خاص: قراءة- سماح عادل
يحكي الكتاب عن مملكة “فيجاياناجار” التي ازدهرت في العصر الوسيط في الهند، وكيف تميزت بالثراء الفاحش، وازدهار الأدب وكيف تم تدميرها. وذلك في الحلقة الواحد والستين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الهند في العصر الوسيط..
انتقل الكتاب للحكي عن الحضارة الهندية بعد دخول المسلمين: “كلما تقدم المسلمون في الهند تراجعت الحضارة الهندية نحو الجنوب خطوة بعد خطوة، حتى إذا ما دنت هذه العصور الوسطى من ختامها، كانت الدكن قد باتت بين أرجاء الهند تنتج أسمى ما تنتجه الحضارة الهندية؛ وكانت قبيلة “شاليوكا” قد استطاعت أن تكوّن نفسها مملكة مستقلة لبثت قائمة حيناً من الدهر، تمتد عبر الهند الوسطى، وكان لها من القوة والمجد في عهد “بولاكشين الثاني” ما تمكنت به من أن تهزم “هارشا” وأن تجذب إليها “يوان تشوانج” وأن تظفر من “خسرو الثاني” ملك الفرس بسفارة محترمة.
وكذلك تمت في عهد “بولاكشين” وفي أرض مملكته أعظم التصاوير الهندية، وأعني بها نقوش أجانتا؛ ثم أسقط “بولاكشين” عن عرشه ملك الفلاويين الذي لبث حيناً قصيراً أعظم قوة في الهند الوسطى؛ وأما في أقصى الجنوب فقد أقام “البانداويون” ملكاً في عهد مبكر يقع في القرن الأول الميلادي، ويشتمل “مِدْراس” و “تِنِفلي” وبعض أجزاء” ترافانكور””.
في العصر الوسيط..
ويواصل عن الهند في العصر الوسيط: ” وقد جعلوا من مدينة “مادورا” بلداً من أجمل بلدان الهند في العصر الوسيط وزينوها بمعبد شامخ وبمئات من الآثار المعمارية الفنية الصغرى؛ ودار الزمن دورته فإذا هم كذلك يُشَّل عرشهم على أيدي “الكوليين” أولا ثم على أيدي المسلمين بعد ذلك؛ فأما “الكوليّون” فقد بسطوا سلطانهم على الجزء الواقع بين “مادورا” و”مِدْراس” ومن ثم مدوا أرجاءه تجاه الغرب إلى “ميسور”.
ويمتد تاريخهم إلى عهد بعيد في القِدَم، إذ ترى اسمهم مذكوراً في مراسيم “أشوكا”، لكننا لا ندري عنهم شيئاً حتى القرن التاسع حين بدئوا شوطاً طويلاً تملؤه الغزوات التي جاءتهم بأموال الجزية من الهند الجنوبية كلها بما في ذلك جزيرة سيلان؛ ثم اضمحل سلطانهم وانطووا تحت حكم أعظم الدويلات الجنوبية، وهي دولة “فيجاياناجار””.
“فيجاياناجار”..
ويضيف عن مثل للمجد: “أن “فيجاياناجار” وهو اسم يطلق على مملكة وعلى عاصمتها معاً مَثلٌ حزين يساق للمجد الذي يعفى عليه النسيان؛ وقد كانت في أيام عزها تشتمل على الدويلات التي يحكمها الأهلون اليوم في جنوبي شبه الجزيرة، كما تشتمل على ميسور وعلى اتحاد مِدْراس بكل أجزائه؛ وحسبك إذا أردت أن تتصور ما كان لها من سلطان وثراء، أن تتذكر أن ملكها “كرشنارايا” زحف إلى موقعة تاليكونا بجيش قوامه 000ر703 من المشاة، و 600ر32 من الفرسان، و 551 فيلاً، يصحبهم ما يقرب من مائة ألف من التجار والبغايا وغير هؤلاء وأولئك ممن كانوا يصحبون معسكرات الجند في ذلك العصر إذا ما زحف الجيش في غزواته، ولقد حد من أوتوقراطية الملك قدر من الاستقلال الذاتي تمتعت به القرى، كما حد منها كذلك ملوك كانوا يظهرون آناً بعد آن، يتميزون عن سواهم بعقولهم المستنيرة وقلوبهم الرحيمة”.
“كرشنارايا”..
وعن حاكم تلك المملكة يوضح: “ولك أن تقارن “كرشنارايا” الذي حكم “فيجاياناجار” بمعاصرة هنري الثامن مقارنة ستكشف لك عن تفوقه على هنري الثامن الذي ما فتئ محباً للنساء لأنك سترى فيه ملكاً أنفق حياته في العدل والرحمة، وبسط كفه بالإحسان الغزير. وتسامح إزاء الديانات الهندية، وكان له شغف بالآداب والفنون فأيدها، وكان كريماً مع من سقط في يديه من أعدائه فعفا عنهم ولم يمس مدنهم بسوء، وانصرف بجهده كله حتى الإفراط، إلى شئون الحكم، ولقد كتب مبشر برتغالي- هو دومنجوزبيز سنة 1522م- فوصفه بقوله:
“إنه بلغ أقصى ما يمكن لملك أن يبلغه من الهيبة والكمال وهو ذو مزاج بهيج وشديد المرح، ومن صفاته أنه لا يألو جهداً في تكريم الأجانب وفي الحفاوة بهم … إنه حاكم عظيم ورجل يغلب على أخلاقه العدل، ولكنه يثور بالغضب فجأة حيناً بعد حين … وهو بحكم منزلته أسمي منزلة من سائر الحاكمين، لما له من جيوش وسعة سلطان، لكنه فيما يبدو لم يكن في واقع الأمر يحظى بما كان ينبغي لرجل في مثل مكانته أن يحظى به؛ فهو من الشهامة والكمال في كل شيء بمكان”.
وربما كانت العاصمة التي تأسست سنة 1336م أغنى مدينة عرفتها الهند حتى ذلك الزمان؛ زارها “نيكولوكونتي” حول سنة 1420م فقدر محيطها بستين ميلاً، ووصفها “بيز” فقال إنها “في اتساع روما وتراها العين فترى جمالاً خلاباً” ثم أضاف إلى ذلك قوله: “إن بها أحراشاً كثيرة من الشجر وقنوات مائية عدة” ذلك لأن مهندسيها قد أقاموا سداً ضخماً على نهر تنجابادرا وأنشئوا بذلك خزاناً ينتقل الماء منه إلى المدينة بقناة طولها خمسة عشر ميلاً، وقد كان الخزان منحوتاً في صخر أصم مدى عدة أميال؛ وقال “عبد الرزاق” الذي شهد المدينة سنة 1443م أن فيها “ما لم تر مثيله في أي جزء من أجزاء العالم عين ولا سمعت بمثيله أذن” واعتبرها “بيز” “أوفر بلاد الدنيا مؤونة… ففيها من كل شيء وفرة” ويروى لنا أن عدد دورها قد أربى على مائة ألف، يسكنها نصف مليون من البشر، وتراه يدهش لقصر من قصورها كانت فيه غرفة بنيت كلها من العاج؛ “إنها من الثراء والجمال بحيث يكاد يستحيل أن تجد لها ضريباً في أي مكان آخر”.
تناقض بين غنى وفقر..
وعن التناقض بين الغنى الفاحش والفقر يشرح الكتاب: “ولما تزوج “فيروز شاه” سلطان دلهي من ابنة ملك “فيجاياناجار” في عاصمة هذا الأخير، فرشت الطرقات لمسافة ستة أميال بالمخمل والحرير ورقائق الذهب وغير ذلك من المواد النفيسة، لكن أذكر مع ذلك أن كل رحالة كذاب.
وإذا ما نفذت ببصرك وراء هذا الستار من الغنى، وجدت شعباً من عبيد وفعلة يعيشون في مسبغة وخرافة، ويخضعون لتشريع اصطنع القسوة الوحشية ليصون بين الناس ضرباً منشوداً من ضروب الأخلاق التجارية، فكان العقاب يتراوح بين قطع الأيدي أو الأقدام وقذف المذنب إلى الفيلة وجذ رأسه ووضعه حياً على قضيب مدبب ينفذ خلال معدته، أو تعليقه على مشبك من أسفل ذقنه وتركه هكذا حتى يموت، وهذه العقوبة الأخيرة كانت تنزل بالمغتصب أو بالسارق الذي يمعن في سرقته؛ وكان البغاء مسموحاً به، تنظمه القوانين بحيث تجعل منه مورداً من موارد العرش، ويقول (عبد الرزاق) إنه رأى “أمام دار السكة ديوان عميد المدينة الذي قيل عنه أنه يهيمن على اثني عشر ألفاً من رجال الشرطة، الذين تدفع لهم رواتبهم . مما يجبى من مواخير البغاء، وإنه لمما يعز على الوصف تصوير فخامة هذه الدور وجمال آهلاتها من الفاتكات بالقلوب، وما لهن من فتنة الحديث وحلاوة الغزل”، وقد كان للمرأة عندهم منزلة دنيا، وكان عليها أن تقتل نفسها عند وفاة زوجها، فكانوا يتركونها أحياناً تلقي بنفسها حية في القبر”.
الأدب..
ويضيف عن ازدهار الأدب: “ازدهر الأدب في عصر “ملوك الرايا”، أي ملوك فيجاياناجار، ازدهر مكتوباً بالسنسكريتية القديمة وبلهجة “تلوجو” التي ينطق بها أهل الجنوب؛ وكان “كرشنارايا” نفسه شاعراً كما كان راعياً سخياً للآداب، وإنهم ليضعون أمير شعرائه “آلاساني بدانا” في الرعيل الأول من شعراء الهند كلها.
وكذلك ازدهر التصوير وفن العمارة، فشيدت المعابد الضخمة، وزينت في كل جزء من أجزائها تقريباً بالتماثيل والنقوش البارزة؛ وكانت البوذية قد فقدت سلطانها على الناس، وحل محلها ضرب من البراهمية التي تقدس “فشنو” قبل تقديسها لغيره من الآلهة، وكانت البقرة عندهم مقدسة فلا تمتد إليها أيديهم بالذبح، ولهم أن يقدموا للآلهة قرابين من ضروب الماشية الأخرى ومن الطيور الداجنة، كما كان لهم أن يأكلوا لحوم هذه الصنوف؛ وبالجملة كان الدين قاسي الأحكام على حين كانت أخلاق التعامل بين الناس على شيء من التهذيب”.
الأفول..
وعن أفول تلك المملكة يتابع الكتاب: “لكن هذا السلطان كله وهذا الترف كله قد انمحى بين عشية وضحاها، وأخذ المسلمون الغزاة يشقون طريقهم رويداً رويداً بين الجنوب، وتحالف سلاطين “بيجابور” و”احمد ناجار” و”جولكوندا” و”بدار” فركزوا قواهم جميعاً ليخضعوا هذا المعقل الأخير الذي تحصن فيه ملوك الهند الوطنيون، والتقت جيوشهم المتحالفة بجيش “راماراجا” الذي يبلغ عدده نصف المليون في موقعة “تاليكوتا” وكان الغلب للمغيرين بسبب كثرة عددهم، ووقع “راماراجا” في الأسر وقطع رأسه على مرأى من أتباعه، فدب الرعب في أنفس هؤلاء الأتباع ولاذوا بالفرار.
لكن عدداً يقرب من مائة ألف منهم قتل في طريق الفرار حتى اصطبغت بدمائهم مجاري الماء؛ وراح الجنود الفاتحون ينهبون العاصمة الغنية، وكانت الغنائم من الكثرة بحيث “أصبح كل جندي بسيط من جنود الجيوش المتحالفة غنياً بما ظفر به من ذهب ومجوهرات ومتاع وخيام وسلاح وجياد ورقيق” ودام النهب خمسة أشهر، جعل الظافرون خلالها يفتكون بمن لا حول لهم من الأهالي في وحشية لا تفرق بين إنسان وإنسان، وراحوا يفرغون المخازن والدكاكين، ويقوضون المعابد والقصور، وبذلوا ما استطاعوا من جهد لإتلاف كل ما تحويه المدينة من تماثيل وتصاوير؛ وبعدئذ جاسوا خلال الشوارع يحملون المشاعل الموقدة فيشعلوا النار في كل ما يصلح وقوداً للنار، حتى إذا ما غادروا المدينة آخر الأمر، كانت “فيجاياناجار” قد باتت خراباً بلقعاً كأنما زلزل زلزلها فما أبقي منها حجراً على حجر؛ وهكذا كان الدمار فضيعاً لم يُبْق على شيء، يصوّر أدق تصوير غزو المسلمين للهند، ذلك الغزو الشنيع الذي كان قد بدأ قبل ذلك بألف عام، وبلغ حينئذ ختام مراحله”.