15 نوفمبر، 2024 11:37 ص
Search
Close this search box.

قصة الحضارة(87): لو -دزه: “التفكير أمر عارض سطحي لا خير فيه”

قصة الحضارة(87): لو -دزه: “التفكير أمر عارض سطحي لا خير فيه”

خاص: قراءة- سماح عادل

انتقل الكتاب للفيلسوف الكبير “لو- دزه” وكتاب “الدو- ده- جنج” أحد الكتب الفلسفية الهامة في تاريخ الحضارة الصينية. وذلك في الحلقة السابعة والثمانين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

لو- دزه..

انتقل الكتاب للحكي عن فيلسوف كبير في الحضارة الصينية القديمة: “كان لو- دزه، أعظم فلاسفة الصين قبل كنفوشيوس، أكثر حكمة من تنج شي؛ فقد كان يعرف حكمة الصمت، وما من شك أنه عمر طويلا وإن لم نكن واثقين من أنه عاش حقا. ويحدثنا المؤرخ الصيني زوماتشين أن لو- دزه عافت نفسه سفالة السياسيين، ومل عمله في أمانة مكتبة جو الملكية، فاعتزم أن يغادر الصين ليبحث له عن ملجأ بعيد منعزل في الريف. “فلما أن وصل إلى حدود البلاد قال له الحارس ين شي: إنك إذن تنشد العزلة، وأنا أرجوك أن تكتب لي كتابا. فكتب له لو- دزه كتابا من جزأين في الدو والدي يشتمل على خمسة آلاف كلمة. ولما أن أتمه اختفى ولم يعلم أحد أين مات”.

لكن الروايات والأقاصيص، التي لا تخفى عليها خافية، تقول أنه عاش سبعة وثمانين عاما. ولم يبق لنا منه إلا اسمه وكتابه وقد لا يكون هذا أو ذاك له. فأما لو- دزه، فوصف معناه “المعلم القديم” وأما اسمه الحقيقي فهو، كما تقول الرواية، لي- أي البرقوقة.

والكتاب الذي يعزى إليه مشكوك فيه شكا أثار كثيرا من الجدل العلمي حول أصله ولكن الباحثين جميعا متفقون على أن الدو- ده- جنج- أي “كتاب الطريقة والفضيلة”- هو أهم النصوص الخاصة بالفلسفة الدوية التي يقول العلماء الصينيون أنها وجدت قبل لو- دزه بزمن طويل، والتي كان لها من بعده أنصار من الطراز الأول، والتي صارت فيما بعد دينا تعتنقه أقلية كبيرة من الصينيين من أيامه إلى وقتنا هذا، وجملة القول أن مؤلف الدو- ده- جنج مسألة ذات أهمية ثانوية، وأما الآراء التي احتواها الكتاب فمن أبدع ما كتب في تاريخ الفكر الإنساني”.

“الدو- ده- جنج”..

ويشرح عن كتاب فلسفي هام في التاريخ الصيني: “ومعنى لفظ الدَّو هو الطريقة: وهي أحيانا طريقة الطبيعة، وأحيانا الطريقة الدوية للحياة الحكيمة. أما المعنى الحرفي لهذا اللفظ فهو الطريق. وهو في الأصل طريقة للتفكير أو للامتناع عن التفكير، وذلك لأن الدويين يرون أن التفكير أمر عارض سطحي لا خير فيه إلا للجدل والمحاجاة، يضر الحياة أكثر مما ينفعها”.

أما “الطريقة” فيمكن الوصول إليها بنبذ العقل وجميع مشاغله، وبالالتجاء إلى حياة العزلة والتقشف والتأمل الهادئ في الطبيعة. وليس العلم في رأي صاحب الكتاب فضيلة، بل أن السفلة قد زاد عددهم من يوم أن انتشر العلم. وليس العلم هو الحكمة، ذلك لأنه لا شيء أبعد عن الرجل الحكيم من “صاحب العقل”. وشر أنواع الحكومات التي يمكن تصورها حكومة الفلاسفة؛ ذلك أنهم يقحمون النظريات في كل نظام طبيعي؛ وأكبر دليل على عجزهم عن العمل هو قدرتهم على إلقاء الخطب والإكثار من الآراء، وفي ذلك يقول الكتاب:

“إن المهرة لا يجادلون، وأصحاب الجدل عطل من المهارة. وإذا ما نبذنا المعارف نجونا من المتاعب. والحكيم يبقي الناس على الدوام بلا علم ولا شهوة، وإذا وجد من لهم علم منعهم من الإقدام على العمل. وأن الأقدمين الذين أظهروا براعتهم في العمل بما في الدو لم يفعلوا ما فعلوه لينيروا عقول الناس بل ليجعلوهم سذجا جهلاء. والصعوبة التي يواجهها الحكام إنما تنشأ من كثرة ما عند الناس من العلم، ومن يحاول حكم دولة من الدول بعلمه وحكمته ينكل بها ويفسد شئونها، أما الذي لا يفعل هذا فهو نعمة لها وبركة”.

نبذ العقل..

ويواصل: “وإنما كان صاحب الفكر خطرا على الدولة لأنه لا يفكر إلا في الأنظمة والقوانين؛ فهو يرغب في إقامة مجتمع على قواعد هندسية، ولا يدرك أن أنظمته إنما تقضي على ما يتمتع به المجتمع من حرية حيوية، وما في أجزائه من نشاط وقوة. أما الرجل البسيط الذي يعرف من تجاربه ما في العمل الذي يتصوره ويقوم به بكامل حريته من لذة، وما ينتجه من ثمرة، فهو أقل من العالم خطرا على الأمة إذا تولى تدبير أمورها، لأنه لا يحتاج إلى من يدله على أن القانون شديد الخطر عليها، وأنه قد يضرها أكثر مما ينفعها.

فهذا الرجل لا يضع للناس من الأنظمة إلا أقل قدر مستطاع، واذا تولى قيادة الأمة ابتعد بها عن جميع أفانين الخداع والتعقيد، وقادها نحو البساطة العادية التي تسير فيها الحياة سيرا حكيما على النهج الطبيعي الحكيم الرتيب الخالي من التفكير، وحتى الكتابة نفسها يهمل أمرها في هذا النمط من الحكم لأنها أداة غير طبيعية تهدف إلى الشر. فإذا تحررت غرائز الناس الاقتصادية التلقائية التي تحركها شهوة الطعام والحب من القيود التي تفرضها الحكومات دفعت عجلة الحياة في مسيرها البسيط الصحيح. وفي هذه الحال تقل المخترعات التي لا تفيد إلا في زيادة ثراء الأغنياء وقوة الأقوياء؛ وتنمحي الكتب والقوانين والصناعات ولا تبقى إلا التجارة القروية”.

كثرة القوانين..

ووفقا لهذا الكتاب فإن كثرة القوانين مفسدة: “إن كثرة النواهي والمحرمات في المملكة تزيد من فقر الأهلين. وكلما زاد عدد الأدوات التي تضاعف من كسبهم زاد نظام الدولة والعشيرة اضطرابا، وكلما زاد ما يجيده الناس من أعمال الختل والحذق زاد عدد ما يلجئون إليه من حيل غريبة وكلما كثرت الشرائع والقوانين كثر عدد اللصوص وقطاع الطرق؛ ولهذا قال أحد الحكماء: “لن أفعل شيئا، فيتبدل الناس من تلقاء أنفسهم، وسأولع بأن أبقى ساكنا فينصلح الناس من تلقاء أنفسهم، ولن أشغل بالي بأمور الناس فيثرى الناس من تلقاء أنفسهم؛ ولن أظهر شيئا من المطامع فيصل الناس من تلقاء أنفسهم إلى ما كانوا عليه من سذاجة بدائية.

وسأنظم الدولة الصغيرة القليلة السكان بحيث إذا وجد فيها أفراد للواحد منهم من الكفايات ما لعشرة رجال أو مائة رجل فلن يكون لهؤلاء الأفراد عمل؛ وسأجعل الناس فيها، وإن نظروا إلى الموت على أنه شيء محزن يؤسف له، لا يخرجون منها (لينجوا بأنفسهم منه)؛ ومع أن لهم سفنا وعربات فإنهم لا يرون ما يدعوا إلى ركوبها؛ ومع أن لهم ثيابا منتفخة وأسلحة حادة، فإنهم لا يجدون ما يدعوا إلى لبس الأولى أو استخدام الثانية، وسأجعل الناس يعودون إلى استخدام الحبال المعقودة.

وسيرون أن طعامهم (الخشن) وملابسهم (البسيطة) جميلة، ومساكنهم (الحقيرة) أمكنة للراحة، وأساليبهم العادية المألوفة مصادر للذة والمتعة، وإذا كانت هناك دولة مجاورة قريبة منا نراها بأعيننا وتصل إلى آذاننا منها نقنقة الدجاج ونباح الكلاب، فإني لن أجعل للناس وإن طال عمرهم صلة بها إلى يوم مماتهم””.

الطبيعة والحضارة..

يفرق الفيلسوف ما بين الطبيعة والحضارة: “ترى ما هي هذه الطبيعة التي يرغب لَوْ- دزه، في أن يتخذها مرشدا له وهاديا؟ إن هذا المعلم القديم يفرق بين الطبيعة والحضارة تفريقا محددا واضح المعالم، كما فعل روسو من بعده في عباراته الطنانة الرنانة التي يطلق عليها الناس اسم “التفكير الحديث”؛ فالطبيعة في نظره هي النشاط التلقائي، وانسياب الحوادث العادية المألوفة، وهي النظام العظيم الذي تتبعه الفصول وتتبعه السماء؛ وهي الدو أو الطريقة الممثلة المجسمة في كل مجرى وكل صخرة وكل نجم؛ وهي قانون الأشياء العادل الذي لا يحفل بالأشخاص، ولكنه مع ذلك قانون معقول يجب أن يخضع له قانون السلوك إذا أراد الناس أن يعيشوا في حكمة وسلام. وقانون الأشياء هذا هو الدو أو طريقة الكون كما أن قانون السلوك هو الدو أو طريقة الحياة. ويرى لو- دزه، أن الدوين في واقع الأمر دو واحد وأن الحياة في تناغمها الأساسي السليم ليست إلا جزءا من تناغم الكون. وفي هذا الدو الكوني تتوحد جميع قوانين الطبيعة وتكون مادة الحقائق كلها التي يقول بها اسبنوزا؛ وفيه تجد كل الصور الطبيعية على اختلاف أنواعها مكانها الصحيح، وتجتمع كل المظاهر التي تبدو للعين مختلفة متناقضة، وهو الحقيقة المطلقة التي تتجمع فيها كل الخصائص والمعضلات لتتكون منها وحدة هيجل الشاملة””.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة