خاص: قراءة- سماح عادل
يحكي الكتاب عن دخول المسلمين إلى الهند، وكان له رأيا سلبيا حول ذلك الفتح، فقد اعتبره غزوا وحشيا وقاسيا مدللا على ذلك بذكر أسماء الملوك الين كانوا يقتلون الهنود بأعداد غفيرة وبطرق وحشية، كما ذكر كيف سعى سلاطين المسلمين الى إفقار الهنود وإذلالهم. وذلك في الحلقة الثانية والستين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الفتح الإسلامي..
انتقل الكتاب إلى الحكي عن الفترة التي تلت الفتح الإسلامي: “لعل الفتح الإسلامي للهند أن يكون أكثر قصص التاريخ تلطخاً بالدماء؛ وإن حكاية الفتح لمما يبعث اليأس في النفوس لأن مغزاها الواضح هو أن المدنية مضطربة الخطى، وأن مُركبَّها الرقيق الذي قوامه النظام والحرية، والثقافة والسلام، قد يتحطم في لحظة على أيدي جماعة من الهمج تأتي من الخارج غازية، أو تتكاثر في الداخل متوالدة؛ فهؤلاء هم الهندوسيون قد تركوا أنفسهم للانقسام والقتال الداخليين يفتان في عضدهم، واتخذوا لأنفسهم البوذية والجانتية ديناً، فأخمد مثل هذا الدين جذوة الحياة في قلوبهم بحيث عجزوا عن الصمود لمشاقها؛ ولم يستطيعوا تنظيم قواهم لحماية حدودهم وعواصمهم وثروتهم وحريتهم من طوائف السُّكيَّت والهون والأفغان والأتراك الذين ما فتئوا يجوبون حول حدود البلاد يرقبون ضعف أهلها لينفذوا إلى جوفها، فكأنما لبثت الهند أربعة قرون (من 600 إلى 1000م) تغري الفاتحين بفتحها، حتى جاءهم هذا الفتح حقيقة واقعة آخر الأمر.
وكانت أول هجمة للمسلمين إغارة عابرة منهم على “ملطان” التي تقع في الجزء الغربي من البنجاب (سنة 664م)، ثم وقعت من المسلمين إغارات أخرى شبيهة بهذه كان فيها النجاح حليفهم مدى الثلاثة القرون التالية، حتى انتهى بهم الأمر إلى توطيد سلطانهم في وادي نهر السند في نحو الوقت الذي كان زملاؤهم في الدين يقاتلون في الغرب موقعة “تور” (732م) ليخلصوا منها إلى فرض سيادتهم على أوربا، على أن الفتح الإسلامي الحقيقي للهند لم يقع إلا بعد نهاية الألف عام الأولى من التاريخ الميلادي”.
محمود سلطنة ونهب الهند..
ويواصل الكتاب عن نهب الهند من قبل الممالك الصغيرة: “ففي سنة 997 م تولى شيخ من الشيوخ الأتراك يسمى محمود سلطنة دولة صغيرة؛ تقع في الجزء الشرقي من أفغانستان، وهي دولة غزنة؛ وأدرك محمود أن ملكه ناشئ وفقير، ورأى الهند عبر الحدود بلداً قديماً غنياً، ونتيجة هاتين المقدمتين واضحة؛ فزعم لنفسه حماسة دينية تدفعه إلى تحطيم الوثنية الهندوسية، واجتاح الحدود بقوة من رجاله تشتعل حماسة بالتقوى التي تطمع في الغنيمة، والتقى بالهندوسيين آخذاً إياهم على غرة في “بهمناجار”، فقتلهم ونهب مدائنهم وحطم معابدهم وحمل معه كنوزاً تراكمت هناك على مر القرون؛ حتى إذا ما عاد إلى غزنة، أدهش سفراء الدول الأجنبية بما أطلعهم عليه من “الجواهر واللآلئ غير المثقوبة والياقوت الذي يتلألأ كأنه الشرر، أو كأنه النبيذ جمده الثلج، والزمرد الذي أشبه غصون الريحان اليانعة، والماس الذي ماثل حب الرمان حجماً ووزناً”.
وكان محمود كلما أقبل شتاء هبط على الهند وملأ خزائنه بالغنائم، وأمتع رجاله بما أطلق لهم من حرية النهب والقتل، حتى إذا ما جاء الربيع عاد إلى عاصمة بلاده أغنى مما كان؛ وفي “ماثورة” (على جمنه) أخذ من المعبد تماثيله الذهبية التي كانت تزدان بالأحجار الكريمة؛ وأفرغ خزائنه من مكنونها الذي كان يتألف من مقادير كبيرة من الذهب والفضة والجواهر؛ وأعجبه فن العمارة في ذلك الضريح العظيم، ثم قدر أن بناء مثله يكلف مائة مليون دينار وعملاً متصلاً مدى قرنين، فأمر به أن يغمس في النفط، وأن يترك طعاماً للنار حتى أتت عليه.
وبعد ذلك بستة أعوام، أغار على مدينة غنية أخرى تقع في شمال الهند، وهي مدينة “سمنة” فقتل سكانها جميعاً وعددهم خمسون ألف نسمة، وحمل كنوزها إلى غزنة؛ ولعله في نهاية أمره قد أصبح أغنى ملك عرفه التاريخ؛ وكان أحياناً يبقي على سكان المدن المنهوبة ليأخذهم معه إلى وطنه فيبيعهم هناك رقيقاً، لكن هؤلاء الأسرى بلغوا من الكثرة حداً أدي بهم إلى البوار بعد بضعة أعوام، بحيث يتعذر أن تجد من يدفع أكثر من شلنات قليلة ثمناً للعبد من هؤلاء؛ وكان محمود كلما هم بعمل حربي هام، جثا على ركبتيه مصلياً يدعو الله أن يبارك له في جيشه؛ وظل يحكم ثلث قرن، فلما جاءته منيته، كان قد أثقلته السنون ودواعي الفخار، فوصفه المؤرخون المسلمون بأنه أعظم ملوك عصره، ومن أعظم الملوك في كل العصور”.
قطب الدين أيبك..
ويعود يقارن الكتاب بين نهب الممالك الصغيرة لخيرات الهند واصفا الفتح الإسلامي بذلك أيضا: “فلما رأى سائر الحكام المسلمين ما خلعه التوفيق من جلال على هذا اللص العظيم، حذوا حذوه، ولم يستطيع أحد منهم أن يبزه في خطته؛ ففي عام 1186م قامت قبيلة تركية من الأفغانستان، وهي قبيلة الغوريين، بغزو الهند والاستيلاء على دلهي، وخربوا معابدها وصادروا أموالها ونزلوا بقصورها ليؤسسوا لأنفسهم بذلك سلطنة دلهي – وهي سلطنة استبدادية وفدت إلى البلاد من خارج، وجثمت على شمالي الهند ثلاثة قرون، لم يخفف من عبئها إلا حوادث الاغتيال والثورة.
وكان أول هؤلاء السلاطين الأشرار هو “قطب الدين أيبك” الذي يعد نموذجاً سوياً لنوعه، فهو متهوس في تعصبه غليظ القلب لا يعرف الرحمة؛ ويروي لنا عنه المؤرخ المسلم فيقول أن عطاياه “كانت توهب بمئات الألوف، وقتلاه كانوا كذلك يعدون بمئات الألوف ففي قصر واحد ظفر به هذا المحارب “الذي كان قد بيع عبدا” وضع في أغلال الرق 50 ألف رجل واسودت بطاح الأرض بالهنود”.
بلبان..
ويكمل عن ملوك آخرين: “وكان “بَلْبان”، وهو سلطان آخر، يعاقب الثائرين وقطاع الطرق برميهم تحت أقدام الفيلة، أو ينزع عنهم جلودهم، ثم يحشو هذه الجلود بالقش ويعلقها على أبواب دلهي؛ ولما حاول بعض السكان المنغوليين الذين كانوا قد استوطنوا دلهي واعتنقوا الإسلام، أن يقوموا بثورة، أمر السلطان علاء الدين (فاتح شيتور) بالذكور جميعاً، ويقع عددهم بين خمسة عشر ألفاً وثلاثين ألفاً، فقتلوا في يوم واحد.
وجاء السلطان “محمود بن طغلق” فقتل أباه وتولى العرش من بعده، وقد أصبح في عداد العلماء الأعلام والأدباء أصحاب الأسلوب الرشيق، فدرس الرياضة والطبيعة والفلسفة اليونانية، ولكنه مع ذلك بز أسلافه في سفك الدماء وارتكاب الفظائع، من ذلك أنه جعل من ابن أخ له ثار عليه طعاماً أرغم زوجة القتيل وأبناءه على أكله؛ وأحدث في البلاد تضخماً مالياً باستهتاره فجلب الدمار إلى البلاد، وتركها خراباً بما أجراه فيها من نهب وقتل.
حتى لقد لاذ سكانها بالفرار إلى الغابات، ولقد أوغل في قتل الهنود حتى قال عنه مؤرخ مسلم: “إن أمام رواقه الملكي وأمام محكمته المدينة لم يخل المكان قط من أكداس الجثث، حتى لقد مل الكناسون والجلادون، وأتعبهم جر الأجساد، أجساد الضحايا، لأعمال القتل فيهم زرافات”؛ ولما أراد أن ينشئ عاصمة جديدة في “دولة أباد” أخرج سكان دلهي من بلدهم لم يبق منهم أحداً، وخلف المدينة قفراً يباباً؛ وسمع أن رجلاً أعمى قد ظل مقيماً في دلهي، فأمر به أن يجر على الأرض من العاصمة القديمة إلى العاصمة الجديدة، ولما بلغوا بالمسكين آخر رحلته لم يكن قد بقى من جسده إلا ساق واحدة، وشكا السلطان من نفور الشعب منه وعدم اعترافهم بعدله الذي لم ينحرف عن جادة السبيل. وظل يحكم الهند ربع قرن ثم وافته منيته وهو في فراشه”.
“فيروز شاه”..
وعن ملك يدعى “فيروز شاه” يتابع: “وتبعه “فيروز شاه” فغزا البنغال، ووعد أن يكافئ كل من جاءه برأس هندي، حتى لقد دفع في ذلك مكافآت عن مائة وثمانين ألفاً من الرؤوس، وأغار على القرى الهندية طلباً للرقيق، ومات وهو شيخ معمر، بلغ من العمر ثمانين عاماً؛ وجاء السلطان احمد شاه، فكان يقيم الحفلات ثلاثة أيام متوالية كلما بلغ القتلى في حدود ملكه من الهنود العزل عشرين ألفاً في يوم واحد.
وكثيراً ما كان هؤلاء الحكام رجالاً ذوي قدرة، كما كان أتباعهم يمتلئون بسالة جريئة ونشاطاً؛ وبغير هذا الفرض فيهم لا نستطيع أن نفهم كيف أتيح لهم أن يصونوا ملكهم وسط شعب معاد لهم ويفوقهم عدداً بنسبة كبيرة؛ وكانوا جميعاً مسلحين بعقيدة دينية حربية النزعة لكنها أسمى بكثير في توحيدها الجاد من كل المذاهب الدينية الشائعة إذ ذاك في الهند؛ ولقد عملوا على طمس ما لعقيدتهم تلك من ظاهر جذاب، بأن أرغموا الهنود على عدم القيام بشعائر دينهم علناً، وبهذا مهدوا للهنود طريق الانغماس في صميم الروح الهندية إلى أعماقها.
وكان لبعض هؤلاء الحكام المستبدين العطشى للطغيان ثقافة إلى جانب ما كان لهم من قدرة، فرعوا الفنون وهيئوا سبل العيش لرجال الفن والصناعة، وهؤلاء عادة من أصل هندي، بأن استخدموهم في بناء المساجد والأضرحة الفخمة؛ وكذلك كان بعضهم علماء يمتعهم أن يحاوروا المؤرخين والشعراء ورجال العلوم؛ ولقد صحب محموداً الغزنوي إلى الهند عالم من أعظم علماء آسيا، وهو البيروني وهناك كتب استعراضاً علمياً عن الهند قريب الشبه بكتاب “التاريخ الطبيعي” لمؤلفه “بِلْني” و كتاب “الكون” “الهمبولت” وكان للمسلمين مؤرخون يكادون يبلغون عدد ما كان لهم من قادة الجيش، ولم يقلوا عنهم في حبهم لسفك الدماء والحرب”.
إضعاف الروح المعنوية..
ورأي الكتاب أن الحكام المسلمين اضعفوا الروح المعنوية بين الهنود: “وأما السلاطين فقد ابتزوا من الشعب كل ما في مستطاع الناس أن يدفعوه من مال على سبيل الجزية، واصطنعوا في ذلك الوسائل العتيقة في فرض الضرائب، كما لجاءوا أيضا إلى السرقة الصريحة، لكنهم كانوا يقيمون في الهند وينفقون غنائمهم تلك في الهند، فأعادوا إلى الحياة الاقتصادية في الهند ما استلبوه منها؛ ومهما يكن من أمر فقد كانت وسائلهم الإرهابية واستغلالهم للناس مما زاد من إضعاف البنية الهندية وإضعاف الروح المعنوية بين الهنود، وهو إضعاف عمل عليه قبل ذلك مناخ البلاد المنهك للقوى وقلة ما يأكلونه من طعام، وتمزق البلاد من الوجهة السياسية والنظرة المتشائمة التي توحي بها دياناتهم”.
سياسة السلاطين..
ويواصل عن سياسة هؤلاء السلاطين: “وقد رسم علاء الدين تخطيطاً واضحاً للسياسة التي جرى عليها السلاطين في معظم الأحيان، وذلك أنه طلب إلى مستشاريه أن يسنوا “قواعد وقوانين يكون من شأنها أن تسحق الهنود سحقاً، وأن تسلبهم تلك الثروة وهاتيك الكنوز التي كانت تولد في نفوسهم البغضاء والثورة”؛ فكانت الحكومة تستولي على نصف مجموع المحصول الزراعي، بعد أن كان الحكام الوطنيون قبل ذلك يستولون من ذلك المحصول على سدسه فقط؛ يقول مؤرخ مسلم: “لم يستطيع هندي أن يرفع رأسه، ولم تكن لترى في دورهم أثراً لذهب أو فضة. بل لم تكن لترى هناك شيئاً مما يزيد عن ضرورات الحياة. وكانوا يجبرون على دفع الضريبة باللطمات وتقييد الأقدام والشد بالأغلال والزج في السجن”، وكان علاء الدين إذا ما احتج مستشاريه على سياسته هذه، أجابه بقوله: “أيها الفقيه، إنك متبحر في العلم لكنك خلو من الخبرة، أما أنا فلا علم عندي لكني رجل محنك؛ فكن على يقين أن الهنود لن يذلوا أو يطيعوا حتى ننزل بهم الفقر، ولهذا أصدرت أمري بألا يترك في أيديهم إلا الضروري لحفظ الحياة مما يجمعونه عاماً بعد عام من محصول الغلال واللبن والجبن، وألا يسمح لهم قط بادخار الأموال والأملاك”.
وفي هذا سر التاريخ السياسي للهند الحديثة؛ فقد مزقها الانقسام حتى جثت أمام الغزاة ثم أفقرها هؤلاء الغزاة فأفقدوها قوة المقاومة، فاستجارت من هذا البلاء بعزاء في الحياة الآخرة، ومن هنا راحوا يؤمنون بأن السيادة والعبودية كلاهما وهم زائل، ويعتقدون بأن حرية البدن أو حرية الأمة لا تكادان تستحقان الجهاد في مثل هذه الحياة القصيرة؛ والعبرة المرة التي نستخلصها من هذه المأساة هي أن اليقظة الساهرة أبداً هي ضمان دوام المدنية؛ فالأمة ينبغي أن تحب السلام، لكنها يجب أن تكون دوماً على أهبة الاستعداد للقتال”.