي.

وكان خامس أعماله الأدبية وأعظمها نفعا أنه أراد أن يوحي إلى تلاميذه أشرف العواطف وأنبل الصفات فجمع في الشو- جنج أي كتاب التاريخ أهم وأرقى ما وجده في حكم الملوك الأولين من الحوادث أو الأقاصيص التي تسمو بها الأخلاق وتشرف الطباع، وذلك حين كانت الصين إمبراطورية موحدة إلى حد ما وحين كان زعماؤها، كما يظن كنفوشيوس، أبطالاً يعملون في غير أنانية لتمدين الشعب ورفع مستواه.

ولم يكن وهو يعمل في هذه الكتب يرى أن وظيفته هي وظيفة المؤرخ بل كان فيها كلها معلما ومهذبا للشباب، ومن أجل هذا اختار عن قصد من أحداث الماضي ما رآه ملهما لتلاميذه لا موئساً لهم.

فإذا ما عمدنا إلى هذه المجلدات لنستقي منها تاريخاً علمياً نزيها لبلاد الصين فإنا بهذا العمل نظلم كنفوشيوس أشد الظلم. فقد أضاف إلى الحوادث الواقعية خطباً وقصصاً من عنده، صب فيها أكثر ما يستطيع من الحض على الأخلاق الكريمة والإعجاب بالحكمة. وإذا كان قد جعل ماضي بلاده مثلاً أعلى بين ماضي الشعوب، فإنه لم يفعل أكثر مما نفعله نحن‌ الأمريكيين.‌ بماضينا الذي لا يعدل ماضي الصين في قدمه. وإذا كان رؤساء جمهوريتنا الأولون قد أضحوا حكماء وقديسين، ولما يمض عليهم أكثر من قرن أو قرنين من الزمان، فإنهم سيكونون بلا شك في نظر المؤرخ الذي يُحَدّث عنهم بعد ألف عام من هذه الأيام مثلاً علياً للفضيلة والكمال شأنهم في هذا شأن يو وشون”.

كتاب “لوق بو”..

وعن كتاب محاورات معروف يواصل الكتاب: “ويضيف الصينيون إلى هذه الجنحات الخمسة أربع شوءات أو “كتب” (كتب الفلاسفة) يتكون منها كلها “التسعة الكتب القديمة”. وأول هذه الكتب وأهمها جميعاً كتاب لوق بو أو الأحاديث والمحاورات المعروف عند قراء اللغة الإنجليزية باسم “مجموعة الشذرات” أي شذرات كنفوشيوس، كما سماه “لج Legge” في إحدى نزواته، وليست تلك الكتب مما خطه قلم المعلم الكبير، ولكنها تسجل في إيجاز ووضوح منقطعي النظير آراءه وأقواله كما يذكرها أتباعه.

وقد جمعت كلها بعد بضع عشرات السنين من وفاته، ولعل الذين جمعوها هم مريدو مريديه، وهي أقل ما يرتاب فيه من آرائه الفلسفية. وأكثر ما في الكتب الصينية القديمة طرافة وأعظمها تهذيبا ما جاء في الفقرتين الرابعة والخامسة من الشو الثاني، وهو المؤلف المعروف عند الصينيين باسم الداشوه أو التعليم الأكبر. ويعزو الفيلسوف والناشر الكنفوشي جوشي هاتين الفقرتين إلى كنفوشيوس نفسه كما يعزو باقي الرسالة إلى دزنج- تسان أحد أتباعه الصغار السن. أما كايا- كويه العالم الصيني الذي عاش في القرن الأول بعد الميلاد فيعزوهما إلى كونج جي حفيد كنفوشيوس.

على حين أن علماء اليوم المتشككين يجمعون على أن مؤلفهما غير معروف. والعلماء كلهم متفقون على أن حفيده هذا هو مؤلف كتاب جونج يونج أو عقيدة الوسط وهو الكتاب الفلسفي الثالث من كتب الصين”.

كتاب منشيس..

وعن كتاب منشيس: “وآخر هذه الشوءات هو كتاب منشيس الذي سنتحدث عنه توّاً. وهذا الكتاب هو خاتمة الآداب الصينية القديمة وإن لم يكن خاتمة العهد القديم للفكر الصيني. وسنرى فيما بعد أنه خرج على فلسفة كنفوشيوس التي تعد آية في الجمود والمحافظة على القديم متمردون عليها وكفرة بها ذوو مشارب وآراء متعددة متباينة”.

لا أدرية كنفوشيوس..

وعن أفكار كنفوشيوس يوضح الكتاب: “لنحاول أن نكون منصفين في حكمنا على هذه العقيدة. ولنقر بأنها ستكون نظرتنا إلى الحياة حين يجاوز الواحد منا الخمسين من عمره، ومبلغ علمنا أنها قد تكون أكثر انطباقاً على مقتضيات العقل والحكمة من شعر شبابنا. وإذا كنا نحن ضالين وشباناً فإنها هي الفلسفة التي يجب أن نقرن بها فلسفتنا نحن، لكي ينشأ مما لدينا من أنصاف الحقائق شيء يمكن فهمه وإدراكه.

ولا يظن القارئ أنه سيجد في لا أدرية كنفوشيوس نظاما فلسفيا- أي بناء منسقا من علوم المنطق وما وراء الطبيعة والأخلاق والسياسة تسري فيه كله فكرة واحدة شاملة (فتحيله أشبه بقصور نبوخذ ناصر (بختنصّر) التي نقش اسمه على كل حجر من حجارتها).

لقد كان كنفوشيوس يعلّم أتباعه فن الاستدلال، ولكنه لم يكن يعلمهم إياه بطريق القواعد أو القياس المنطقي، بل بتسليط عقله القوي تسليطا دائما على آراء تلاميذه؛ ولهذا فإنهم كانوا إذا غادروا مدرسته لا يعرفون شيئاً عن المنطق ولكن كان في وسعهم أن يفكروا تفكيرا واضحا دقيقا.

وكان أول الدروس، التي يلقيها عليهم المعلم، الوضوح والأمانة في التفكير والتعبير، وفي ذلك يقول: “كل ما يقصد من الكلام أن يكون مفهوما” وهو درس لا تذكره الفلسفة في جميع الأحوال. “فإذا عرفت شيئا فتمسك بأنك تعرفه؛ وإذا لم تعرفه؛ فأقر بأنك لا تعرفه- وذلك في حد ذاته معرفة”. وكان يرى أن غموض الأفكار، وعدم الدقة في التعبير، وعدم الإخلاص فيه، من الكوارث الوطنية القومية. فإذا كان الأمير الذي ليس أميرا بحق والذي لا يستمتع بسلطان الإمارة لا يسميه الناس أميرا، وإذا كان الأب الذي لا يتصف بصفات الأبوة لا يسميه الناس أبا، وإذا كان الابن العاق لا يسميه الناس ابنا؛ إذا كان هذا كله فإن الناس قد يجدون في “تزه- لو” ما يحفزهم إلى إصلاح تلك العيوب التي طالما غطتها الألفاظ.

ولهذا فإنه لما قال لكنفوشيوس: “إن أمير ويه في انتظارك لكي تشترك معه في حكم البلاد فما هو في رأيك أول شيء ينبغي عمله؟ فأجابه كنفوشيوس جوابا دهش له الأمير والتلميذ: “إن الذي لا بد منه أن تصحح الأسماء””.

البحث فيما وراء الطبيعة..

وعن فكرة البحث فيما وراء الطبيعة: “ولما كانت النزعة المسيطرة على “كنفوشيوس” هي تطبيق مبادئ الفلسفة على السلوك وعلى الحكم فقد كان يتجنب البحث فيما وراء الطبيعة، ويحاول أن يصرف عقول أتباعه عن كل الأمور الغامضة أو الأمور السماوية. صحيح أن ذكر “السماء” والصلاة كان َيرِدْ على لسانه أحياناً، وأنه كان ينصح أتباعه بألا يغفلوا عن الطقوس والمراسم التقليدية في عبادة الأسلاف والقرابين القومية، ولكنه كان إذا وجه إليه سؤال في أمور الدين أجاب إجابة سلبية جعلت شرّاح آرائه المحدثين يجمعون على أن يضموه إلى طائفة اللا أدريين.

فلما أن سأله تزه- كونج، مثلا: “هل لدى الأموات علم بشيء أو هل هم بغير علم؟” أبى أن يجيب جواباً صريحا. ولما سأله كي- لو، عن “خدمة الأرواح” (أرواح الموتى) أجابه “إذا كنت عاجزاً عن خدمة الناس فكيف تستطيع أن تخدم أرواحهم؟”. وسأله كي- لو: “هل أجرؤ على أن أسألك عن الموت؟” فأجابه: “إذا كنت لا تعرف الحياة، فكيف يتسنى لك أن تعرف شيئاً عن الموت”. ولما سأله فارشي عن “ماهية الحكمة” قال له: “إذا حرصت على أداء واجبك نحو الناس، وبعدت كل البعد عن الكائنات الروحية مع احترامك إياها أمكن أن تسمي هذه حكمة”.

ويقول لنا تلاميذه إن “الموضوعات التي لم يكن المعلم يخوض فيها هي الأشياء الغريبة غير المألوفة، وأعمال القوة، والاضطراب، والكائنات الروحية”. وكان هذا التواضع الفلسفي يقلق بالهم، وما من شك في أنهم كانوا يتمنون أن يحل لهم معلمهم مشاكل السموات ويطلعهم على أسرارها. ويقص علينا كتاب- لياتزه وهو مغتبط قصة غلمان الشوارع الذين أخذوا يسخرون من كنفوشيوس حين أقر لهم بعجزه عن هذا السؤال السهل وهو: “هل الشمس أقرب إلى الأرض في الصباح حين تبدو أكبر ما تكون، أو في منتصف النهار حين تشتد حرارتها”. وكل ما كان كنفوشيوس يرضى أن يقره من البحوث فيما وراء الطبيعة هو البحث عما بين الظواهر المختلفة جميعها من وحدة، وبذل الجهد لمعرفة ما يوجد من تناغم وانسجام بين قواعد السلوك الحسن واطراد النظم الطبيعية.

وقال مرة لأحد المقربين إليه: “أظنك يا تزه تعتقد أني من أولئك الذين يحفظون أشياء كثيرة ويستبقونها في ذاكرتهم؟” فأجابه تزه- كونج بقوله: “نعم أظن ذلك ولكني قد أكون مخطئاً في ظني؟” فرد عليه الفيلسوف قائلا “لا، إني أبحث عن الوحدة، الوحدة الشاملة” وذلك بلا ريب هو جوهر الفلسفة”.

أهمية الأخلاق..

وعن أهمية الأخلاق بالنسبة ل”كنفوشيوس”: “وكانت الأخلاق مطلبه وهمه الأول، وكان يرى أن الفوضى التي تسود عصره فوضى خلقية، لعلها نشأت من ضعف الإيمان القديم وانتشار الشك السفسطائي في ماهية الصواب والخطأ. ولم يكن علاجها في رأيه هو العودة إلى العقائد القديمة، وإنما علاجها هو البحث الجدي عن معرفة أتم من المعرفة السابقة وتجديد أخلاقي قائم على تنظيم حياة الأسرة على أساس صالح قويم. والفقرتان الآتيتان المنقولتان عن كتاب التعليم الأكبر تعبران أصدق تعبير وأعمقه عن المنهج الفلسفي الكنفوشي.

“إن القدامى الذين أرادوا أن ينشروا أرقى الفضائل في أنحاء الإمبراطورية قد بدءوا بتنظيم ولاياتهم أحسن تنظيم، ولما أرادوا أن يحسنوا تنظيم ولاياتهم بدءوا بتنظيم أسرهم، ولما أرادوا تنظيم أسرهم بدءوا بتهذيب نفوسهم؛ ولما أرادوا أن يهذبوا نفوسهم بدءوا بتطهير قلوبهم، ولما أرادوا أن يطهروا قلوبهم عملوا أولاً على أن يكونوا مخلصين في تفكيرهم؛ ولما أرادوا أن يكونوا مخلصين في تفكيرهم بدءوا بتوسيع دائرة معارفهم إلى أبعد حد مستطاع، وهذا التوسع في المعارف لا يكون إلا بالبحث عن حقائق الأشياء.

فلما أن بحثوا عن حقائق الأشياء أصبح علمهم كاملا، ولما كمل علمهم خلصت أفكارهم، فلما خلصت أفكارهم تطهرت قلوبهم، ولما تطهرت قلوبهم، تهذبت نفوسهم، ولما تهذبت نفوسهم انتظمت شئون أسرهم، ولما انتظمت شئون أسرهم صلح حكم ولاياتهم؛ ولما صلح حكم ولاياتهم أضحت الإمبراطورية كلها هادئة سعيدة.

تلك هي مادة الفلسفة الكنفوشية، وهذا هو طابعها، وفي وسع الإنسان أن ينسى كل ما عدا هذه الألفاظ من أقوال المعلم وأتباعه، وأن يحتفظ بهذه المعاني التي هي “جوهر الفلسفة وقوامها” وأكمل مرشد للحياة الإنسانية. ويقول كنفوشيوس “إن العالم في حرب لأن الدول التي يتألف منها فاسدة الحكم؛ والسبب في فساد حكمها أن الشرائع الوضعية مهما كثرت لا تستطيع أن تحل محل النظام الاجتماعي الطبيعي الذي تهيئه الأسرة. والأسرة مختلة عاجزة عن تهيئة هذا النظام الاجتماعي الطبيعي، لأن الناس ينسون أنهم لا يستطيعون تنظيم أسرهم من غير أن يُقوّموا نفوسهم وهم يعجزون عن أن يقوموا أنفسهم لأنهم لم يطهروا قلوبهم أي أنهم لم يطهروا نفوسهم من الشهوات الفاسدة الدنيئة؛ وقلوبهم غير طاهرة لأنهم غير مخلصين في تفكيرهم، لا يقدرون الحقائق قدرها ويخفون طبائعهم بدل أن يكشفوا عنها؛ وهم لا يخلصون في تفكيرهم لأن أهواءهم تشوه الحقائق وتحدد لهم النتائج بدل أن يعملوا على توسيع معارفهم إلى أقصى حد مستطاع ببحث طبائع الأشياء بحثا منزها عن الأهواء.

فليسع الناس إلى المعارف المنزهة عن الهوى يخلصوا في تفكيرهم، وليخلصوا في تفكيرهم تتطهر قلوبهم من الشهوات الفاسدة؛ ولتطهر قلوبهم على هذه الصورة تصلح نفوسهم؛ ولتصلح نفوسهم تصلح من نفسها أحوال أسرهم؛ وليس الذي تصلح به هذه الأسر هو المواعظ التي تحث على الفضيلة أو العقاب الشديد الرادع، بل الذي يصلحها هو، ما للقدوة الحسنة من قوة صامتة؛ ولتنظم شئون الأسرة عن طريق المعرفة والإخلاص والقدوة الصالحة، يتهيأ للبلاد من تلقاء نفسه نظام اجتماعي يتيسر معه قيام حكم صالح.

ولتحافظ الدولة على الهدوء في أرضها والعدالة في جميع أرجائها يسد السلام العالم بأجمعه ويسعد جميع من فيه- تلك نصيحة تدعو إلى الكمال المطلق وتنسى أن الإنسان حيوان مفترس؛ ولكنها كالمسيحية تحدد لنا هدفاً نسعى لندركه وسلماً نرقاه لنصل به إلى هذا الهدف. وما من شك في أن في هذه النصوص قواعد فلسفية ذهبية”. 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة