15 نوفمبر، 2024 6:01 ص
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (83): نسبت الأساطير الصينية فضل تحضر مجتمعهم للملوك الأولين

قصة الحضارة (83): نسبت الأساطير الصينية فضل تحضر مجتمعهم للملوك الأولين

خاص: قراءة- سماح عادل

حكي الكتاب عن عهد ما قبل مرحلة الإقطاع في المجتمع الصيني القديم، حيث نسب الخيال الشعبي تطور المجتمع الصيني وتقدمه حضاريا بل وقصه خلقه نفسها إلى بعض الحكام والملوك، وكأنهم هم من قاموا بتعريف الناس أصول الحضارة والمدنية. وذلك في الحلقة الثالثة والثمانين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

قصة الخلق عند الصينيين..

يحكي الكتاب عن قصة الخلق في تصورات الصينيين: “تسمى الصين “جنة المؤرخين”؛ ذلك أنها ظلت مئات وآلافا من السنين ذات مؤرخين رسميين يسجلون كل ما يقع فيها، وكثيرا مما لا يقع. على أننا لا نثق بأقوالهم عن العهود السابقة لعام 76 ق. م، ولكننا اذا استمعنا إلى هذه الأقوال رأيناهم يحدثوننا أحاديث مفصلة عن تاريخ الصين منذ 3000 ق. م، ورأينا أكثرهم تقى وصلاحا يصفون خلق العالم كما يفعل المطلعون على الغيب في هذه الأيام. ومن أقوالهم في هذا أن “بان كو” أول الخلائق استطاع أن يشكل الأرض حوالي عام 2.229.000 ق. م بعد أن ظل يكدح في عمله هذا ثمانية عشر ألف عام. وتجمعت أنفاسه التي كان يخرجها في أثناء عمله فكانت رياحا وسحبا، وأضحى صوته رعدا، وصارت عروقه أنهارا، واستحال لحمه أرضا، وشعره نبتا وشجرا، وعظمه معادن، وعرقه مطرا؛ أما الحشرات التي كانت تعلق بجسمه فأصبحت آدميين. وليس لدينا من الأدلة القاطعة ما ننقض به هذا العلم الكوني العجيب.

وتقول الأساطير الصينية أن الملوك الأولين حكم كل منهم ثمانية عشر ألف عام، وأنهم جاهدوا أشق جهاد ليجعلوا من قمل “بان كو” خلائق متحضرين. وتقول لنا هذه الأساطير أن الناس “كانوا قبل هؤلاء الملوك السماويين كالوحوش الضارية يلبسون الجلود ويقتاتون باللحوم النيئة، ويعرفون أمهاتهم، ولكنهم لا يعرفون آباءهم”- ولا يرى استرندبرج أن هذا الوصف الأخير مقصور على الأقدمين أو على الصينيين.

ثم جاء من بعد هؤلاء الإمبراطور فوشي في عام 852 ق. م بالتحديد، فعلم الناس بمعاونة زوجه المستنيرة الزواج، والموسيقى والكتابة والتصوير، وصيد السمك بالشباك، وتأنيس الحيوان، وإطعام دود القز للحصول منها على الحرير. وأوصى وهو على فراش الموت أن يخلفه سن نونج، فأدخل هذا الإمبراطور في البلاد الزراعة، واخترع المحراث الخشبي، وأقام الأسواق وأوجد التجارة، وأنشأ علم الطب بما عرفه من خواص النبات العلاجية، هذا ما تقوله الأساطير التي تعلي الأشخاص أكثر مما تعلي الأفكار، وتعزو إلى عدد قليل من الأفراد نتائج كدح الأجيال الطوال”.

الإمبراطور يو..

ويواصل الكتاب: “ثم حكم إمبراطور محارب قوى يدعى هوانج- دي لم يطل عهده أكثر من مائة عام، فجاء إلى الصين بالمغناطيس والعجلات، ووظف المؤرخين الرسميين، وشاد أول أبنية من الآجر في الصين؛ وأقام مرصدا لدراسة النجوم، وأصلح التقويم، وأعاد توزيع الأرض على الأهلين. وحكم “يَو” قرنا آخر، وبلغ من صلاح حكمه أن كنفوشيوس، حين كتب عنه بعد زمانه بثمانمائة وألف عام في عهد كان يبدو له بلا ريب عهدا “حديثا” فاسدا، أخذ يندب ما طرأ على الصين من ضعف وانحلال.

ويحدثنا الحكيم القديم- الذي لم يستطع رغم حكمته التورع عن “الكذبة الصالحة” يضيفها إلى القصة ليجعل لها مغزى خلقيا- يحدثنا هذا الحكيم القديم أن الناس أصبحوا أفاضل أتقياء بمجرد النظر إلى “يو”، وكان أول ما قدمه “يو” من معونة للمصلحين أن وضع في خارج باب قصره طبلا يضربونه اذا أرادوا أن يدعوه لسماع شكواهم ولوحا يكتبون عليه ما يشيرون به على الحكومة ويقول كتاب التاريخ الذائع الصيت:

“أما يَوْ الصالح فيقولون عنه أنه حكم جونج- جُوُو مائة عام لأنه عاش مائة عام وعشرة وستة؛ وكان رحيما خيرا كالسماء، حكيما بصيرا كالآلهة، وكان ضياؤه يبدو من بعيد كالسحابة اللامعة، فاذا اقتربت منه كان كأنه الشمس الساطعة. وكان غنيا في غير زهو، عظيما في غير ترف وكان يلبس قلنسوة صفراء، ومئزرا قاتم اللون، ويركب عربة حمراء تجرها جياد بيض. وكانت طنف أسقف بيته غير مشذبة، وألواحه غير مسحجة، ودعائمه الخشبية غير ذات أطراف مزينة.

وكان أغلب ما يقتات به الحساء أيا كان ما يصنع منه، لا يهتم باختيار الحبوب التي يصنع منها خبزه، وكان يشرب حساء العدس من صفحة مصنوعة من الطين، ويتناوله بملعقة من الخشب. ولم يكن يتحلى بالجواهر، ولم تكن ثيابه مطرزة، بل كانت بسيطة لا يختلف بعضها عن بعض. ولم يكن يعني بغير المألوف من الأشياء أو الغريب من الأحداث، ولم يكن يقيم وزنا للأشياء النادرة الغريبة، يستمع لأغاني الغزل، عربته الرسمية خالية من أسباب الزينة.

يلبس في الصيف رداء بسيطا من القطن، ويلف جسمه في الشتاء بجلود الظباء. ومع هذا كله فقد كان أغنى من حكم جونج- جوو، طوال عهدها كله، وأرجحهم عقلا، وأطولهم عمرا، وأحبهم إلى قلوب الشعب”.

شون..

ويكمل الكتاب عن الحكام الذين علموا المجتمع الصيني الحضارة: “وكان شون آخر هؤلاء “الملوك الخمسة” مثالا في البر البنوي، كما كان هو البطل الذي جاهد لحماية البلاد من فيضانات نهر هوانج- هو، والذي أصلح التقويم، وضبط الموازين والمقاييس، وكسب محبة الأجيال التي جاءت بعده من تلاميذ المدارس بتقصير طول السوط الذي كانوا يربون به. وتقول الروايات الصينية إن شون في آخر أيامه رفع معه على العرش أقدر مساعديه، وهو المهندس العظيم يو، الذي تغلب على فيضان تسعة أنهار بشق تسعة جبال واحتفار تسع بحيرات، ويقول الصينيون “لولا يو، لكنا كلنا سمكا”.

وتقص الأساطير المقدسة أن خمر الأرز عصر في أيامه وقدم للإمبراطور، ولكن “يو” صبه على الأرض وقال متنبئا: “سيأتي اليوم الذي يخسر فيه أحد الناس بسبب هذا الشيء ملكا”، ثم نفي من كشف هذا الشرب من البلاد وحرم على الناس شربه. فلما فعل هذا جعل الناس خمر الأرز شرابهم القومي، فكان ذلك درسا علموه لمن جاء بعدهم من الخلائق.

وغيّر يو المبدأ الذي كان متبعا من قبله في وراثة الملك وهو أن يعين الإمبراطور قبل وفاته من يخلفه على العرش، فجعل الملك وراثيا في أسرته، وأنشأ بذلك أسرة الشيتية (أي المتحضرة)، فكان ذلك سببا في أن يتعاقب على حكم الصين العباقرة والبلهاء وذوو المواهب الوسطى. وقضى على هذه الأسرة إمبراطور ذو أطوار شاذة، يدعى جية أراد أن يسلي نفسه هو وزوجته فأمر ثلاثة آلاف من الصينيين أن يموتوا ميتة هنيئة بالقفز في بحيرة من النبيذ.

وليس لدينا ما يحقق لنا صدق ما ينقله إلينا المؤرخون الصينيون الأقدمون من أخبار هذه الأسرة. وكل ما نستطيع أن نقوله أن علماء الفلك في هذه الأيام قد حققوا تاريخ الكسوف الشمسي الذي ورد ذكره في السجلات القديمة فقالوا أنه قد حدث في عام 2165 ق. م، ولكن الثقاة الذين يعتد بآرائهم لا يؤمنون بحساب أولئك الفلكيين.

وقد وجدت على بعض العظام التي كشفت في هونان أسماء حكام تعزوهم الروايات الصينية إلى الأسرة الثانية أو أسرة شانج؛ ويحاول المؤرخون أن يعزوا بعض الأواني البرونزية الموغلة في القدم إلى أيام تلك الأسرة. أما فيما عدا هذا فمرجعنا الوحيد هو القصص الذي يحوي من الطرافة واللذة أكثر مما يحوي من الحقيقة”.

أسرة شانج..

واعتمادا على حكايات وأساطير قصة الخلق يتابع الكتاب: “وتقول الروايات القديمة انوو- يي أحد أباطرة أسرة شانج كان كافرا يتحدى الآلهة ويسب روح السماء، ويلعب الشطرنج مع ذلك الروح ويأمر أحد أفراد حاشيته بأن يحرك القطع بدل الروح، فاذا أخطأ سخر منه. ثم أهدى إليه كيسا من الجلد وملأه دماً، وأخذ يسلي نفسه بأن يصوب إليه سهامه. ويؤكد لنا المؤرخون- وفيهم من الفضيلة أكثر مما في التاريخ نفسه- انوو- يي أصابته صاعقة فأهلكته”.

جوسين الوحشي..

وعن ملك يمارس القسوة على الناس يذكر الكتاب: “وكان جوسين آخر ملوك هذه الأسرة ومخترع عصى الطعام خبيثا آثما إلى حد لا يكاد يصدقه العقل، فقضى بإثمه على أسرته. ويحكى عنه أنه قال: “لقد سمعت أن لقلب الإنسان سبع فتحات، وأحب أن أتثبت من صدق هذا القول في بي كان- وزيره” وكانت تاكي زوجة جوسين مضرب المثل في الفجور والقسوة، فكانت تعقد في بلاطها حفلات الرقص الخليع، وكان الرجال والنساء يسرحون ويمرحون عارين في حدائقها. فلما غضب الناس من هذه الفعال عمدت إلى تكميم أفواههم باختراع ضروب جديدة من التعذيب، فكانت ترغم المتذمرين على أن يمسكوا بأيديهم معادن محمية في النار أو يمشوا على قضبان مطلية بالشحم ممتدة فوق حفرة مملوءة بالفحم المشتعل، فإذا سقط الضحايا في الحفرة طربت الملكة حين تراهم تشوى أجسادهم في النار.

وقضت على عهد جوسين مؤامرة دبرها الثوار في داخل البلاد، وغارة من ولاية جو الغربية، ورفع المغيرون على العرش أسرة جو، وقد دام حكمها أطول من حكم أية أسرة مالكة أخرى في بلاد الصين. وكافأ الزعماء المنتصرون من أعانوهم من القواد والكبراء بأن جعلوهم حكاما يكادون أن يكونوا مستقلين في الولايات الكثيرة التي قسمت اليها الدولة الجديدة. وعلى هذا النحو بدأ عهد الإقطاع الذي كان فيما بعد شديد الخطر على حكومة البلاد، والذي كان رغم هذا باعثا على النشاط الأدبي والفلسفي في بلاد الصين. وتزاوج القادمون الجدد والسكان الأولون وامتزجوا جميعا، وكان امتزاجهم هذا تمهيدا بيولوجيا لأولى حضارات الشرق الأقصى في الأزمنة التاريخية”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة