15 نوفمبر، 2024 2:38 م
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (76): تميزت الديانات الهندية بالزهد هربا من قسوة الحياة

قصة الحضارة (76): تميزت الديانات الهندية بالزهد هربا من قسوة الحياة

خاص: قراءة- سماح عادل

يحاول الكتاب فهم المشتركات في العقائد الدينية في العصور، ويرجع اندهاشه كباحث من التصوف في الديانات الهندية والزهد ووصفه لتلك الديانات بأنها ديانات عبيد بسبب اختلافات الحضارة التي أتى منها، التي يصفها بالعقلانية، وهي الحضارة الغربية. وذلك في الحلقة السادسة والسبعين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

عناصر مشتركة في العقائد..

يهتم الكتاب بالبحث عن عناصر مشتركة في العقائد الدينية المختلفة لدى الهنود في العصر القديم: “وإذا بحثنا في هذا الخليط من العقائد عن عناصر مشتركة تعرف بها ديانة الهنود فسنجدها فيما يوشك أن يكون إجماعاً بين الهندوس على عبادة فشنو وشيفا معا، وعلى تبجيل الفيدات والبراهمة والبقرة، وعلى اعتبار ملحمتي “ماهابهاراتا” و”رامايانا” ليسا مجرد ملحمتين أدبيتين، بل اعتبارها آيات مُنَزَّلة تأتي في التقديس بعد الفيدات وإنه لمما ينم عن مغزى: أن نرى آلهة الهند وتقاليدها الدينية اليوم مختلفة عما قررته كتب الفيدا؛ فإلى حد ما يمكن القول بأن الديانة الهندية تمثل انتصار الهند الدرافيدية الأصلية على آريي العصر الفيدي.

فقد كان من نتائج الغزو والنهب والفقر، أن أوذيت الهند جسما وروحا، والتمست ملاذا من الهزيمة الأرضية النكراء، في انتصارات سهلة ظفرت بها الأساطير والخيال؛ فالبوذية رغم ما فيها من عناصر الشمم، هي- كالرواقية- فلسفة للعبيد، ولا يغير الموقف أن ينطق بها أمير؛ لأنها ترمي إلى وجوب الزهد في كل شهوة وفي كل كفاح حتى لو كانت الشهوة وكان الكفاح من أجل الحرية الفردية أو الحرية القومية؛ ومثلها الأعلى هو حالة جمود لا يعرف الرغبات؛ وواضح أن حرارة الهند التي تنهك الأجسام، هي التي نطقت بهذا اللسان الذي يعبر عن التعب تعبيرا يلتمس سندا من العقل.

إن الديانة الهندية ما انفكت تفت في عضد الهند، بأن غلت نفسها عن طريق نظام الطبقات بأغلال العبودية الدائمة للكهنوت؛ وتصورت آلهتها تصورا لا تراعي فيه حدود الأخلاق، واحتفظت خلال القرون بعادات وحشية مثل التضحية بأفراد من الإنسان وإحراق الأرملة عند وفاة زوجها؛ تلك العادات التي كان كثير من الأمم قد نبذها منذ زمن طويل؛ وصورت الحياة على أنها شر لا مفر منه، وعملت على تثبيط الهمة عند اتباعها وإشاعة الكآبة في نفوسهم؛ واستحالت الظواهر الدنيوية على يديها أوهاماً، فمحت بذلك الفوارق بين الحرية والعبودية، بين الخير والشر، بين الإفساد والإصلاح.

ولقد قال في ذلك هندي جرئ “إن الديانة الهندية. قد استحالت الآن إلى عبادة أوثان وطقوس تقليدية، تعتبر الظواهر الشكلية كل شيء، واللباب لا شيء”ولما كانت الأمة يمسك الكهنة بزمامها، وينخر القديسون عظامها، فإن الهند لترقب في شغف لم يجد اللسان المعبر به:” ترقب النهوض والإصلاح الديني وحركة التنوير”.

التصوف والعلم..

ويبرر الكتاب رؤيته للديانة الهندية كونه ينتمي للحياة الغربية باختلافاتها: “ومع ذلك فلا ينبغي أن نفكر في الهند بغير أن تكون صورتنا التاريخية ماثلة أمام أعيننا؛ فقد كان لنا كذلك فترة كانت لنا عصورنا الوسطى، حيث آثرنا التصوف على العلم وحكومة الكهنة على حكومة الأغنياء- ولعلنا نعود إلى ذلك مرة أخرى، إننا لا نستطيع أن نحكم على هؤلاء المتصوفة، لأن أحكامنا في الغرب مبنية على خبرة جسدية ونتائج مادية، وهي فيما يظهر أمور لا تمس الموضوع الذي تحكم عليه ولا تتعمق الأشياء في رأي القديس الهندي؛ فماذا لو تبين أن الثروة والقوة والحرب والفتح كلها أوهام تجري على السطح لا أكثر، وليست جديرة بالتفكير عند العقل الناضج؟ ماذا لو كان هذا العلم الذي يقيم نفسه على ذرات وعوامل وراثة كلها فروض، وعلى كهارب وخلايا، وغازات يتولد منها عباقرة مثل شكسبير، وعناصر كيماوية يتمخض عنها المسيح، ماذا لو كان كل هذا لا يزيد على عقيدة لا أكثر، سبقتها عقائد، بل إنها لعقيدة من أغرب العقائد، وأبعدها عن التصديق وأكثرها ميلاً نحو التغير والزوال.

إن الشرق في مقاومته لما هو فيه من ذل ومرض، قد يغمس نفسه في العلم والصناعة في نفس اللحظة التي ينظر فيها أبناء الغرب إلى آلاتهم التي أفقرتهم وإلى علومهم التي أزالت عن أعينهم غلالة الخيال، فينزلوا بمدائنهم وآلاتهم الخراب بما يثيرونه من ثورات فوضوية أو حروب؛ ثم هم قد يعودون بعد ذلك مهزومين مكدودين جائعين، إلى الزراعة حيث يصوغون لأنفسهم إيمانا صوفيا جديدا يبث فيهم الشجاعة في وجه الجوع والقسوة والظلم والموت؛ فإنك لن تجد بين المتفكهين من يتفكه كما يتفكه التاريخ”.

العلوم..

انتقل الكتاب الى الحديث عن العلوم في الهند القديمة: “جهود الهند في العلم قديمة جدا وحديثة جدا في آن معا؛ فهي حديثة إذا نظرنا إلى العلم باعتباره بحثا مستقلا دنيوياً، وهي قديمة إذا نظرنا إليه باعتباره مشغلة فرعية من مشاغل الكهنة؛ ولما كان الدين هو لب الحياة الهندية وصميمها، فإن العلوم التي كان من شأنها أن تعاون الدين هي التي سبقت غيرها بالرعاية والنمو: فالفلك قد نشأ من عبادة الأجرام السماوية ومشاهدة حركاتها لتحديد أيام الأعياد والقرابين؛ ونشأ النحو وعلم اللغة عن الرغبة الملحة بأن تكون كل صلاة وكل صيغة دينية، صحيحة في تركيبها وفي مخارج أصواتها، على الرغم من أنها تقال أو تكتب بلغة ميتة) فقد كان علماء الهند – كما كانت الحال في عصورنا الوسطى – هم كهنتها، بكل ما في ذلك من خير ومن شر.

نشأ علم الفلك عن التنجيم نشأة غير مقصودة، ثم أخذ رويدا رويدا ينفض عن نفسه الأغلال في ظل اليونان؛ وأقدم الرسائل الفلكية  وهي السِدْ ذانتا حوالي 425 ق.م كانت قائمة على أساس العلم اليوناني، حتى لقد اعترف “فارهاميرا” الذي أطلق على مؤلفه الموسوعي اسما له مغزاه إذ أطلق عليه “مجموعة كاملة للتنجيم الطبيعي”  اعترف صراحة باعتماده على اليونان، وحث “آريا بهاتا” وهو أعظم الفلكيين والرياضيين الهنود في قصائد منظومة موضوعات مثل المعادلات الرباعية والجيب (في حساب المثلثات) وقيمة النسبة التقريبية المستعملة في استخراج مساحة الدائرة.

كما علل الكسوف والخسوف والاعتدالين والانقلابين (في حركة الأرض حول الشمس) وأعلن عن كروية الأرض ودورتها اليومية حول محورها، وجاء ما يأتي فيما كتبه سابقا لعلم النهضة الأوربية سبقا جريئا: “إن عالم النجوم ثابت، والأرض في دورانها هي التي تحدث كل يوم ظهور الكواكب والنجوم من الشرق واختفاءها في الغرب” وجاء بعده خلفه المشهور “براهما جوبتا” فنسق المعلومات الفلكية في الهند، ولو أنه أعاق تقدم الفلك هناك برفضه لنظرية “آريا بهاتا” الخاصة بدوران الأرض، هؤلاء الرجال وأتباعهم هم الذين لاءموا بين حاجات الهنود والتقسيم البابلي للسماء إلى أبراج، وهم الذين قسموا العام اثني عشر شهراً، كل شهر منها ثلاثون يوماً، وكل يوم ثلاثون ساعة، وكانوا يضيفون شهراً زائداً كل خمسة أعوام، وحسبوا بدقة تستوقف النظر قطر القمر وخسوف الشمس، وموضع القطبين ومواضع النجوم الرئيسية ودورانها.

وشرحوا نظرية الجاذبية- ولو أنهم لم يصلوا إلى قانونها- عندما كتبوا في “سِدْ ذانت”: “إن الأرض تجذب إليها كل شيء بما لها من قوة جاذبة”

ولكي يحسبوا هذه العمليات المعقدة، فكر الهنود في حساب رياضي يفوق ما كان لليونان في كل شيء إلا الهندسة، ولذا فان من أهم ما ورثناه عن الشرق الأعداد “العربية” والنظام العشري، وقد جاءنا كلاهما من الهند على أيدي العرب؛ فإن ما يسمى خطأ بالأعداد “العربية” نراها منقوشة على “صخرة المراسيم” التي خلفها “أشوكا” (256 ق.م)، أي قبل استخدامها في الكتابات العربية بألف عام؛ يقول “لابلاس” العظيم النابغ:

“إنها الهندية هي التي علمتنا الطريقة العبقرية في التعبير عن كافة الأعداد برموز عشرة، لكل منها قيمة تستمد من مكانة في العدد فضلاً عن قيمته الذاتية المطلقة، وإنها لفكرة عميقة هامة تبدو لنا اليوم من البساطة بحيث ننسى ما هي جديرة به من خطر؛ لكن بساطتها هذه، والسهولة العظيمة التي أدخلتها في العمليات الحسابية كلها، قد جعلتا من علم الحساب عندنا مخترعاً لعظمة هذا الابتكار إذا ما تذكرنا أنه غاب عن عبقرية أرشميديس وأبولونيوس، وهما من أعظم من أنجبت العصور القديمة من رجال”.

وعرف “آريا بهاتا” و”براهما جوبتا” النظام العشري قبل ظهوره في كتابات العرب والسوريين بزمن طويل؛ وأخذته الصين عن المبشرين البوذيين ويظهر أن محمداً بن موسى الخوارزمي- وهو أعظم رياضي في عصره (مات حوالي 850 م)- قد أدخله في بغداد؛ أما الصفر فأقدم استخدام له معروف لنا في آسيا وأوربا هو في وثيقة عربية تاريخها 873 م. أي قبل أول ظهور له- فيما نعلم- في الهند بثلاثة أعوام؛ لكن الرأي مجمع على أن العرب قد استعاروا الصفر أيضاً من الهند؛ هكذا ترى أكثر الأعداد تواضعاً وأكبرها نفعاً كان هدية من الهدايا الرقيقة التي قدمتها الهند لسائر البشر”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة