24 سبتمبر، 2024 4:19 ص
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (75): اعتقد الهنود في المساواة وتسامحوا مع المتشككين في الدين

قصة الحضارة (75): اعتقد الهنود في المساواة وتسامحوا مع المتشككين في الدين

 

خاص: قراءة- سماح عادل

يواصل الكتاب الحكي عن الديانة الهندية، في العصر القديم، حيث القديسين والزاهدين، وأيضا الشك الذي ظهر لدى البعض في أمور الدين، والتسامح الذي قوبل به هذا الشك في قواعد الدين. وذلك في الحلقة الخامسة والسبعين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

القديسون والزاهدون..

يحكي الكتاب عن القديسيين في الهند: “يظهر أن القديسين في الهند أكثر منهم في أي بلد آخر، حتى ليشعر الزائر في تلك البلاد أنهم نتاج طبيعي لها كالخشخاش والثعبان، وللقداسة في رأي المتدين الهندي ثلاث وسائل: الأولى طريق “جنانا- يوجا” أي طريق التأمل، والثانية “كارما- يوجا” أي طريق العمل؛ الثالثة “بهاكتي- يوجا” أي طريق الحب؛ ولا يمانع البرهمي في أي من هذه الطرق الثلاث، بما يقضي به قانون “الأَشْرامات” الأربع، أي مراحل القداسة، فعلى البرهمي الناشئ أن يبدأ الطريق بأن يكون “براهما شاري” يقسم على صيانته لعفته قبل زواجه، وعلى أن يلتزم التقوى ويواصل الدرس، وأن يكون صادقا، خدوما “لشيخه” أي لأستاذه الذي يعلمه.

فإذا ما تزوج، ولا ينبغي أن يتأخر زواجه عن الثامنة عشرة من عمره، كان عليه أن يدخل المرحلة الثانية من الحياة البرهمية، وهي مرحلة “جريها ستا” أي رب الأسرة، التي ينسل فيها الأبناء ليعبدوه ويعنوا به وبأسلافه؛ وفي المرحلة الثالثة وقلما يمارسها الآن واحد ينسحب الطامع في القداسة مع زوجته ليعيش كـ “فانا براستا” أي ساكن الغابات، فيتقبل عسر الحياة مطمئنا راضيا، ويحصر العلاقة الزوجية في نسل الأطفال، وأخيرا إن أراد فيصبح “ساناياسي” أي “الهاجر” للعالم، مستغنيا عن كل أملاكه وكل أمواله وكل ما يربطه بغيره من علاقات، فلا يحتفظ إلا بجلد وعل يغطي به جسده، وعكازة يتوكأ عليها، وقرعة ماء لظمئه؛ ويجب عليه أن يلطخ جسده بالرماد كله يوم، وأن يشرب “العناصر الخمسة” مراراً متقاربة وأن يعيش معتمداً على صدقات المحسنين”.

المساواة..

وعن إيمان الهنود بالمساواة: “وتنص القاعدة البرهمية على أنه “لا بد أن ينظر إلى الناس على أنهم سواسية، فلا يتأثر بأي شيء مما يحدث، وأن تكون له القدرة على النظر إلى الأشياء نظرة هادئة لا يعرف هدوءها معنى الاضطراب، حتى إن بلغ الأمر حد الثورات التي تثل العروش؛ وغايته الوحيدة ينبغي أن تكون حصوله على ذلك القدر من الحكمة ومن الروحانية الذي يمكّنه في نهاية الأمر من الاتحاد بالربوبية العليا، تلك الربوبية التي تفصلنا عنها شهواتنا العاطفية وبيئاتنا المادية”.

الشك..

وعن الشك في الديني يوضح الكتاب: “وإنك لتصادف أحيانا وسط هذا التدين صوتا شكاكا يرتفع كصرير النشاز في نغمات الحياة الهندية التي تسودها استكانة التسليم؛ لا شك أن الشُكّاك كانوا كثيرين حينما كانت الهند غنية، لأن الإنسانية تزداد تشككاً في آلهتها ازدياداً يبلغ أقصاه في حالات ازدهارها المادي، وتزداد لها تعبدا ازديادا يبلغ غاية مداه حين يعمها البؤس؛ وهنالك مؤلف يكاد يساوي في قدمه ذلك العصر، وهو يسمى، على طريقة الهنود في تطويل الأسماء، “شواسا مْفِديُوبانشاد” الذي يبسّط اللاهوت في أربع قضايا:

(1) أن ليس هناك عودة للروح إلى تجسيد جديد، ولا إله ولا جنة ولا نار ولا عالم.

(2) وأن كل الكتب الدينية التقليدية من تأليف جماعة من الحمقى المغرورين.

(3) وأن ما يحكم الأشياء كلها هو “الطبيعة” التي تبدع، و”الزمان” الذي يهدم؛ وهما لا يأبهان بفضيلة أو برذيلة حين يقسمون بين الناس أنصبتهم من السعادة والشقاء.

(4) وأن الناس تخدعهم حلاوة الكلام فيعتنقون الاعتقاد في الآلهة والمعابد والكهنة، مع أنه من الواقع لا فرق بين فشنو وكلب”.

أسئلة الملك مِلِنْدا..

وعن تناقضات في الآراء الدينية يذكر: “وهناك قانون بوذي مكتوب باللغة الباليّة، تراه يضم المتناقضات، شأنه في ذلك شأن أي كتاب مقدس يحمي مصالح الكهنوت، وفي هذا القانون رسالة تستوقف النظر لعلها قديمة قدم المسيحية، وتسمى “أسئلة الملك مِلِنْدا” وفيها المعلم البوذي “نجاسينا” يجيب إجابات جد مثيرة للأسئلة الدينية التي يوجهها إليه “الملك مناندر” الإغريقي الباكتريّ الذي حكم شمالي الهند في مستهل القرن الأول قبل المسيح؛ يقول “نجاسينا” إن الدين لا ينبغي أن يتخذ مجرد وسيلة فرار يلوذ بها المعذبون، بل يجب أن يكون سعي الزاهد حتى يبلغ مرحلة القداسة والحكمة دون أن يزعم وجود جنة أو إله، لأن هذا القديس يؤكد لنا أنه لا وجود لجنة أو إله.

وتهاجم ملحمة “الماهابهاراتا” هؤلاء الشكاك والملاحدة الذين، كما تزعم لنا، ينكرون حقيقة الأرواح ويحتقرون الخلود، وهي تقول أن أمثال هؤلاء الناس “يضربون في فجاج الأرض كلها” وهي تنذرهم بعقابهم المقبل، ضاربة لهم مثلا ابن آوى الذي يعلل وجوده ووجود نوعه بقوله إنه كان في حياته الماضية “باحثاً عقلياً، وناقداً لكتب فيدا… مهيناً للكهنة معارضاً لهم… كافراً بكل شيء شكاكاً في كل شيء”؛ ويشير “بهاجافاد- جيتا” إلى الزنادقة الذين ينكرون وجود الله ويصفون الدنيا بأنها “لا تزيد عن كونها منزلاً للشهوات” وكثيراً ما كان البراهمة أنفسهم شكاكين لكنهم كانوا يذهبون في الشك إلى غاية مداه بحيث لا يسمحون لأنفسهم أن يهاجموا عقيدة الناس؛ وعلى الرغم من أن شعراء الهند بصفة عامة يتميزون بالورع الشديد ترى بعضهم، مثل “كابر” و “فيمانا” يدافعون عن نوع من العقيدة في الله متحلل من كثير جداً من القيود، فقد كتب “فيمانا”، وهو شاعر ظهر في جنوبي الهند في القرن السابع عشر، بروح السخرية من الرهبان الزاهدين ومن حجاج المعابد، ونظام الطبقات؛ يقول:

“عزلة الكلب،‍‍‍ تأمل الكركيّ، ترتيل الحمار، استحمام الضفدعة”.. كيف تكون أحسن حالاً إذا لطخت جسمك بالرماد؟ إنه ينبغي أن تركز فكرك في الله وحده، أما عن بقية ما تصنعه، فالحمار في وسعه أن يتمرغ في الوسخ كما تفعل. إن كتب “الفيدا” أشبه ما تكون بالفاجرات اللائي يخدعن الرجال وليس لهن أغوار تسبر؛ وأما علم الله الخبئ فهو شبيه بالزوجة الشريفة. أيمكن لتلطيخ الجسم بالرماد الأبيض أن يذهب برائحة وعاء الخمر؟ أيمكن؟ لحبل تلفه حول عنقك أن يجعل منك إنساناً آخر؟. لماذا نرى واجباً علينا أن نسيء إلى طبقة الباريا إساءة لا تنقطع؟ أليس المنبوذ مثلنا في لحمه ودمه؟ ومن أي طبقة عسى أن يكون الإله الذي يحل جسد البراريا؟. إن من يقول “إني لا أعلم شيئاً” هو أبلغ الناس حكمه”.

التسامح الديني..

ويتميز الهنود بالتسامح الديني: “وإنه لمما يجدر ملاحظته في هذا الصدد أن تذاع أقوال كهذه بغير مؤاخذة قائليها، في مجتمع تتحكم في عقوله طبقة من الكهان؛ فلوا استثنينا كبح الحكم الأجنبي للهنود بل ربما جاز أن نقول أنه بسبب وجود الحكام الأجانب الذين لم يكونوا يأبهون للعقائد الدينية الأهلية فقد تمتعت الهند بقدر من حرية الفكر أعظم جداً مما تمتعت به أوربا في عصورها الوسطى، وهي الفترة التي تقابلها مدنية الهند؛ ولقد باشر البراهمة نفوذهم في تدبر ورفق؛ وكان اعتمادهم في صيانة العقيدة الأصلية على الفقراء وما يتصفون به من جمود على القديم؛ وكان هؤلاء الفقراء في ذلك عند حسن ظن البراهمة بهم؛ فإذا ما شاعت في الناس ضروب في الزندقة أو الآلهة الغريبة شيوعاً يعد خطراً على العقيدة، تسامح البراهمة إزاءها حتى يمتصوها امتصاصاً في ذلك الغور الفسيح الأبعاد الذي منه تتكون العقيدة الهندية، فإذا أضفت إلى تلك العقيدة إلهاً أو حذفت منها إلهاً، فلا يكون لهذا أثر كبير؛ ومن ثم قلت الحزازات المذهبية قلة نسبية في المجتمع الهندي، ولم تشتد إلا بين الهندوس والمسلمين؛ كذلك لم تسفح على أرض الهند دماء من أجل الدين، اللهم إلا دماء سفحها الفاتحون؛ وجاء التعصب الديني إلى البلاد مع الإسلام والمسيحية، أما المسلمون فقد كانوا يبغون شراء الجنة بدم “الكفار” وأما البرتغاليون حين استولوا على “جوا” فقد أدخلوا فيها محاكم التفتيش”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة