خاص: قراءة- سماح عادل
يواصل الكتاب تناول الديانة الهندية، في العصر القديم، حيث قانون الكارما الذي اعتبره أكثر القوانين عدلا، كما يحكي عن فكرة تناسخ الأرواح، وانتقالها في حيوات متوالية، كما حكي عن فكرة الخلاص لديهم. وذلك في الحلقة الثالثة والسبعين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الحياة واحدة..
يواصل الكتاب تناول الديانة الهندية في العصر القديم: “وحدث إبان هذه العصور صغراها أن تحولت بلايين الأنفس من نوع إلى نوع ومن جسم إلى جسم ومن حياة إلى حياة في دورات من التناسخ تبعث الملل لتكرارها؛ فليس الفرد فرداً في حقيقة أمره، وإنما هو حلقة في سلسلة الحياة، وصفحة واحدة من تاريخ نفس من الأنفس؛ والنوع من الأحياء ليس في حقيقة أمره نوعاً قائماً بذاته، لأن الأنفس الحالّة في هذه الزهور أو هذه البراغيث ربما كانت أمس، أو ربما تكون غداً، أرواحاً من أرواح البشر، فالحياة كلها واحدة، وإذن فالإنسان إن هو إلا إنسان إلى حد ما؛ لأنه كذلك حيوان، وما تزال عالقة به نتف وأصداء من حيواته الدنيا الماضية، مما يجعله أقرب صلة بالحيوان منه إلى الحكيم من الناس.
إن الإنسان جزء من طبيعة لا أكثر، فليس هو من هذه الطبيعة مركزها ولا سيدها، والحياة الواحدة في الفرد ليست إلا فصلا واحدا من سيرة نفس واحدة، وليست هي كل ما تتألف منه هذه النفس فكل صورة من صور الأحياء مصيرها التغير، وأما الحقيقة فدائمة وواحدة، والأبدان الكثيرة التي تحل فيها النفس واحدا بعد واحد، شبيه بالأعوام أو بالأيام في حياة الفرد الواحد، وقد تعلو بالنفس نحو النماء حينا أو قد تهبط بها نحو الذبول حينا آخر.
فكيف يمكن لحياة الفرد الواحد، وهي على هذه الحالة من القصر في تيار الأجيال المتعاقبة العنيف الجارف، فكيف يمكن أن تشتمل على كل ما للنفس الفردة من تاريخ، أو أن تهيئ لها ما هي جديرة به من عقاب أو ثواب على شرها أو خيرها؟ وإذا فرضنا للنفس خلودا، فكيف يجوز لحياة واحدة قصيرة أن تقرر مصيرها إلى الأبد؟”.
كارما..
وعن فكرة الثواب والعقاب يضيف: “يقول الهندي إن الحياة لا يمكن فهمها إلا على افتراض أن كل مرحلة من مراحل وجود النفس تعاني العذاب أو تتمتع بالثواب، جزاء وفاقا لما وقع من النفس في حياة ماضية من رذيلة أو فضيلة، إذ يستحيل على فعل صغير أو كبير، خير أو شرير، أن يمضى بغير أثر؛ إن كل شيء لا بد له من أثر يظهر ذات يوم، ذلك هو قانون “كارما”، ومعناه قانون الفعل، أو قانون السببية في دنيا الروح، وهو أسمى قوانين العالم وأبشعها.
فإذا أقام إنسان العدل، وكان رحيماً دون أن يقترف خطيئة، فيستحيل أن يجيء جزاؤه في مرحلة واحدة فانية من مراحل الحياة، بل يمتد نطاقه إلى حيوات أخرى يولد فيها ليكون ذا مكانة أعلى وحظ أوفر، لو ظل على فضيلته الأولى، أما إن عاش حياته عيش الرذيلة، أعيدت ولادته في حياة تالية منبوذا أو ابن عرس أو كلبا، وقانون “كارما” هذا مثل قانون القَدَر عند اليونان هو فوق الآلهة والبشر معا لأن الآلهة أنفسهم لا يستطيعون تغيير سننه التي يطرد فعلها؛ أو إن شئت فقل ما قاله رجال اللاهوت، وهو أن “كارما” وإرادة الآلهة أو فعلها، شيء واحد بذاته، لكن ليس “كارما” و “القدر” بشيء واحد، لأن “القدر” يتضمن عجز الإنسان عن تقرير مصير نفسه، أما “كارما” فتجعل الإنسان، إذا أخذنا كل حيواته جملة واحدة، خالق مصير نفسه، وليست الجنة والجحيم بخاتمة ينتهي عندها فعل “كارما”، وهو سلسلة الولادات والميتات.
نعم إن الروح بعد موت جسدها، يجوز أن ترسل إلى الجحيم لتلقى عذابها على جرم بعينه، أو أن ترسل إلى الجنة لتنعم بجزاء سريع على فشيلة بذاتها لكن يستحيل على روح أن تقيم في الجحيم، وقليل من الأرواح هي التي يسمح لها بالإقامة في الجنة إلى الأبد؛ ذلك لأن الروح لا بد لها بعد فترة تقضيها في الجنة أو الجحيم، أن تعود إلى الأرض من جديد، لتنفذ بحياة جديدة ما يقضي به عليها “كارما”
كان هذا المذهب صادقاً من الوجهة البيولوجية إلى حد كبير، فلا ريب في أننا حقا تجسيد جديد لأسلافنا، وسنعود بدورنا فنتجسد من جديد في أبنائنا، وعيوب الآباء تهبط على الأبناء إلى حد ما، ولو أنها لا تهبط بالمقدار الذي يفرضه الجامدون الخيرون، حتى ولو بعد أجيال كثيرة؛ فقد كان “كارما” أسطورة بارعة في صرف الحيوان البشري عن القتل والسرقة والمماطلة والتقتير في العطايا، فضلا عن أنها وسعت من نطاق الوحدة الخلقية والشعور بالواجب حتى شمل ذلك النطاق مراحل الحياة كلها، ومهدت أمام التشريع الخلقي سبيل التطبيق على نطاق أوسع رقعة وأكثر منطقاً مما وجده في أية حضارة أخرى”.
الهنود الأخيار..
ويفصل عن سلوكيات الهنود: “فالهنود الأخيار لا يقتلون الحشرات إذ وسعهم ذلك، وحتى أولئك الذين يتواضعون منهم في طموحهم الخلقي يعاملون الحيوان معاملتهم لأخوة لهم أدنى شأناً، لا معاملتهم لكائنات أحط نوعاً سلطهم الله عليهم، وقد فسرت “كارما” للهنود من الوجهة الفلسفية كثيرا من الحقائق التي كانت تكون بغيرها غامضة المعنى أو مجحفة إجحافا يوغر الصدور، فهذه الفوارق الأزلية التي تفرق بين أقدار الناس والتي تخيب آمال الناس منذ الأزل في المساواة والعدل؛ وهذه الشرور في صورها المختلفات التي تسود وجه الأرض وتصبغ بحمرة الدماء مجرى للتاريخ، وهذه الآلام التي تدخل حياة الإنسان مع ولادته ثم يصاحبه حتى وفاته”.
قانون عادل..
وعن كون قانون الكارما قانونا عادلا يوضح الكتاب: “كل هذه وهذه وتلك بدت معقولة للهندي إذا ما انعقد في “كارما” ذلك لأن هذه الشرور وهذا الظلم وهذه الفوارق المتدرجة من الخبل العقلي إلى النبوغ، وهذه الدرجات من الفقر والغني، كل هذه نتيجة للحيوات الماضية وهي نتيجة لازمة تترتب على فعل قانون، إن رأيته ظالما مدى حياة واحدة أو لحظة واحدة، فستراه أعدل ما تكون القوانين في نهاية الأمر كله، فكارما إحدى الوسائل الكثيرة التي ابتكرها الإنسان لنفسه لتعينه على تحمل الشر صابرا، وعلى مواجهة الحياة متفائلا؛ فالمهمة التي اضطلعت بها معظم الديانات وحاولت أداءها هي أن تفسر الشر وأن تشرح للناس نظاما كونيا يبرر لهم أن يقبلوا الشر جزءا منه، قبولا إلا يكن مليئا بالبشر.
فحسبه أن يكون مصحوبا بسكينة الفؤاد، ولما كانت مشكلة الحياة الحقيقية ليست هي آلامها، لكنها الآلام التي تصادف من لا يستحقونها، فإن ديانة الهند تخفف من هذه المأساة البشرية بأن تخلع على الحزن والألم شيئا من المعنى وقدرا من القيمة، فللروح بناء على اللاهوت الهندي هذا العزاء على الأقل، وهو أنها لا بد لها أن تتحمل نتائج فعلها وحدها دون أفعال سواها فما لم تضجر الروح من الوجود كله جملة واحدة، فستجد نفسها راضية عن الشر باعتباره عقابا عابرا مؤقتا، وسترقب تحقيق آمالها في ثوابها على ما أتت من فضيلة”.
الارتياب من الوجود..
وعن الشك في قيمة الوجود يذكر الكتاب: “لكن الهنود في حقيقة الأمر يرتابون في قيمة الوجود كله جملة واحدة؛ ذلك أنه لما كانت البيئة ترهق قواهم إرهاقا، ولما كان الحاكم يذل قوميتهم إذلالا، ويستغل مواردهم استغلالا، فقد مالوا إلى النظر إلى الحياة على أنها عقوبة مُرة أكثر منها فرصة سانحة أو ثوابا يرتجى، فكتب الفيدا التي كتبها القوم وهم أشداء عند قومهم من الشمال، كانت في تفاؤلها لا تقل عما يكتبه اليوم أديبنا “وتمن”؛ ومضت خمسمائة عام، وظهر بوذا من هؤلاء القوم أنفسهم، لكنه أنكر قيمة الحياة؛ ثم مضت خمسة قرون أخرى، وظهرت كتب “بيورانا” فعبرت عن نظرة بلغت في تشاؤمهما حدا لم يبلغه متشائم في الغرب، إذا استثنينا لحظات شرودا من الشك الفلسفي”.
الشرق والغرب..
ويعقد الكتاب مقارنة بين الشرق والغرب على مستوى الجانب الروحي: “لقد تعذر على الشرق، حتى تناوله أطراف الثورة الصناعية، أن يفهم هذه الحماسة التي يقبل بها الغرب على الحياة، ولم يجد إلا سذاجة وطفولة في مشاغلنا التي لا تعرف الرحمة، ومطامعنا التي لا تقنع، ورسائلنا التي تحطم الأعصاب وتوفر العمل، وتقدمنا وسرعة سيرنا؛ لم يفهم الشرق من الغرب هذا الانغماس العميق في سطوح دون لبابها، ولا هذا الرفض الماكر منه أن يواجه حقائق الوجود مواجهة صريحة؛ لكن الغرب في الوقت نفسه لم يستطع أن يسبر في الشرق التقليدي أغوار هذا السكون الهامد، ولا هذا “الركود” و”اليأس” إلا أن الحرارة لا تفهم البرودة.
“ياما” يوجه السؤال إلى “يودشتيرا” قائلاً: “ما أعجب شيء في العالم؟” فيجيبه “يودشتيرا”: “أن يموت الإنسان في أثر الإنسان، وأن يرى الناس ذلك ثم ينطلق في سعيهم كأنهم من الخالدين” وجاء في “الماهابهاراتا”: “العالم مصاب بكارثة الموت، ومقيد في نشاطه بالشيخوخة، والليالي متتابعات، تأتي ثم تمضي، لا تتخلف أبدا؛ فإذا ما أيقنت أن الموت يستحيل عليه الوقوف، فماذا أرتجي من السير تحت غطاء من الحكمة”؛ وتدعو “سيتا” في “رامايانا” لما رأت أن ثوابها على وفائها رغم ما يصادفها من إغراء ومحنة هو الموت ولا شيء غير الموت، تدعو قائلة:
لو كنت بوفائي لزوجي قد برهنت على أني زوجة أمينة.
فيا أمنا الأرض أريحي ابنتك “سيتا” من أعباء هذه الحياة”.
الخلاص..
وعن فكرة الخلاص في الديانة الهندية يشرح: “هكذا ترى الكلمة الأخيرة في التفكير الديني عند الهنود هي ما يسمونه “فكشا” ومعناها الخلاص، الخلاص أولا من الشهوة، ثم الخلاص من الحياة؛ والنرفانا هي هذا الخلاص أو ذاك، لكنها لا تبلغ غاية أمدها إلا إذا تحقق الخلاصان معا؛ ولقد عبر الحكيم “بهارتري- هاري” عن الخلاص الأول فقال:
“إن كل شيء على الأرض يبرر الخوف، والطريق الوحيدة للخلاص من الخوف هي في إنكار الشهوات إنكاراً تاماً.. لقد مضى على عهد كانت تطول فيه أيامي حين كان سؤال الحسنة من الأغنياء يثخن في قلبي أليم الجراح؛ ثم بدت أيامي قصيرة كل القصر حين جعلت أسعى نحو تحقيق كل رغباتي وغاياتي الدنيوية؛ أما الآن فقد تفلسفت وجلست على حجر صلب في كهف على سفح الجبل، وتراني لا أنفك عن الضحك كلما فكرت في حياتي الماضية”.
ويعبر غاندي عن الصورة الثانية من صورتي الخلاص فيقول:
“لست أريد عودة إلى ولادة جديدة” إن أسمي وآخر ما يتمناه الهندي هو أن ينجو من العودة إلى الحياة في جسد آخر، وأن تزول عنه هذه الحمى التي تلتهب بها الذات كلما عاودتها الحياة في بدن جديد وولادة جديدة؛ وليس طريق الخلاص إيمانا، كلا ولا نتاجا، إنما طريق الخلاص إنكار للذات إنكارا متصلا، ونفاذ بالبصيرة إلى الكل الذي يبتلع في جوفه الأجزاء، حتى ينتهي الأمر بالنفس إلى الموت الذي يفنيها ولا يبقي منها ما يولد مرة أخرى؛ وهكذا يتحول جحيم الفردية إلى سكينة الاتحاد مع سائر الوجود وفردوسه المقيم؛ هكذا تتحول الفردية إلى فناء تام في “براهما” الذي هو من العالم روحه أو قوته”.