17 نوفمبر، 2024 7:31 ص
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (58): نشر أشوكا تعاليم البوذية السمحة خارج الهند

قصة الحضارة (58): نشر أشوكا تعاليم البوذية السمحة خارج الهند

 

خاص: قراءة- سماح عادل

يحكي الكتاب عن دولة “أشوكا” الذي خلف الملك القوي الذي أسس دولة قوية في الهند، وتحوله إلى البوذية، وفرضها فرضا على الهنود كافة، بل ونشرها خارج حدود الهند، وانقلاب الشعب عليه رغم سعيه إلى نشر السلام والتسامح. وذلك في الحلقة الثامنة والخمسين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

الملك الفيلسوف..

انتقل الكتاب الى الحديث عن “أشوكا” الملك الذي صار على نهج جده في القوة: “كان الذي خلف “تشاندرا جوبتا” في الحكم هو “بندوسارا” وهو رجل ذو نزعات عقلية لا تخفى؛ فيقال إنه طلب إلى “أنتيخوس” ملك سوريا أن يبعث إليه بفيلسوف إغريقي، وكتب إليه قائلاً إنه على استعداد أن يدفع ثمناً عالياً لفيلسوف إغريقي من الطراز الصحيح ولكن “أنتيخوس” لم يستطيع إلى إجابة الطلب سبيلاً، لأنه لم يجد فيلسوفاً يونانياً معروضاً للبيع؛ ثم شاءت المصادفة أن تعوض “بندوسارا” خيراً، فجعلت له من ابنه فيلسوفاً.

وتولى “أشوكا فارذانا” العرش سنة 273 ق.م فوجد أنه يشمل بسلطانه إمبراطورية أوسع رقعة من أي قطر حكمه في الهند حاكم من قبله: فهو يشمل أفغانستان وبلوخستان، وكل الهند الحديثة إلا طرفها الجنوبي- وهي ما يسمى “بأرض تامِلْ”؛ ولبث حيناً من الدهر يحكم على غرار جده “تشاندرا جوبتا”، أي لبث يحكم بلاده في قسوة، لكنه يحكمها حكماً جيداً.

فيحدثنا “يوان تشوانج” الرحالة الصيني الذي أنفق أعواماً طوالاً في الهند إبان القرن السابع الميلادي، بأن السجن الذي كان قائماً في عهد “أشوكا” شمالي العاصمة، لم يزل يذكره الناس في الهند جيلاً عن جيل باسم “جحيم أشوكا”؛ إذ أنبأه المنبئون أن كل أنواع العذاب والتعذيب التي تشتمل عليها الجحيم الحقيقية، قد استعملت فعلاً في ذلك السجن عقاباً للمجرمين، بل إن الملك قد أضاف إلى تلك الأنواع التقليدية من عذاب الجحيم، مرسوماً بأن كل من يدخل ذلك الجب المخيف، لا يجوز له قط أن يخرج منه حياً”.

ويواصل الكتاب عن تحول آشوكا: “ولكن حدث ذات يوم أن ألقي في ذلك السجن قديس بوذي بغير أن يكون هناك ما يبرر ذلك السجن، فقذفوا به في إناء كبير فيه ماء ساخن، فأبى الماء أن يغلي بما فيه؛ فأرسل السجان بالنبأ إلى “أشوكا”، وجاء “أشوكا” ورأى وأخذه العجب؛ ولما استدار الملك ليأخذ طريقه إلى خارج السجن، ذكره السجان بأمره، قائلاً إنه لا يجوز له أن يغادر السجن حياً؛ فحزت هذه الملاحظة في نفس الملك بقوتها، وأمر بالسجان أن يقذف في إناء الماء الساخن.

ويقال أن “أشوكا” لما وصل إلى قصره، نال من نفسه انقلاب عجيب؛ وأمر من فوره أن يهدم السجن وأن يخفف قانون العقوبات؛ وفي نفس الوقت جاءه النبأ بأن جنوده قد ظفروا بانتصار باهر على قبيلة “كالنجا” الثائرة، وأنهم قد فتكوا بآلاف من الثائرين، وأسروا منهم عدداً كبيراً؛ فجعل “أشوكا” عندئذ يعاني لذعات ضميره كلما طاف برأسه كل هذا “العنف والتقتيل وإبعاد الأسرى عن ذويهم “فأمر أن يطلق سراح الأسرى، ورّد إلى قبيلة “كالنجا” أرضها، وأرسل إلى أهلها اعتذار لم يسبق له في التاريخ مثيل، ولم يقلده من بعده إلا القليل”.

أشوكا والبوذية..

ويضيف عن التحاقه بالبوذية: “وبعدئذ التحق بالطائفة البوذية، ولبس مسوح الرهبان حيناً، وأبطل الصيد وأكل اللحم، واصطنع “السبيل الشريفة ذات الإرشادات الثمانية”. وإنه ليستحيل علينا الآن أن نقول كم من هذه الأنباء قد اختلقه الخيال اختلاقاً؛ وكم منها تاريخ صحيح، كما يستحيل علينا- والشقة بيننا وبين ذلك العهد بهذا البعد- أن نرى الدوافع التي حفزت الملك إلى ما فعل؛ فيجوز أنه رأى البوذية تتسع انتشاراً، وظن أن تعاليمها من تسامح وهدوء تصلح تشريعاً مفيداً لشعبه، فتوفر على الدولة عدداً لا يحصى من رجال الشرطة”.

 مرسومات الصخور..

وعن أامر شهيرة أًصدرها يذكر الكتاب: “وفي العام الحادي عشر من حكمه، أخذ يصدر مرسومات هي أعجب ما عرفناه في تاريخ الحكومات؛ وأمر أن تنقش هذه المرسومات على الصخور وعلى الأعمدة في عبارة بسيطة وباللهجات التي يفهمها الناس، حتى يتسنى لكل هندي يعرف القراءة أن يفهم فحواها؛ ولقد عثرنا على “مرسومات الصخور” في كل جزء من أجزاء الهند تقريباً؛ وما تزال عشرة أعمدة باقية في مكانها، وعرفنا أماكن عشرين أخرى.

وتقرأ هذه المرسومات فتجد أن الإمبراطور يوافق على العقيدة البوذية بحذافيرها، ويطبقها في شأن من شئون الناس هو آخر ما تتوقع لها أن تطبق فيه وأعني السياسة؛ وشبيه بهذا أن تعلن إمبراطورية حديثة فجأة أنها صممت منذ الآن فصاعداً أن تتبع المسيحية في سياستها.

وعلى الرغم من أن هذه المرسومات بوذية العقيدة، فهي لا تبدو لنا دينية خالصة؛ فهي تفرض وجود حياة آخرة، وبهذا ترى كيف أنه لم يلبث تشكك بوذا أن زال ليحل محله عند أتباعه إيمان، لكنها إلى جانب ذلك لا تورد في نصوصها عبارة تدل على العقيدة بإله مشخص، بل لا تذكر الله في نصوصها إطلاقاً، كلا، ولا هي تذكر كلمة واحد عن بوذا.

فهذه المرسومات لا تعنى باللاهوت؛ فمرسوم “سارنات” يطالب الناس بالسير على مقتضى قواعد الدين، ويضع عقوبات لمن يشقون عليها عصا الطاعة، أما سائر المرسومات فهي لا تنى تذكر مرة بعد مرة ضرورة التسامح الديني؛ فعلى المرء أن يحسن إلى كهنة البراهمة كما يحسن إلى كهنة البوذيين سواء بسواء؛ ولا ينبغي لأحد أن يسيء بالقول إلى عقيدة من العقائد؛ ويعلن الملك أن كل أفراد شعبه هم بمثابة أبنائه الذين يحنو عليهم، فهو لن يفرق بينهم بسبب اختلافهم في العقيدة.

فهذا هو “مرسوم الصخر” رقم 12 يتحدث بما يكاد أن يكون معاصراً لنا من حيث سداد رأيه:

“إن جلالة الملك المقدس الرحيم يقدم إجلاله للناس من شتى المذاهب، سواء في ذلك الزاهدون أو أصحاب الأسر، وهو يقدم إجلاله هذا بالهدايا وغيرها من مختلف ألوان التوقير.

على أن جلالة الملك المقدس لا تعنيه كثيراً هذه الهدايا وهذا التوقير الظاهر، بقدر ما يعنيه أن ينمو في كل هذه العقائد لبها وجوهرها؛ ونمو هذا الجوهر وذلك اللب إنما يكون بطرائق شتى، لكن أساسها جميعاً هو ضبط اللسان عن الكلام، وأعني بذلك ألا يبجل المرء عقيدته وألا يحط من شأن عقيدة غير عقيدته إلا بما يمليه العقل؛ إن الحط من شأن العقائد الأخرى لا ينبغي أن يكون إلا لأسباب عقلية معينة، ذلك لأن عقائد الناس على اختلافها جديرة بالاحترام لهذا السبب أو ذاك. وبمثل هذا التصرف، يرفع المرء من عقيدته، وينفع في الوقت نفسه سائر العقائد؛ وبالتصرف المضاد لهذا، يؤذي المرء عقيدته ويضر عقائد الناس. إن انسجام الأفراد أمر عظيم””.

قانون التقوى..

ويشرح الكتاب ما عرف بقانون التقوى: “هذا إلى أن “مرسوم العمود الثاني” يلقى لنا ضوءاً أكثر على المقصود من “جوهر الموضوع”، وهي العبارة التي وردت في المرسوم الذي ذكرناه الآن، إذ يقول: “إن قانون التقوى شيء جميل، لكن مم يتكون قانون التقوى؟ يتكون من هذه الأشياء: قليل من التقوى، وكثير من الأفعال الخيرة، والرحمة، والإحسان، والصدق، والصفاء”؛ ولكي يضرب “أشوكا” المثال لما يريد، أمر موظفيه في كل مكان أن ينظروا إلى الناس نظرتهم إلى أبنائه، وأن يعاملوهم بالصبر والحسنى، فلا يعذبوهم ولا يسجنوهم بغير مبرر معقول؛ وأمر موظفيه أن يقرءوا هذه الإرشادات قراءة دورية على الشعب.

فهل كان لهذه المرسومات الخلقية أثر كائناً ما كان في إصلاح سلوك الناس؟ يجوز أنها ساعدت على نشر فكرة “الأَهِمْسا”، وهي عدم قتل الحيوان، كما شجعت على الامتناع عن أكل اللحم وشرب المسكرات بين الطبقات العليا من أهل الهند؛ ويعتقد “أشوكا” اعتقاداً جازماً، شأنه في ذلك شأن المصلحين، أن لوعظه المنقوش على الحجر أبلغ الأثر؛ وهو يعلن في “مرسوم الصخر” رقم 4، أنه لمس بالفعل نتائج طيبة لمرسوماته، وربما أعان ملخصه على توضيح أساس مذهبه:

أما وقد اصطنع صاحب الجلالة المقدسة الرحيمة الملك أسباب التقوى في حياته، فقد سكتت أصداء طبول الحروب ليهتز الهواء بأصداء القانون، لقد امتنع الناس اليوم، بفضل قانون التقوى الذي سنه صاحب الجلالة المقدسة الرحيمة الملك، عن ذبح الكائنات الحية ليقدموها في قرابينهم، أكثر من امتناعهم عن ذلك من قبل؛ امتنعوا عن قتل الأحياء، وسلكوا إزاء أقربائهم سلوكاً فاضلاً، وكذلك إزاء البراهمة، وأصبحوا يستمعون لما يأمرهم به آباؤهم وأمهاتهم ومن هم أكبر منهم سناً؛ على هذا النحو، وعلى غيره من الأنحاء الكثيرة، ازداد إقبال الناس فوق هذه الزيادة. إن أبناء صاحب الجلالة المقدسة الرحيمة الملك، وأحفاده وأحفاد أحفاده، سيعملون على زيادة اصطناع الناس لقانون التقوى، زيادة تضطرد إلى يوم الدين””.

الديانة الجديدة..

وعن الجهود التي بذلها أشوكا لترسيخ الديانة الجديدة وضح الكتاب: “لكن الملك الصالح قد بالغ في تقوى شعبه وولاء أبنائه؛ أما هو نفسه فقد بذل مجهوداً عظيماً في سبيل الديانة الجديدة، فجعل من نفسه رئيساً للطائفة البوذية، وأجزل لها العطايا، وشيد لها ثمانية وأربعين ألفاً من الأديرة لرجالها وبنى باسمها في أرجاء مملكته كلها مستشفيات للإنسان والحيوان، وأرسل مبشرين بالعقيدة البوذية إلى أجزاء الهند جميعاً وإلى جزيرة سيلان.

بل أرسل هاتيك البعوث إلى سوريا ومصر واليونان، حيث يحتمل أن تكون قد هيأت الطريق هناك للأخلاق المسيحية، ولم يمض بعد وفاته إلا زمن قصير حتى غادرت بعوث المبشرين بلاد الهند ليعظ رجالها الناس بالتعاليم البوذية في التبت والصين ومنغوليا واليابان، وبالإضافة إلى هذا النشاط الديني، توجه “أشوكا” بحماسة نحو إدارة بلاده في شئونها الدنيوية؛ فكان يطيل من ساعات العمل في يومه، ولم تكن الحوائل لتحول بينه وبين معاونيه، فلهؤلاء أن يتصلوا به في شئون الدولة في أي ساعة شاءوا”.

أنانية أشوكا..

وعن أبرز عيوب أشوكا يتابع الكتاب: “ونقيصته البارزة هي الأنانية؛ فمن العسير أن تكون متواضعاً ومصلحاً في آن معاً؛ إن احترامه لنفسه يسطع في كل مرسوم من مراسيمه، مما يجعله أخاً “لمرقس أورليوس” في شتى الوجوه؛ ولم يستطع أن يدرك أن البراهمة كانوا يمقتونه، ويتربصون به الدوائر ليفتكوا به، كما فتك كهنة طيبة بإخناتون قبل ذلك بألف عام؛ ولم يقتصر مقته على البراهمة الذي اعتادوا ذبح الحيوان من أجل أنفسهم ومن أجل آلهتهم، بل جاوزهم إلى ألوف مؤلفة من الصيادين والسماكين الذين كرهوا المراسيم التي فرضت كل هذه القيود القاسية على قتل الحيوان؛ حتى الفلاحون أخذوا يجأرون بالشكوى من الأمر الصادر “بألا يحرق قش الغلال خشية أن تحترق معه الكائنات الحية الكامنة فيه”، فنصف الشعب في الإمبراطورية كان ينتظر موت “أشوكا” كما يرقب الإنسان تحقيق الأمل.

ويروي لنا “يوان تشوانج” أن رواة البوذيين يتناقلون النبأ بأن “أشوكا” في أخريات أعوامه، أكره على النزول عن عرشه، على يدي حفيده الذي فعل ما فعله بمعونة رجال البلاط؛ وحرم الملك كل سلطانه شيئاً فشيئاً، ووقف تيار الهدايا التي كان يمنحها للطائفة البوذية؛ بل إن ما كان يسمح به “لأشوكا” من أشياء، حتى الطعام، نقص مقداره، حتى بلغت به الحال أن أصبح نصيبه من الطعام في اليوم نصف ثمرة من ثمار “الأمالاكا”. ونظر الملك إلى نصف الثمرة نظرة حزينة، ثم أرسلها إلى إخوانه البوذيين قائلاً إنها كل ما يملك مما يستطيع تقديمه إليهم.

نهاية أشوكا..

وعن نهاية أشوكا يكمل الكتاب: “لكن حقيقة الأمر هي أننا لا ندري شيئاً عن أعوامه الأخيرة، بل لا ندري في أي سنة وافته منيته؛ ولم يمض بعد موته إلا مدى جيل واحد، حتى كانت إمبراطوريته، كإمبراطورية إخناتون، قد تقوض بنيانها. ذلك أنه لما تبين أن نفوذ العرش في مملكة “مجاذا” كانت تسنده قوة الدفع القديمة أكثر مما تدعمه إدارة قائمة على قوة الحاكم، فقد أخذت الدول التابعة له تعلن انسلاخها، دولة في إثر دولة، عن ملك الملوك في “باتاليبترا”.

نعم إن سلالة “أشوكا” لبثت تحكم “مجاذا” حتى القرن السابع الميلادي، لكن أسرة “موريا” الحاكمة التي أنشأها “تشاندرا جوبتا” بلغت ختامها حين قتل الملك “برهادراذا”، وأن ذلك لدليل على أن الدول لا تبقي على المثل العليا، إنما ينهض بنيانها على طبائع الناس.

مني “أشوكا” بالفشل السياسي، ولو أنه من ناحية أخرى قد أدى مهمة من أعظم المهام في التاريخ؛ ففي القرنين التاليين لموته، انتشرت البوذية في أرجاء الهند، وبدأت غزوها لآسيا غزواً لا تراق فيه الدماء؛ فإذا رأيت إلى يومنا هذا، وجه “جوتاما” الهادئ يأمر الناس من “كاندي” في سيلان إلى “كاماكورا” في اليابان، أن يعامل بعضهم بعضاً بالحسنى، وأن يحبوا السلام، فاعلم أنه مما أدى إلى ذلك أن حاكماً، وإن شئت فقل قديساً، كتب له يوماً أن يتربع على عرش الهند”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة