16 نوفمبر، 2024 3:56 ص
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (78): هدف الفلسفة الهندية البرهمية الخلاص من طغيان الشهوات

قصة الحضارة (78): هدف الفلسفة الهندية البرهمية الخلاص من طغيان الشهوات

 

خاص: قراءة- سماح عادل

ينتقل الكتاب إلى التفصيل الدقيق في فلسفة الهند في العصر القديم، ويبدأ بالفلسفة البرهمية التي انقسمت الى ستة مذاهب. وذلك في الحلقة الثامنة والسبعين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة..

انتقل الكتاب الى الحكي بالتفصيل عن الفلسفة البرهمية: “إن تفوق الهند أوضح في الفلسفة منه في الطب؛ ولو أن أصول الأشياء هاهنا أيضا، ينسدل عليها ستار يخفيها وكل نتيجة نصل إليها إن هي إلا ضرب من الفروض؛ فبعض كتب “يوبانشاد” أقدم من كل ما بقي لنا من الفلسفة اليونانية، ويظهر أن فيثاغورس وبارمنيدس وأفلاطون قد تأثروا بالميتافيزيقا الهندية؛ أما آراء طاليس وأنكسمندر وأنكسمينس، وهرقليطس، وأناكسجوراس وأمباذقليس، فهي لا تسبق فلسفة الهنود الدنيوية فحسب، بل يطبعها طابع من الشك ومن البحث في الطبيعة المادية، يميل بنا إلى ردها إلى ما شئت من أصول ما عدا الهنود؛ ويعتقد ” فكتور كوزان “أننا” مضطرون اضطراراً أن نلتمس في هذا الميدان الذي درجت فيه الإنسانية، منشأ الفلسفة العليا” والأرجح عندنا أنه ليس بين المدنيات المعروفة لنا جميعاً، مدنية واحدة كانت أصلاً لكل عناصر المدنية.

لكنك لن تجد بين بلاد العالمين بلداً اشتدت فيه الرغبة في الفلسفة شدتها في الهند؛ فهي عند الهنود لا تقتصر على كونها حلية للإنسان أو تفكهة يسرّي بها عن نفسه، بل هي جانب هام لا غني لنا عنه في تعليقنا بالحياة نفسها وفي معيشتنا لتلك الحياة؛ وإنك لتجد حكماء الهند يتلقون من إمارات التكريم ما يتلقاه في الغرب رجال المال والأعمال؛ فأي أمة سوى الأمة الهندية قد فكرت في الاحتفال بأعيادها بمناظرات ينازل فيها زعماء المدارس الفلسفية المتنافسة بعضهم بعضاً؟ فتقرأ في اليوبانشاد كيف خصص ملك الفيديهيين يوماً لمناقشة فلسفية باعتبارها جزءا من الاحتفال الديني، بين “ياجنافالكيا” و”أسفالا” و”أرتابهاجا” و”جارجي” ؛ ووعد الملك أن يثيب الظافر منهم- وكان عند وعده- بمكافأة قدرها ألف بقرة ومائة قطعة من الذهب”.

صفات الفيلسوف..

وعن صفات الفيلسوف يوضح الكتاب: “وكان المألوف للمعلم الفيلسوف في الهند أن يتحدث أكثر مما يكتب؛ فبدل أن يهاجم معارضيه عن طريق المطبعة المأمون الجانب، كانوا يطالبونه بملاقاتهم في مناظرة حية، وبالذهاب إلى مقارّ المدارس الأخرى ليضع نفسه هناك تحت تصرف أتباعها في جداله وسؤاله؛ ولقد أنفق أعلام الفلاسفة، مثل “شانكارا” شطرا عظيما من أعوامهم في أمثال تلك الرحلات الفكرية؛ وكان الملوك أحيانا يسهمون في هذه المجادلات، في تواضع يليق بالملك وهو في حضرة الفيلسوف- ذلك إن أخذنا بما يرويه لنا الفلاسفة أنفسهم عن ذلك؛ وينزل الظافر في مناظرة هامة من تلك المناظرات، منزلة عالية من البطولة في أعين الناس، كهذه المنزلة التي يحتلها قائد عسكري عاد من انتصاراته الدامية في ميادين الحروب.

وترى في صورة راجبوتية من القرن الثامن عشر نموذجاً “لمدرسة فلسفية” هندية- فالمعلم جالس على حصير تحت شجرة، وتلاميذه جالسون القرفصاء أمامه على نجيل الأرض؛ وكنت تستطيع أن ترى مثل هذا المنظر أينما سرت في الهند، لأن معلمي الفلسفة هناك كانوا في كثرة التجار في بابل، ولن تجد في بلد آخر غير الهند عددا من المدارس الفكرية بمقدار ما تجده منها هناك؛ ففي إحدى محاورات بوذا ما يدلنا على أنه قد كان في الهند في عصره اثنان وستون رأياً في النفس يأخذ بها الفلاسفة المختلفون.

يقـول “الكونت كسرلنج”: “إن هذه الأمة الفلسفية قبل كل شيء، لديها من الألفاظ السنسكريتية التي تعبر بها عن الفكر الفلسفي والديني أكثر مما في اليونانية واللاتينية والجرمانية مجتمعة””.

الحديث الشفوي..

وعن انتقال الفكر الهندي بالحديث الشفوي يواصل الكتاب: “لما كان الفكر الهندي قد انتقل بالحديث الشفوي أكثر منه بالكتابة، فأقدم صورة هبطت إلينا عن مذاهب المدارس المختلفة، هي الحِكَم ويسمونها “سُترات” ومعناها “خيوط”  يكتبها المعلم أو الطالب، لا لتكون وسيلة لشرح رأيه لغيره بل لتعينه على وعيها في ذاكرته؛ وهذه السُترات ترجع إلى عصور مختلفة فبعضها قديم يرجع تاريخه إلى سنة 200 م، وبعضها حديث يرجع إلى سنة 1400م؛ وهي جميعاً على كل حال أحدث جداً من التراث الفكري الذي تلخصه، والذي تناقلته العصور بالشفاه، ذلك لأن نشأة هذه المدارس الفلسفية قديمة قدم بوذا، بل لعل بعضها مثل السانخْيا كان قد ثبت أساسه عندما ولد بوذا”.

تصنيف المذاهب..

وعن تصنيف الهنود لمذاهبهم يذكر الكتاب: “يبوب الهنود مذاهبهم الفلسفية كلها في صنفين: المذاهب الأستيكية التي تثبت، والمذاهب الناستيكية التي تنفي.

وقد فرغنا فيما مضى من دراسة المذاهب الناستيكية التي أخذ بها على وجه التخصيص أتباع (شارفاكا) وأنصار بوذا والجانتيون؛ والعجيب أن هذه المذاهب إنما سميت (ناستيكا) أي الكافرة الهدامة، لا لأنها شكت أو أنكرت وجود الله ولو أنهم فعلوا ذلك بل لأنها شكت وأنكرت أو تجاهلت أحكام الفيدات؛ وكثير من مذاهب (آستيكا) شكت في وجود الله كذلك أو أنكرت وجوده، لكنها مع ذلك سميت بالمذاهب المؤمنة بأصول الدين، لأنها سلمت بصواب الكتب المقدسة صوابا لا يأتيه الباطل.

كما قبلت نظام الطبقات؛ ولم يفكر أحد في تقييد الحرية الفكرية، مهما بلغت من الإلحاد، عند تلك المذاهب التي اعترفت بهذه الأسس الجوهرية التي تقوم عليها الجماعة الهندية الأصلية؛ ولما كان تفسير الكتب المقدسة يفتح مجالاً واسعاً لاختلاف الرأي، بحيث استطاع مهرة المفسرين أن يجدوا في الفيدات أي مذهب شاءوا، فقد أصبح الشرط الوحيد في واقع الأمر، الذي لا بد من تحققه إذا ما أراد الإنسان أن يكون ذا مكانة عقلية في نفوس الناس، هي أن يعترف بالطبقات؛ حتى لقد أصبح هذا النظام هو مصدر السلطان الحقيقي في البلاد؛ معارضته تعدّ خيانة كبرى، وقبوله يغفر عن كثير من السيئات”.

حرية الفلاسفة..

وعن امتلاك الفلاسفة في الهند لمساحة من الحرية يضيف الكتاب: “وإذن فالواقع هو أن فلاسفة الهند تمتعوا بحرية أكبر جدا مما أتيح لزملائهم في أوربا الوسيطة حين سادت الفلسفة الاسكولائية أي المدرسية، لكن ربما كان هؤلاء الهنود الفلاسفة أقل حرية من مفكري الدولة المسيحية في ظل البابوات المتنورين الذين سادوا أيام النهضة الأوربية”.

مذاهب ستة..

ويفصل عن المذاهب: “وآلت السيادة لستة من المذاهب “الأصيلة”- المؤمنة بأصول الفيدات- أو “الدارشانات” (ومعناها البراهين)، حتى لقد أصبح لزاما على كل مفكر هندي ممن يعترفون بسلطان البراهمة، أن يعتنق هذا المذهب أو ذاك من تلك المذاهب الستة؛ وهي كلها مجمعة على طائفة معينة من الآراء تعتبر ركائز التفكير الهندي: وهي أن الفيدات قد هبط بها الوحي، وأن التدليل العقلي أقل جدارة بالركون إليه في هدايتنا إلى الحقيقة والصواب، من إدراك الفرد وشعوره المباشرين إذا ما أعد الفرد إعدادا صحيحا لاستقبال العوامل الروحية وأرهفت نفسه إرهافا باصطناع الزهد والتزام الطاعة مدى أعوام لمن يقومون على تهذيب نفسه.
وأن الغاية من المعرفة ومن الفلسفة ليست هي السيطرة على العالم بقدر ما هي الخلاص منه؛ وأن هدف الفكر هو التماس الحرية من الألم المصاحب لخيبة الشهوات في أن تجد إشباعها، وذلك بالتحرر من الشهوات نفسها؛ تلك هي الفلسفات التي ينتهي إليها الناس إذا ما أتعب نفوسهم الطموح والكفاح والثراء و”التقدم” و”النجاح””.

1- مذهب نيايا..

ويحكي عن المذهب الأول: “أول المذاهب “البرهمية” بالترتيب المنطقي للتفكير الهندي (لأننا لا ندري في يقين ترتيبه الزمني، وكل المذاهب في أجزائها الجوهرية متعاصرة) مجموعة من النظريات المنطقية تمتد إلى ألفي عام؛ فكلمة (نيايا) معناها تدليل، أو طريقة لهداية العقل حتى ينتهي إلى نتيجة، وأهم نصوصه هو النص المسمى (سوترا نيايا) الذي يعزى في غير تأكيد الواثق إلى رجل يسمى (جوتاما) عاش في زمن يختلف فيه المؤرخون، وتتراوح تقديراتهم بين القرن الثالث قبل المسيح والقرن الأول بعده.

ويفصح جوتاما عن الغاية من مؤلفه فيقول كما يقول كل مفكري الهنود إنها تحقيق النرفانا، أو الخلاص من طغيان الشهوات، وإنما تتحقق هذه الغاية في مجال المنطق بالتفكير الواضح المتسق؛ لكنا نشك في أن غايته المباشرة كانت هداية الحائرين في الصراع الذي كان يقوم به المتناظرين من فلاسفة الهنود؛ فهو يصوغ لهم مبادئ الحِجَاج، ويعرض عليهم أحابيل النقاش، ويحصر المغالطات الشائعة في التفكير؛ وتراه – كأنما هو أرسطو آخر – يلتمس بناء التدليل العقلي في طريقة القياس، ويجد عقدة كل تدليل في الحد الأوسط من حدود القياس وكذلك تراه – كأنما هو جيمس آخر أو ديوى آخر، يعتبر المعرفة والفكر أداتين عمليتين ووسيلتين فعالتين يستخدمها الإنسان في إشباع حاجاته وقضاء إرادته، ومقياس صحتهما هو قدرتهما على الوصول إلى فعل ناجح فهو واقعي، ولا شأن له قط بالفكرة السامية التي تزعم أن العالم ينعدم وجوده إذا لم يعد هناك من يدركه، والظاهر أن أسلاف جوتاما في مذهب نيايا كانوا ملاحدة، وأما أتباعه فقد شغلوا أنفسهم بنظرية المعرفة وكانت مهمته أن يقدم للهند دستورا جديدا للبحث والتفكير، وقاموسا غنيا بالألفاظ الفلسفية”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة