16 نوفمبر، 2024 12:53 ص
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (80): غاية اليوجا أن تتحرر النفس من كل ظواهر الحس

قصة الحضارة (80): غاية اليوجا أن تتحرر النفس من كل ظواهر الحس

خاص: قراءة- سماح عادل

ينتقل الكتاب إلى مذهب اليوجا، وهو من أحد المذاهب الست البرهمية، وهو يعتمد على تأمل وفصل العقل عن الجسد، وتحرير الإنسان من كل الرغبات. وذلك في الحلقة الثمانين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

4- مذهب اليوجا..

يواصل الكتاب الحكي عن المذاهب البرهمية الفلسفية: ”

معجزات الآخذين “باليوجا” – إخلاص “اليوجا”

في مكان ساكن جميل

ألقى عصاه ليستقر، ولم يكن المكان موغلاً في الارتفاع

ولا مكان موغلاً في الانخفاض؛ وهناك فليسكن؛ متاعه

قماشةٌ وجلد غزال وحشيشة “الكوشا”؛

هناك ركّز فكره تركيزاً في “الواحد”

ممسكاً بزمام قلبه وحواسه، صامتاً، هادئاً،

هناك فليمارس “اليوجا” ليخلص إلى طهارة الروح،

ويضبط جسمه فلا يتحرك

منه عنق ولا رأس؛ ونظرته مستغرقة كلها

في طرف أنفه، محجوباً عن كل ما حوله،

هادئاً في روحه، خالياً من الخوف،

مفكراً في نذر (البراهما كاريا) الذي نذره على نفسه،

مخلصاً، مفكراً “فيّ” تائهاً في تفكيره “عني”.

لى سُلَّم المستحمين، ترى “القديسين” جالسين هنا وهناك، يحيط بهم هنود ينظرون إليهم نظرة الإجلال، ومسلمون ينظرون في عدم اكتراث، وسائحون يحدقون بالأبصار؛ ويسمى هؤلاء القديسون باليوجيين؛ وهم بمثابة المعبّر عن الديانة الهندية والفلسفة الهندية تعبيراً ليس بعد وضوحه وغرابته وضوح أو غرابة؛ ثم تراهم كذلك في عدد أقل، في الغابات وعلى جنبات الطرق، لا يتحركون ويستغرقون في تفكيرهم؛ منهم الكهول ومنهم الشباب، منهم من يلبس خرقة بالية على كتفيه ومنهم من يضع قماشاً على ردفيه، ومنهم من لا يستره إلا تراب الرماد ينثره على جسده وخلال شعره المزركش؛ تراهم جالسين القرفصاء وقد لفوا ساقاً على ساق، لا يتحركون، ويركزون أبصارهم في أنوفهم أو سُرَرِهم، بعضهم يحدقون في الشمس ساعات متواليات بل أياماً متعاقبة، فيفقدوا إبصارهم شيئاً فشيئاً، وبعضهم يحيطون أنفسهم بألسنة حامية من اللهب في قيظ النهار، وبعضهم يمشون حفاة على جمرات النار، أو يصبون الجمرات على رؤوسهم؛ وبعضهم يرقدون عرايا الأجساد مدى خمسة وثلاثين عاماً على أسرّة من حراب الحديد وبعضهم يدحرجون أجسامهم على الأرض آلاف الأميال حتى يصلون مكاناً يحجون إليه وبعضهم يصفدون أنفسهم بالأغلال في جذوع الشجر، أو يزجون بأنفسهم في أقفاص مغلقة حتى يأتيهم الموت.

وبعضهم يدفنون أنفسهم في الأرض حتى الأعناق ويظلون على هذا النحو أعواماً طوالاً، أو طول الحياة، وبعضهم يُنْفِذون سلكاً خلال الأصداغ، حتى يمر من الصدغين؛ فيستحيل عليهم فتح الفكين، وبهذا يحكمون على أنفسهم بالعيش على السوائل وحدها، وبعضهم يحتفظون بأيديهم مقبوضة حتى تنفذ أظفارهم من ظهور أكفهم وبعضهم يرفعون ذراعاً أو ساقاً حتى تذبل وتموت؛ وكثير منهم يجلسون صامتين في وضع واحد، وربما ظلوا في وضعهم أعواماً، يأكلون أوراق الشجر وأنواع البندق التي يأتيهم بها الناس؛ وهم في ذلك كله يتعمدون قتل إحساسهم ويركزون كل تفكيرهم بغية أن يزدادوا علماً؛ وأغلبهم يجتنبون هذه الطرائق التي تستوقف الأنظار، ويبحثون عن الحقيقة في سكينة ديارهم”.

التأمل الزاهد..

وعن وجود رجال هكذا في الغرب يوضح الكتاب: “لقد كان لنا رجال كهؤلاء في عصورنا الوسطى، أما اليوم فإذا أردت أن تصادف أشباههم في أوربا وأمريكا فعليك أن تبحث في زوايا البلاد وأركانها؛ لكن الهند عرفت هؤلاء الناس مدى ألفين وخمسمائة عام ويجوز أن يرجع عهدهم إلى ما قبل التاريخ حين كانوا للقبائل الهمجية فيما نظن بمثابة الأولياء وهذه الطريقة في التأمل الزاهد التي تعرف باسم “يوجا” كانت موجودة أيام “الفيدات”؛ و”يوبانشاد” و”الماهابهاراتا” كلاهما اعترفتا بهذه الطريقة التي ازدهرت في عصر بوذا.

حتى الإسكندر قد استوقف انتباهه قدرة هؤلاء الناس على رياضة أنفسهم في تحمل الألم صامتين، فوقف يفكر في أمرهم، ثم دعا أحدهم أن يصحبه ليعيش معه، لكن (اليوجي) رفض في عزم وثبات كما رفض “ديوجنيس” قائلاً إنه لا يريد شيئاً من الإسكندر، مقتنعاً بخلاء وفاضه؛ وكذلك ضحكت جماعة الزاهدين بأسرها سخرية من الرغبة الصبيانية التي جاشت في صدر ذلك المقدوني أن يفتح العالم، على حين أن مساحة لا تتجاوز أقدام قليلة من الأرض كما قالوا له تكفي الإنسان كائناً من كان، حياً أو ميتاً؛ وحكيم آخر صحب الإسكندر إلى فارس، وهو (كالاَنسْ) (سنة 326 ق . م) فمرض هناك، واستأذن الإسكندر في أن يموت، قائلاً إنه يؤثر الموت على المرض؛ وصعد على كومة من حطب مشتعل، هادئاً، واحترق لم يبعث صوتاً، فأدهش اليونان الذين لم يكونوا قد رأوا قط هذا الضرب من الشجاعة التي تقذف بالنفس في الموت دون أن يكون في الأمر عنصر الاغتيال الإجرامي”.

قواعد اليوجا..

وعن تجميع قواعد اليوجا يضيف الكتاب: “مضى بعد ذلك قرنان (حوالي 150 ق.م) وعندئذ جمع “باتانجالي” أجزاء المذهب من أقوال وأفعال في كتابه المشهور “قواعد اليوجا” الذي ما يزال يتخذ مرجعاً في جماعات اليوجيين من بنارس إلى لوس أنجلس؛ وقد ذكر يوان شوانج الذي زار البلاد في القرن السابع الميلادي، أن هذا المذهب كان عندئذ كثير الأتباع. ووصفه (ماركوبولو) حوالي سنة 1296م وصفاً حياً، وبعد كل هذه القرون، ما نزال اليوم نرى المتطرفين من أتباعه وعددهم يتراوح من مليون إلى ثلاثة ملايين في الهنديعذبون أنفسهم بغية أن يظفروا بسكينة المعرفة؛ إن (اليوجا) لتعد من أقوى الظواهر تأثيراً وأوقعها في النفس في تاريخ الإنسان بشتى ظواهره”.

تعريف اليوجا..

وينتقل الكتاب إلى تعريف اليوجا: “وبعد، فما هي “يوجا”؟ معنى الكلمة الحرفي هو النير، وليس المقصود أن يخضع الإنسان نفسه؛ أي يدمجها في الكائن الأسمى، بمقدار ما يقصدون بالكلمة إخضاع الإنسان لنير النظام التقشفي المتزهد الذي يلتزمه الطالب ليبلغ ما يريده لنفسه من طهارة الروح من كل أدران المادة وقيودها، ويحقق ما يسمو على الطبيعة من ذكاء وقوة؛ إن المادة هي أس الآلام والجهل؛ ومن ثم كانت غاية اليوجا أن تتحرر النفس من كل ظواهر الحس وكل ارتباطات الجسد بشهواته؛ فهي محاولة أن يبلغ الإنسان التنوير الأعلى والخلاص الأسمى في حياة واحدة، بأن يكفر في وجود واحد عن كل الخطايا التي اقترفها في تجسدات روحه الماضية كلها.

ومثل هذا التنوير لا يأتي بضربة واحدة، بل يجب على المريد أن يخطو إلى غايته خطوة خطوة؛ وليس في الطريق مرحلة واحدة يمكن فهمها لأي إنسان إذا لم يكن قد مر على المراحل السابقة كلها، فلا سبيل إلى بلوغ اليوجا إلا بعد درس ورياضة للنفس طويلين صابرين”.

مراحل اليوجا..

ويواصل عن مراحلها: “ومراحل اليوجا ثمان:

1- “ياما” أو موت الشهوة، وهاهنا ترضى النفس بقيود “أشما” و”براهما كاريا” وتمتنع عن كل سعي وراء مصالحها وتحرر نفسها من كل رغباتها وجهادها الماديين، وتتمنى الخير للكائنات جميعا.

2- “نياما” وهي اتبّاع أمين لبعض القواعد المبدئية للوصول إلى اليوجا، كالنظافة والقناعة والتطهر والدراسة والتقوى.

3- “أسانا” ومعناها وضع معين للجسد، والغرض منه إيقاف كل إحساس؛ وأفضل “أسانا” لهذه الغاية هي أن تضع القدم اليمنى على الفخذ اليسرى، والقدم اليسرى على الفخذ اليمنى، وأن يتصالب الذراعان وأن تمسك بالإصبعين الكبريين في القدمين، وأن تحني الذقن على الصدر وتوجه النظر إلى طرف الأنف.

4- “براناياما” ومعناها تنظيم التنفس، فهذه الرياضة قد تعين صاحبها على نسيان كل شيء ما عدا حركة التنفس، وبهذا يفرغ عقله من شواغله استعداداً للخلاء القابل الذي يجب أن يسبق استغراق تفكيره في تأملاته؛ وفي الوقت نفسه قد يتعلم الإنسان بهذه الرياضة طريقة الحياة على الحد الأدنى من الهواء فيستطيع أن يدفن نفسه في التراب أيام كثيرة دون أن يختنق.

5- “براتياكارا” ومعناها التجريد، وهاهنا يسيطر العقل على جميع الحواس ويباعد بين نفسه وبين كل المُحَسَّات.

6- “ذارانا” أو التركيز، وهو أن يملأ العقل والحواس بفكرة واحدة أو موضوع واحد بحيث يصرف النظر عن كل ما عداه فتركيز الانتباه في موضوع واحد كائناً ما كان مدة كافية من شأنه أن يحرر النفس من كل إحساس، وكل تفكير في موضوع معين وكل شهوة أنانية، ما دام العقل قد تجرد عن الأشياء فقد يصبح حراً بحيث يحس الجوهر الروحي للوجود على حقيقته.

7- “ذيانا” أو التأمل، وهي حالة تكاد تكون تنويماً مغناطيسياً تنتج عن “ذارانا”، ويقول “باتانجالي” إنها يمكن استحداثها من الدأب على تكرار المقطع المقدس “أوم”؛ وأخيراً يصل الزاهد إلى المرحلة التالية التي تعد خاتمة المطاف في سبيل اليوجا.

8- “ساماذي” أو تأمل الغيبوبة؛ فهاهنا يمحى من الذهن كل تفكير، فإذا ما فرغ العقل من مكنونه، فقد الشعور بنفسه على أنه كائن مستقل بذاته وينغمس في مجموعة الوجود، ويجمع كل الأشياء في كائن واحد، وهو تصوّرٌ إلهيّ مبارك؛ ويستحيل وصف هذه الحالة بكلمات لمن لم يمارسها، وليس في وسع الذكاء الإنساني أو التدليل المنطقي أن يجد لها صيغة تعبر عنها “فلا سبيل إلى معرفة اليوجا إلا عن طريق اليوجا””.

الاتحاد بالله..

وعن فكرة الاتحاد بالله يبين الكتاب: “ومع ذلك فليس ما ينشده “اليوجيُّ” هو الله أو الاتحاد بالله؛ ففي فلسفة اليوجا ليس الله “واسمه إشفارا” هو خالق الكون أو حافظه، وليس هو من يثيب الناس أو يعاقبهم؛ بل هو لا يزيد على كونه فكرة من فكرات كثيرة مما يجوز لنفس أن تركز فيها تأملها وتتخذها وسيلة لمعرفة الحقيقة؛ الغاية المنشودة في صراحة هي فصل العقل عن الجسد، هي إزاحة كل العوائق المادية عن الروح، حتى يتسنى لها في مذهب اليوجا  أن تكسب إدراكاً وقدرة خارقتين للطبيعة، لأنه إذا نفضت عن الروح كل أثار خضوعه للجسد واشتباكها فيه، فإنها لا تتحد مع براهما وكفى، بل تصبح براهما نفسه؛ إذ أن براهما ليس إلا ذلك الأساس الروحي الخبيء، ذلك الروح اللامادي الذي لا يتفرد بنفس، والذي يبقى بعد أن تطرد بالرياضة كل أعلاق الحواس؛ فإذا الحد الذي تستطيع عنده الروح أن تحرر نفسها من بيئتها وسجنها الماديين، إلى هذا الحد تستطيع أن تكون براهما بحيث تمارس ذكاء برهمياً وقوة برهمية؛ وهنا يظهر الأساس السحري للدين من جديد، حتى ليكاد يتهدد الدين نفسه بالخطر هو عبادة القوى التي هي أسمى من الإنسان”.

صوفية خالصة..

وعن اليوجا والتصوف: “كانت “اليوجا” في أيام “اليوبانشاد” صوفية خالصة  أعني محاولة تحقيق اتحاد الروح بالله؛ وتروي الأساطير الهندية أنه في سالف الأيام قد أتيح “لحكماء” سبعة (واسمهم أرشاء) أن يظفروا بالتوبة والتأمل بمعرفة تامة بكافة الأشياء؛ ثم اختلطت “اليوجا” بالسحر حتى أفسدها في العهود المتأخرة من تاريخ الهند؛ وأخذت تشغل نفسها بالتفكير بالمعجزات أكثر مما تفكر في سكينة المعرفة؛ ويعتقد “اليوجي” أنه بوساطة “اليوجا” يستطيع أن يخدر أي جزء من أجزاء جسده بتركيز فكري فيه وبذلك يجعله تحت سلطانه فيمكنه إن أراد أن يخفى عن الأبصار، أو أن يحول بين جسده وبين الحركة مهما كان الدافع إليها أو أن يمر في أية لحظة شاء أو من أي جزء شاء من أجزاء الأرض جميعاً، أو أن يحيى من العمر ما شاء أن يحيا، أو أن يعرف الماضي أو المستقبل كما يعرف أبعد النجوم.

ولزاماً على المتشكك أن يعترف بأنه ليس في هذه الأشياء كلها ما هو مستحيل؛ ففي وسع الجانبين أن يبتكروا من الفروض ما يستحيل على الفلاسفة أن يدحضوه؛ وكثيراً ما يشترك الفلاسفة وإياهم في مثل هذا الابتكار للفروض الغريبة؛ فشدة النشوة والتخليط الذهني يمكن إحداثهما بالصوم وتعذيب النفس؛ والتركيز يمكن أن يميت شعور الإنسان بالألم في موضع معين، أو بصفة عامة، وليس في وسعنا أن نجزم بألوان الطاقة الكامنة والقدرات المدخرة في العقل المجهول”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة