خاص: قراءة- سماح عادل
يحكي الكتاب عن “النرفانا” في الحضارة الهندية القديمة، وأسطورة بوذا منذ ولادته وحتى زهده وتقشفه واكتشافه لمفهوم سامي عن التخلي عن اللذة،. وذلك في الحلقة الرابعة والخمسين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
عقائد في مواجهة اللذة..
فسر الكتاب ظهور ديانتين او عقديتين من رجم الفلسفات المادية وفق التطور المجتمعي الهندي:”إنه لمن العسير على أبصارنا أن نرى عبر ألفين وخمسمائة عام ماذا كانت الظروف الاقتصادية والسياسية والخلقية التي استدعت ظهور ديانتين تدعوان إلى مثل ما تدعوا إليه الجانتية والبوذية من تقشف وتشاؤم؛ فمما لا شك فيه أن الهند كانت قد خطت خطوات فسيحة في سبيلها إلى الرقي المادي منذ استقر بها الحكم الآري؛ فبنيت مدائن عظيمة مثل “باتاليبُترا” و”فايشالي” وزادت الصناعة والتجارة من ثروة البلاد والثروة بدورها خلقت لطائفة من الناس فراغاً، ثم طَوَّر الفراغ العلم والثقافة، ومن الجائز أن تكون الثروة في الهند هي التي أشاعت فيها النزعة الأبيقورية المادية خلال القرنين السابع والسادس قبل الميلاد.
ذلك لأن الدين لا يزدهر في حياة تزدهر بالثراء، إذ الحواس في ظل الثراء تحرر نفسها من قيود الورع وتخلق من الفلسفات ما يبرر هذا التحرر؛ وكما حدث في الصين أيام كونفوشيوس، وفي اليونان أيام بروتاجوراس، ولن نذكر في الهند أيام بوذا، أن أدى الانحلال العقلي للديانة القديمة إلى شك وفوضى في الأخلاق، فالجانتية والبوذية، ولو أنهما مترعتان في ثناياهما بلون من الإلحاد الكئيب، الذي ساد ذلك العصر بعد أن زالت عن عينيه غشاوة الأحلام وأوهامها؛ إلا أنهما في الوقت نفسه كانتا بمثابة رد الفعل من جانب الدين في مقاومته لمذاهب اللذة التي أخذت بها طبقة من الناس حررت نفسها ونعمت في حياتها بالفراغ.
أسطورة بوذا..
انتقل الكتاب للحكي عن بوذا، الولادة والنشأة: “وتصف الرواية الهندوسية والد بوذا، شُدْ ذُوذانا، بأنه رجل غمس نفسه في الحياة، وهو من أبناء عشيرة “جواتاما” التي تنتسب إلى قبيلة “شاكيا” المُدِلَّة بنفسها؛ كان أميراً أو ملكاً على “كابيلافاستو” عند سفح الهمالايا؛ ولكننا في حقيقة الأمر لا نعرف شيئاً عن بوذا معرفة اليقين؛ فلو رأيتنا قد قصصنا عليك هاهنا القصص التي تجمعت حول اسمه، فليس ذلك لأنها تاريخ نريد إثباته، ولكننا نرويها لأنها جزء ضروري من الأدب الهندي والديانة الآسيوية.
ويحدد العلماء مولد بوذا بعام يقرب من سنة 563 ق.م. ثم لا يستطيعون أن يضيفوا إلى ذلك شيئاً، فتتناول الأساطير بقية قصته، وتكشف لنا عن الغرائب التي قد تحدث حين تحمل الأمهات بأعلام الرجال، فيذكر لنا سفر من أسفار “جاتاكا”. أنه في ذلك الوقت:
“في مدينة كابيلافاستو” أعلن عن الاحتفال بالبدر؛ وبدأت الملكة “مايا” قبل موعد البدر بسبعة أيام تقيم حفلاتها بالعيد دون أن تقدم فيها المسكرات، مكتفية بما أغرقت به ولائمها من أكاليل الزهور والعطور؛ وفي اليوم السابع، يوم اكتمال البدر، استيقظت مبكرة واستحمت في ماء عبق بالعطر، وأحسنت للفقراء بأربعمائة ألف قطعة من النقد؛ ولما أخذت زخرفها وازينت، جلست تأكل طعامها من أطيب الطعام، وقطعت على نفسها عهود “أبوساذا” ثم دخلت مخدعها الرسمي المزدان، واستلقت على سريرها، فأخذها النعاس ورأت هذا الحلم:
رأت أربعة ملوك عظماء يرفعونها في سريرها ويأخذونها إلى جبال الهمالايا ويضعونها على هضبة مانوسيلا.. ثم رأت ملكات هؤلاء الملوك الأربعة، يأتين إليها فيأخذنها إلى بحيرة أنوتانا، ويغمسنها في الماء ليزلن عنها الصبغة البشرية، ويلبسنها أردية سماوية ويعطرنها بالعطور ويزينها بالزهور القدسية؛ ولم يكن على مبعدة منها أن رأت جبلاً من فضة وعليه قصر من ذهب؛ وهنالك أعددن لها سريراً إلهياً رأسه إلى الشرق، وأرقدنها عليه.
وهاهنا انقلب “بوذيساتاوا” فيلاً أبيض؛ وكان على مقربة من المكان جبل من ذهب، فلما أن بلغه هبط منه إلى جبل الفضة آتياً إليه من جهة الشمال، وفي جعبته التي أشبهت حبلاً من فضة، كان يحمل زهراً أبيض من زهور اللوتس؛ وبعدئذ نفخ في الصور ودخل قصر الذهب ودار تجاه اليمين دورات ثلاثاً حول سرير أمه، ثم ضرب جنبها الأيمن وظهر لها كأنه يدخل رحمها؛ وبهذا تلقى… حياة جديدة.
واستيقظت الملكة في اليوم التالي وروت حلمها للملك؛ فدعا الملك إلى حضرته أربعة وستين من أعلام البراهمة، وخلع عليهم خلع التكريم وأشبعهم طعاماً فاخراً وقدم إليهم الهدايا؛ فلما أن رضيت نفوسهم بهذه اللذائذ كلها، أمر بالحلم أن تقص عليهم قصته، واستفسرهم ما يكنه الغيب، فقال البراهمة: لا يأخذنك الهم أيها الملك، فقد حملت الملكة، حملت ذكراً لا أنثى، وسيكون لك ابن؛ ولو سكن ذلك الولد بيتاً فسيكون ملكاً، سيكون ملكاً على الدنيا بأسرها، وأما إن ترك داره وخرج من أحضان العالم، فسيصبح بوذا، وسيكون في هذا العالم رافع الغشاوة عن أعين الناس (غشاوة الجهل)”.
ويضيف: “وحملت الملكة “مايا” “بوذيساتاوا” عشرة أشهر كأنه الزيت في القدح، ولما أن جاءها أو أنها رغبت في الذهاب إلى بيت أهلها، ووجهت الخطاب إلى الملك “شدذوذانا” قائلة: “أريد أيها الملك أن أذهب إلى “ديفاداذا” مدينة أسرتي” فوافق الملك وأمر بالطريق من “كابيلا فاستو” إلى “ديفاداذا” أن يمهد وأن يزين بأصص النبات، وبالرايات والأعلام، وأجلسها في هودج من ذهب يحمله ألف من رجال البلاط، وأرسلها إلى بيت أهلها في حاشية كبيرة؛ وبين البلدين حرج يملكه أهل المدينتين جميعاً، هو حرج يمرح فيه الناس يتألف من أشجار “الملح” ويسمى “حرج لمبيني”، وكان الحرج إذ ذاك كتلة واحدة من الزهر الذي يغطي الأشجار من جذورها إلى رؤوسها. فلما رأته الملكة رغبت في أن تمرح في الحرج، وذهبت إلى جذع شجرة كبيرة من أشجار “الملح” وأرادت أن تمسك بغصن من غصونها، فانحنى الغصن حتى بات في متناول يدها كأنه الطرف الأعلى من قصبة لينة، ومدت يدها وتناولته.
وفي هذه اللحظة عينها اهتزت بالمخاض، فأقامت لها الحاشية ستاراً يسترها، وأبعدت عنها، فوضعت وليدها وهي لم تزل واقفة ممسكة بغصن الشجرة في يدها؛ ولم ينزل “بوذيساتاوا”، كما ينزل سائر الأطفال من أجواق أمهاتهم، ملوثاً بالشوائب؛ بل نزل “بوذيساتاوا” كما ينزل الواعظ من منبر وعظه، نزل كأنه الرجل ينزل السلم، ومد يديه وقدميه، ووقف لا يلوثه القذر ولا تدنسه شائبة من الشوائب، وقف مشرقاً بالضوء كأنه جوهرة موضوعة على ثوب بنارسي، هكذا هبط من جوف أمه””.
مبالغات..
ويواصل عن المبالغات التي وصفت ولادة بوذا: “وفوق ذلك ينبغي أن تعلم أن عند مولد بوذا ظهر في السماء ضوء لامع، وسمع الأصم، ونطق الأبكم، واستقام الأعرج على ساقيه، وانحنت الآلهة من علياء سمائها لتمد له أيدي المعونة، وأقبل الملوك من نائي البلاد يرحبون بمقدمه، وتصور لنا الأساطير صورة زاهية لما أحاط نشأته من أسباب العز والترف؛ وعاش عيش الأمير الهانئ في ثلاثة قصور “كأنه إله”، وكان أبوه يقيه، مدفوعاً بحبه الأبوي، شر الاتصال بما تعانيه الحياة البشرية من آلام وأحزان؛ وكان يقوم على تسليته أربع آلاف راقصة.
ولما بلغ الرشد، عرضت عليه خمسمائة سيدة ليختار إحداهن زوجة له؛ ولما كان ينتمي إلى طبقة “الكشاترية”، أي المقاتلين، أحسن تدريبه في الفنون العسكرية، ولكنه إلى جانب ذلك جلس عند أقدام الحكماء حتى أتقن دراسة النظريات الفلسفية كلها التي كانت شائعة في عصره؛ وتزوج وأصبح والداً سعيداً بحياته، وعاش في ثراء ودعة وطيب أحدوثة”.
التعرف على العالم الخارجي..
ومع خروج بوذا واكتشافه لعالمه الخارجي حدث له التغيير: “ويروى الرواة الصالحون أنه خرج من قصره ذات يوم إلى الطرقات حيث عامة الناس، وهنالك رأى شيخاً كهلاً؛ وخرج يوماً ثانياً فرأى رجلاً مريضاً؛ وخرج يوماً ثالثاً فرأى ميتاً. فاسمع له يروي القصة بنفسه، كما نقلها عنه أتباعه في الكتب المقدسة، يرويها فيحرك في نفسك كامن الشعور:
“وبعدئذ أيها الرهبان جرت خواطري على النحو الآتي، فيما كنت فيه من جلال عيش ورفاهية بالغة، قلت لنفسي: “إن رجلاً جاهلاً من سواد الناس، ستنال منه الكهولة كما نالت من ذلك الشيخ، وليس هو بالبعيد عن نطاق الشيخوخة، يضطرب ويستحي وتعاف نفسه حين يبصر بشيخ كهل، لأنه يتصور نفسه في مثل حالته؛ إنني كذلك قابل للشيخوخة، ولست بعيداً عن نطاقها؛ أفينبغي لي، وأنا القابل للشيخوخة، إذا ما رأيت شيخاً كهلاً، أن أضطرب وأن أستحي وأن تعاف نفسي؟ “لم أر ذلك مما يليق؛ ولما طاف برأسي هذا الخاطر، ذهب عني بغتة كل تيه بشبابي.
وهكذا أيها الرهبان، قبل أن أهتدي سواء السبيل، لما وجدتني ممن تجوز عليهم الولادة، بحثت في طبيعة هذه الولادة ماذا تكون؛ ولما وجدتني ممن تجوز عليهم الشيخوخة بحثت في طبيعة هذه الشيخوخة ماذا تكون، وكذلك المرض، وكذلك الحزن، وكذلك الدنس؛ ثم فكرت لنفسي: “مادمت أنا نفسي ممن تجوز عليهم الولادة، فماذا لو بحثت في طبيعتها. فلما رأيت ما في طبيعة الولادة من تعس، جعلت أبحث عمن لا يولد، أبحث عن السكينة العليا، سكينة النرفانا””.
الموت أصل الديانات..
وعن فكرة الموت كباعث رئيسي لخلق الديانات يبين الكتاب: “إن الموت هو أصل الديانات كلها؛ ويجوز أنه لم يكن هناك موت لما كان للآلهة عندنا وجود؛ هذه النظرات كانت بداية “التنوير” عند بوذا؛ وكما يرتد الإنسان عن دينه في لحظة، كذلك حدث لبوذا أن صمم فجأة أن يترك أباه وزوجته وابنه الرضيع، ليضرب في الصحراء زاهداً؛ ولما أسدل الليل ستاره، تسلل إلى غرفة زوجته، ونظر إلى ابنه “راهولا” نظرة أخيرة؛ وتقول الأسفار المقدسة البوذية، ففي فقرة يقدسها أتباع “جوتاما” جميعاً، أنه في هذه اللحظة عينها:
“كان مصباح يضيء بزيت عبق، وكانت أم “راهولا” نائمة على سرير مليء بأكداس الياسمين وغيره من ألوان الزهور، واضعة راحتها على رأس ابنها؛ فنظر “بوذيساتاوا”، بوذا المنتظر، وقدماه عند الباب، وقال لنفسه:
“لو أزحت يد الملكة لآخذ ابني، فستستيقظ الملكة، وسيكون ذلك حائلاً دون فراري؛ إنني إذا ما أصبحت بوذا سأعود لأراه” ونزل من القصر.
وفي ظلمة الصباح الباكر خلف المدينة على ظهر جواده “كانثاكا” يصحبه سائق عربته “شونا” وقد تعلق يائساً بذيل الجواد؛ وعندئذ تبدى له “مارا” أمير الشر، وأغواه بمُلك عريض، لكن بوذا أبى عليه غوايته، وظل راكباً جواده حتى صادفه نهر عريض فوثب من شاطئه إلى شاطئه بوثبة واحدة جبارة وطافت بنفسه رغبة أن ينظر إلى بلده لكنه أبى على نفسه اللفتة ليرى؛ ثم استدارت الأرض العظيمة حتى لا تصبح أمامه سبيل إلى النظر إلى وراء”.
رحيل بوذا..
ويتابع عن هجرة بذا لحياة الترف: “ووقف عند مكان اسمه “يوروفيلا” يقول: “قلت لنفسي إن هذا المكان رائع، وإن هذه لغابة جميلة؛ فالنهر ينساب صافياً، وأماكن الاستحمام تبعث في النفس السرور، وكل ما حولي مروج وقرى”. وهاهنا في هذا الموضوع أخضع نفسه لأشق أنواع التقشف؛ ولبث ستة أعوام يحاول أساليب “اليوجا”، رياض النفس، التي كانت قد ظهرت قبل ذاك في ربوع الهند؛ وعاش على الحبوب والكلأ، ومضى عليه عهد اقتات فيه بالروث، وانتهى به التدرج إلى أن جعل طعامه حبة من الأرز كل يوم، ولبس ثياباً من الوبر وانتزع شعر رأسه ولحيته لينزل بنفسه العذاب لذات العذاب.
زهد وتقشف..
ويصف الكتاب زهد بوذا: “وكان ينفق الساعات الطوال واقفاً أو راقداً على الشوك، وكان يترك التراب والقذر يتجمع على جسده حتى يشبه في منظره شجرة عجوزاً؛ وكثيراً ما كان يرتاد مكاناً تلقى فيه جثث الموتى مكشوفة ليأكلها الطير والوحش، فينام بين هذه الجثث العفنة. ثم اسمع له مرة أخرى يروي لك قصته:
“قلت لنفسي: ماذا لو زممت الآن أسناني، وضغطت لساني إلى لهاتي، وألجمت عقلي وسحقته وأحرقته بعقلي (وهكذا فعلت) ونضح العرق من إبطي… ثم قلت لنفسي: ماذا لو اصطنعت الآن غيبوبة شعورية يقف فيها التنفس؟ وهكذا أوقفت النفس شهيقاً وزفيراً من أنفي وفمي؛ ولما فعلت ذلك سمعت صوتاً عنيفاً للهواء يخرج من أذني. وكما يحدث للرجل إذا ما أراد أن يهشم لإنسان رأسه بسن سيفه، فكذلك رجت الرياح العنيفة رأسي.. ثم قلت لنفسي: ماذا لو قللت من طعامي، فلا آكل أكثر مما تسع راحتي من عصير الفول أو العدس أو البسلة أو الحمص..
فضمر جسدي ضموراً شديداً، وكان من أثر تقليل الطعام أن أصبحت العلامة التي أتركها على الأرض إذا ما جلست، في هيئة أثر الخف يتركه البعير على الرمال؛ وكان من أثر تقليل الطعام أن برزت عظام فقراتي إذا ما حنيتها أو فردتها حتى أشبهت صفاً من رؤوس المغازل؛ وكان من أثر تقليل الطعام أن أصبحت عيني تبرقان عميقتين وطيئتين في محجريهما، كما يبرق الماء عميقاً وطيئاً في بئر عميقة؛ وكان من أثر تقليل الطعام أن ذبل جلد رأسي كما تتشقق وتذوي القرعة المرة المفصولة عن فرعها وهي فجة، بفعل الشمس والمطر؛ ولما كنت أمد يدي لأمس جلدة بطني، كنت أجدني في حقيقة الأمر أمسك بفقرات ظهري؛ وكان من أثر تقليل الطعام أني إذا ما أردت برازاً وجدتني انبطح على الأرض سطيحاً، وكان من أثر تقليل الطعام أني إذا أردت راحة لجسمي وأخذت أدلكه بكفي، كانت الشعرات الذاوية تساقط منه”.
الإقلاع عن الزهد..
ثم اقلع بوذا عن الزهد باحثا عن التنوير: “لكن فكرة أشرقت على بوذا ذات يوم وهي أن تعذيب النفس ليس هو السبيل لما يريد؛ وربما كان في ذلك اليوم أشد جوعاً منه في سائر الأيام، أو ربما ثارت في نفسه إذ ذاك ذكرى من ذكريات الجمال؛ ذلك أنه لم يلحظ تنويراً جديداً يأتيه من هذه الحياة القاسية بزهدها؛ “إنني بمثل هذه القسوة لا أراني أبلغ العلم والبصيرة الساميتين على مستوى البشر، وهما العلم والمعرفة اللتان تتصفان بالرفعة الحقيقية”؛ بل الأمر على نقيض ذلك، إن تعذيبه لنفسه قد ولد فيه شعور الزهو بنفسه مما يفسد أي نوع من أنواع التقديس التي كان من الجائز أن تفيض من نفسه؛ فأقلع عن زهده وذهب ليجلس تحت شجرة وارفة الظل وجلس هناك جلسة مستقيمة لا حركة فيها.
مصمماً ألا يبرح ذاك المكان حتى يأتيه التنوير؛ وسأل نفسه: ما مصدر ما يعانيه الإنسان من أحزان وآلام وأمراض وشيخوخة وموت؟ وهنا أشرقت عليه فجأة صورة للموت والولادة يتعاقبان في مجرى الحياة تعاقباً لا ينتهي؛ ورأى أن كل موت يزول أثره بولادة جديدة؛ وكل سكينة وغبطة تقابلها شهوة جديدة وقلق جديد وخيبة أمل جديدة وحزن جديد وألم جديد.
“وهكذا ركزت عقلي في حالة من نقاء وصفاء. ركزته في فناء الكائنات وعودتها إلى الحياة في ولادة جديدة؛ وبنظرة قدسية مطهرة إلهية، رأيت الكائنات الحية تمضي ثم تعود فتولد دنية أو سنية، خيرة أو شريرة، سعيدة أو شقية، حسب ما يكون لها من “كارما” وفق ذلك القانون الشامل الذي بمقتضاه سيتلقى كل فعل خير ثوابه، وكل فعل شرير عقابه، في هذه الحياة، أو في حياة تالية تتقمص فيها الروح جسداً آخر.
إن رؤيته لهذا التعاقب السخيف سخفاً لا يخفي على الرائي، هذا التعاقب بين الموت والولادة، هي التي جعلته يزدري الحياة البشرية ازدراء؛ فقال لنفسه: إن الولادة أم الشرور جميعاً، ومع ذلك فالولادة ماضية في طريقها لا تقف فيه عند حد، أنها ماضية إلى الأبد في طريقها تعيد إلى مجرى الأحزان البشرية فيضه إن فرغ مما يملؤه؛ فلو استطعنا وقف هذه الولادة. لماذا لا نقفها؟ لأن قانون “كارما” يتطلب حالات جديدة من التقمص للروح، لكي يتاح لها أن تكفر عما اقترفت من شرور في حيواتها الماضيات؛ وإذن فإن استطاع الإنسان أن يعيش حياة يسودها عدل كامل، حياة يسودها صبر وشفقة لا يمتنعان إزاء الناس جميعاً، لو استطاع أن يحوم بفكره حول ما هو أبدي خالد، ولا يربط هواه بما يبدأ وينتهي، عندئذ يجوز أن يجنب نفسه العودة إلى الحياة، وسيغيض معين الشر بالنسبة إليه.
لو استطاع الإنسان أن يخمد شهوات نفسه، ساعياً وراء فعل الخير دون سواه، عندئذ يجوز أن يمحو هذه الفردية التي هي أولى أوهام الإنسانية وأسوأها آثراً، وتتحد النفس آخر الأمر باللانهاية اللاواعية؛ فيالها من سكينة تحل بقلب طهر نفسه من شهواته الذاتية تطهيراً تاماً !.
وهل ترى قلباً، لم يطهر نفسه على هذا النحو، قد عرف إلى السكينة سبيلاً؟ إن السعادة مستحيلة، فلا هي ممكنة في هذه الحياة الدنيا كما يظن الوثنيون، ولا هي ممكنة في الحياة الآخرة كما يتوهم أنصار كثير من الديانات، أما ما يمكن أن نظفر به فهو السكينة، هو الهمود البارد الذي نصيبه إذا ما نفضنا عنا كل شهواتنا، هو النرفانا”.
النرفانا..
وعن ادراك معنى النرفانا يواصل الكتاب: “وهكذا بعد سنوات سبع قضاها متأملاً، أدرك “النبي المستنير” سبب ما يعانيه الناس من آلام فأخذ سمته نحو “المدينة المقدسة” مدينة بنارس، وهناك في روضة الغزلان عند “سارنات” طفق يبشر الناس بالنرفانا”.