خاص: قراءة- سماح عادل
ينتقل الكتاب إلى المذهب الخامس والسادس من المذاهب البرهمية الست، والتي اتخذت طابع الفلسفة، وهي مذاهب أعلت من شأن الديانة البرهمية في الحضارة الهندية القديمة في مواجهة التيارات الفكرية الأخرى التي خالفت سطوتها. وذلك في الحلقة الواحد والثمانين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
5- بيرفا- ميمانسا..
يحكي الكتاب عن المذهب الخامس من مذاهب البرهمية الست: “انتقالنا من “اليوجا” إلى “بيرفا- ميمانسا” هو انتقال من أشهر المذاهب الستة للفلسفة البرهمية إلى أقلها شهرة وأهمية؛ وكما أن “اليوجا” أدخلت في السحر والتصوف منها في الفلسفة، فكذلك هذا المذهب أقرب إلى الدين منه إلى الفلسفة، بل هو بمثابة رد الفعل من جانب المتمسكين بأصل الدين لينهضوا به مذاهب الزندقة التي قال بها الفلاسفة؛ فصاحب هذا المذهب، وهو “جيميني” يحتج على “كابيلا” و”كانادا” في إنكارهما لحجة الفيدات، مع اعترافهما بهذه الكتب المقدسة، ويقول “جيميني” إن العقل الإنساني أضعف من أن يحل مشكلات الميتافيزيقا واللاهوت فالعقل مستهتر يقدم نفسه لخدمة الأهواء كائنة ما كانت فهولا يعطينا “علماً” و”حقيقة” بل يكتفي بصبغ ميولنا الحسية وزهونا بصبغة المنطق؛ إن الطريق إلى الحكمة والسلام لا يمتد في المنطق والتواءاته الفارغة، بل تراه في التسليم المتواضع بما جاء عن طريق الوحي ونقله الخلف عن السلف، وفي الأداء المتواضع للشعائر كما فصّلتها الكتب المقدسة، وهذه وجهة من النظر لا تعدم وجهاً للدفاع”.
6- مذهب الأفيدانتا..
ويواصل عن المذهب السادس: “كلمة “فيدانتا” معناها في الأصل ختام الفيدات- أعني اليوبانشاد؛ أما اليوم فيطلقها الهنود على المذهب الفلسفي الذي حاول أن يدعم بالمنطق بناء الفكرة الأساسية التي وردت في كتب اليوبانشاد- تلك الفكرة التي تسود نغمتها جوانب الفكر الهندي بأسره- وهي أن الله (براهما) والروح (أتمان) شيء واحد؛ وأقدم صورة وصلتنا لهذه الفلسفة التي هي أوسع الفلسفات الهندية شيوعاً، هي كتاب “براهما- سوترا” لصاحبه “بدارايانا” (حوالي 200 ق.م) وقوام الكتاب خمسمائة وخمسة وخمسون حكمة، تعلن أولاها الغاية من الكتاب كله، وهي: “لنفرغ الآن إلى الرغبة في معرفة براهما” وكادت تمضي بعد ذلك ألف عام، حين كتب “جودايادا” تعليقا على هذه “السوترات” (أي الحكم) ثم علم “جوفندا” أسرار المذهب، وهذا بدوره لقَّنها لشانكارا، الذي ألف أشهر ما كتب عن الفيدانتا من شروح، وكان بما ألف أعظم الفلاسفة الهنود جميعاً”.
“شانكارا”..
وعن تأثير شنكارا يوضح: “استطاع “شانكارا” في حياته القصيرة البالغة اثنين وثلاثين عاماً، أن يحقق الاتحاد بين شخصيتي الحكيم والقديس، بين صفتي الحكمة والرحمة، وهو اتحاد يتصف به أسمى ما أنجبته الهند من صنوف الإنسان؛ ولد بين جماعة نشيطة في البحث العقلي من براهمة ملبار، وهم المعروفون باسم البراهمة النمبرديين، وزهد في ترف الدنيا، وانخرط في سلك “الساميناسيين” وهو لم يزل يافعاً، يعبد الآلهة الهندية على اختلافها دون أن يزعم لنفسه القدرة على فهمها على الرغم من أنه كان مغموراً في موجة من التصوف تكشف له عن فكرة “براهما” الواحد الذي يضم الآلهة جميعاً؛ وخُيّل إليه أنه ما ورد في كتب اليوبانشاد، هو أعمق الدين واعمق الفلسفة في آن معاً؛ فهو يستطيع أن يعفوا عن عامة الناس في عبادتهم لآلهة متعددة، لكنه لا يجد ما يغفر به عن الإلحاد في “سانخيا” أو عن لا أدرية “بوذا”.
سافر إلى الشمال ليمثل الجنوب فيه فاكتسب هناك شهرة في جامعة بنارس، حدت بالجامعة أن تخلع عليه أسمى ما عندها من أسباب التكريم، وبعثت به مصحوباً بطائفة كبيرة من الأتباع، ليذود عن البرهمية في كل ساحات المناظرة في الهند؛ ولعله كتب وهو في بنارس شرحه المشهور لليوبانشاد، وألف “بهاجافاد- جيتا” الذي هاجم فيه بحماسة دينية ودقة اسكولائية طوائف الزنادقة في الهند، وأعاد للبرهمية زعامتها الفكرية التي سلبها إياها “بوذا” و”كابيلا”.
يشيع في هذه الأبحاث الجدلية كثير من الميتافيزيقا، وفيها أقفار يباب من نصوص معروضة، لكننا نغفر ذلك كله لرجل استطاع وهو في سن الثلاثين أن يكون في الهند “أكويناس” و”كانت” معاً؛ فهو مثل “أكويناس” يسلم بكل ما في الكتب المقدسة في بلده من حجة على أنها وحي سماوي ثم يطوف باحثاً عن أدلة من خبرته ومن منطق العقل، يؤيد بها كل تعاليم تلك الكتب المنزلة؛ لكنه مع ذلك يختلف عن “أكويناس” في أنه ينكر على العقل وحده قدرته على القيام بهذه المهمة”.
البصيرة النافذة..
وعن أهمية البصيرة : “ويقول “شانكارا”: ليس المنطق هو الذي يعوزنا إنما تعوزنا البصيرة النافذة؛ وهي ملكة (شبيهة بملكة الفنون) ندرك بها دفعة واحدة ما هو حيوي في الأمر الذي نحن بصدده، فنميزه مما ليس بذي خطر، ونفرق بها بين ما هو أبدي وما هو زمني عابر، ونخرج بها الكل من الجزء؛ تلك هي أول ما يلزم للفلسفة من شروط؛ والشرط الثاني هو أن نقبل إقبالاً عن طواعية على الملاحظة والبحث والتفكير، لا نبتغي من ذلك كله غاية وراء المعرفة لذاتها، لا نريد من ورائه اختراعاً أو ثراء أو قوة؛ إنه بمثابة انسحاب الروح حتى لا تتعرض لكل ما يصاحب العمل من استثارة وميل مع الهوى واستمتاع بالثمرة.
وثالث الشروط هو أن يكتسب الفيلسوف ضبطاً لنفسه وصبرا وهدوء، ولابد له أن يروض نفسه على الحياة المترفعة عن الإغراء الجسدي والمشاغل المادية وأخيراً يجب أن تشتعل في أعماق نفسه رغبة في “الموكشا” ومعناها التحرر من الجهل، والقضاء على كل الشعور بنفسه الفردية المنفصلة عن سواها، والاندماج السعيد في براهما الذي هو المعرفة الكاملة والاتحاد اللانهائي واختصاراً، ليس الطالب بحاجة إلى منطق العقل بقدر ما هو بحاجة إلى تطهير الروح ورياضتها رياضة تزيد أغوارها عمقاً؛ ولعل في ذلك سر التربية الحقيقية في شتى صورها”.
أن نحدس بوجود ذلك الواقع الخارجي، فيستحيل علينا أبداً أن نصف خصائصه الموضوعية كما تقع في ذاتها؛ ذلك لأن أسلوبنا في الإدراك سيظل إلى الأبد ممتزجاً بالشيء المدرك امتزاجاً لا سبيل إلى عزل الواحد عن الآخر”.
مايا..
ويفصل الكتاب عن فلسلفة المذهب السادس: “إن العالم موجود، لكنه “مايا” وليس معنى الكلمة أنه وهم بل هو ظواهر، هو مظهر اشترك عقل الإنسان في تكوينه؛ وعجزنا عن إدراك الأشياء إلا في صورها التي تعرض علينا وهي في الزمان والمكان، ثم عجزنا عن التفكير فيها إلا على أساس السببية والتغير، إن هو إلا قصور فطري في طبائعنا، هو “أفيديا” أو جهل مرتبط ارتباطاً شديداً بطريقة إدراكنا نفسها، وعلى ذلك فهو جهل كتب على الجسد أن يصاب به؛ إن “مايا” و “أفيديا” هما الجانبان الذاتي والموضوعي للوهم الأعظم الذي يحمل العقل على الظن بأنه يعرف حقيقة العالم؛ إننا نرى كثرة في الأشياء وتياراً من التغير، بسبب “مايا وأفيديا” أعني بسبب ما ورثناه منذ الولادة من جهل محتوم؛ وحقيقة الأمر هي أن ثمة كائناً واحداً، وما التغيير إلا “مجرد اسم” نطلقه على تغير صور الأشياء في سطوحها الظاهرة؛ ووراء “المايا” أي النقاب الذي يحجب عنا الحقيقة، والذي قوامه تغير الأشياء، تستطيع أن تنفذ إلى الحقيقة الكلية الواحدة، براهما، لا بطريق الحواس ولا بقوة العقل، بل بالبصيرة النافذة والإدراك الفطري المباشر من روح مرنت على ذلك الضرب من الإدراك.
هذا القصور الطبيعي للحس والعقل، الذي تسببه لهما أعضاء الحس وصور التفكير العقلي، يحول كذلك بيننا وبين إدراك الروح الواحد الصمد الذي يكمن وراء الأرواح والعقول الجزئية الفردية، فنفوسنا المنعزل بعضها عن بعض، والتي نراها بالإدراك الحسي والتفكير العقلي، لا تقل بطلاناً عن خيالات الزمان والمكان؛ إن الفروق بين الأفراد، والتمييز بين الشخصيات مرتبطان بالجسم والمادة، وهما من خصائص عالم التغير الذي يشبه في تغيره تصاوير الكاليدوسكوب وهذه النفوس التي لا تزيد على مجرد ظواهر زائلة، ستمضي بانقضاء الظروف المادية التي هي جزء منها، أما الحياة الكامنة وراءها والتي نحسها في دخائلنا حين ننسى المكان والزمان والسببية والتغير، هي جوهرنا الصميم وحقيقتنا الأصيلة؛ تلك هي “أتمان” التي نشترك فيها مع سائر النفوس والأشياء، والتي لا تتجزأ ولا يخلو منها مكان، وهي وبراهما، أي الله، شيء واحد بعينه”.
الاله..
وعن فكرة الاله: “ولكن ما الله؟ إنه كما في النفس نفسان: الذات و “أتمان، والعالم عالمان: عالم الظواهر وعالم الحقائق فكذلك الرب ربان: إشفارا، أي الخالق، وهو الذي تعبده عامة الناس لما يتبدى لهم من مكان وزمان وسببية وتغير، وبراهما أي الكائن الخالص، وهو الذي يعبده المتدينون المتفلسفون الذين يبحثون ويجدون حقيقة واحدة عامة وراء الأشياء والنفوس المستقل بعضها عن بعض؛ وتلك الحقيقة الواحدة لا تتغير وسط هذه التغيرات كلها، ولا تتجزأ رغم هذه الانقسامات كلها. أبدية رغم تغير الأشياء في صورها ورغم كل ما نشاهده من ولادة وموت؛ فتعدد الآلهة بل العقيدة في وجود الله نفسها نتيجة تتفرع عن عالم “المايا” و”الأفيديا” وهي صور تعبدية تقابل صور الإدراك الحسي والتفكير؛ وهي ضرورية لحياتنا الخلقية على نحو ما يكون المكان والزمان والسببية عناصر ضرورية لحياتنا الفكرية، لكن حقيقتها ليست مطلقة، وليس لها صدق موضوعي في واقع الوجود.
وليس وجود الله معضلة في رأي شانكارا، لأنه يعرّف الله بالوجود، ويجعل الكون الحقيقي كله والله شيئاً واحداً بعينه؛ أما عن وجود إله مشخص، يكون خالقاً ومُخَلّصاً، فقد يكون هناك في رأيه موضع للشك؛ مثل هذا الإله في مذهب هذا المفكر الذي سبق “كانت” في تفكيره، لا تمكن البرهنة عليه بالعقل، وكل ما نستطيعه إزاءه هو أن نفرض وجوده فرضاً باعتباره ضرورة عملية يهب الطمأنينة لعقولنا القاصرة والتشجيع.
وأن يكون مندمجاً في سكينة، وفي اتحاد نرفاني خال من كل شهوة، بذلك المحيط الكوني العظيم الذي لا تصطرع فيه الغايات ولا تتنافس النفوس، وليس فيه أجزاء ولا تغير ولا مكان ولا زمان؛ ولكي يظفر الإنسان بهذه السكينة السعيدة التي تسمى أناندا) فلا يكفي الإنسان أن ينكر العالم، بل يجب إلى جانب ذلك أن ينكر ذاته؛ لا ينبغي أن يأبه لأملاك أو أدوات للمتاع، بل لا ينبغي أن يأبه حتى بخير أو شر؛ يجب أن ينظر إلى الألم والموت نظرته إلى “مايا”، أي حوادث تقع على سطح الجسم والمادة والزمان والتغير”.
الخلاص..
وعن فكرة الخلاص يوضح الكتاب: “وما الخلاص إلا في إدراك الاتحاد بين النفس والكون، “أتمان” و”براهما” ، أي الروح والله، وامتصاص الجزء في الكلويستحيل أن تقف دورة حلول الروح في أجساد جديدة إلا إذا تم هذا الامتصاص عندئذ سيتبين أن الروح الجزئية والشخصية المفردة، التي تصيبها عودة التجسد، وَهْمٌ ليس له وجود وأن الذي يعيد الولادة للنفس على صعيد العقاب أو الثواب هو “إشفارا” أي إله “مايا” ويقول شانكارا “إنه إذا ما عرفت وحدة أتمان وبراهما، اختفت على الفور الروح الجزئية واختفى براهما باعتباره خالقاً أي باعتباره إشفارا” وتنتمي “إشفارا” و “كارما” كما تنتمي الأشياء والأنفس إلى مذهب فيدانتا المعروف، في صورته المحورة تحويراً يناسب حاجات الرجل من عامة الناس”.
الجانب السري من المذهب..
وعن جانب خفي من المذهب: “أما الجانب الخفي السري من المذهب، فيعتبر الروح وبراهما شيئاً واحداً، لا يتجزأ ولا يموت ولا يتغير. وإنها لحكمة من شانكارا أن يحصر الجانب الخفي من مذهبه في الفلاسفة وحدهم والروح التي تحررت بحكم تعريفها لا تتحرك في دنيا الشهوات والعمل، إن ما يُنْزل الأذى بغيره عامداً، يعيش في مستوى “مايا”، ويخضع لما فيها من فوارق ومن أخلاق وقوانين، فلا حرّ إلا الفيلسوف، ولا حرية إلا الحكمة”.