خاص: قراءة- سماح عادل
في الحلقة الرابعة من قراءة الكتاب الموسوعي الضخم “قصة الحضارة” وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء. يتناول الكتاب كيفية تحول الإنسان من المساواة التامة في الجماعة البشرية حين كان نشاطه الاقتصادي هو الرعي أو الصيد، إلى المدنية عندما اكتشف الزراعة، وأصبحت نشاطه الاقتصادي الأساسي، لكن تلك المدنية اعتمدت على الاستعباد وعلى الملكية الخاصة التي ظهرت وأصبحت أساسا للمجتمعات المدنية.
أصل التجارة..
يحكي الكتاب عن بداية نشأة التجارة بين الشعوب البدائية: “ولما كانت الكفايات البشرية والموارد الطبيعية موزعة على الأرض في غير مساواة، فقد ترى شعباً من الشعوب قادراً بفضل ما تطور لديه من استعدادات خاصة، أو بفضل قُربه من المواد المطلوبة، تراه قادراً على إنتاج أشياء معينة لا يكلفه إنتاجها ما يكلف جيرانه؛ فيمضي في صنع هذه الأشياء حتى يصنع منها أكثر من حاجته، وعندئذ يقدم فائض إنتاجه لجيرانه في مقابل ما ينتجونه هم؛ وهذا التبادل هو أصل التجارة. والتجارة بفائض الإنتاج كانت في أول أمرها تبادلا بالهدايا، ومما يَسَّرَ التبادل الحروب والسرقات والجزية والغرامات والتعويض، فكل هذه وسائل عملت على انتقال السلع من مكان إلى مكان، ثم أخذ نظام للتبادل ينشأ رويداً رويداً، فأقيمت مراكز التجارة والأسواق والمتاجر – أقيمت أول الأمر آناً بعد آن في غير نظام، ثم أقيمت على فترات معلومة، ثم أصبحت دائمة.
ومضت قرون قبل أن تخترع وسيلة متداولة ذات قيمة فتعمل على سرعة الحركة التجارية، وأول وسائل التبادل كانت سلعاً يطلبها كل إنسان ويقبلها كل بائع ثمناً لبضاعته: كالبلح والملح والجلود والفراء والحلي والآلات والأسلحة، فلما أن استخرجت المعادن أخذت تحل شيئاً فشيئاً محل سائر الأشياء في استعمالها معياراً للقيمة، مثال ذلك النحاس والبرونز والحديد، وأخيراً الذهب، وهذا الانتقال من السلع المعيارية في التبادل إلى العملة المعدنية لم يتم على أيدي البدائيين في أرجح الظن، إنما هي خطوة خطاها الناس إبان التاريخ المدّون، فاخترعوا العملة وابتكروا الدين، وهكذا زادوا ثروة الإنسان ورخاءه حين يسروا تبادل فيض ما ينتجون”.
الفصل الثالث..
أصول الملكية الخاصة، الرق، الطبقات..
عن التحول إلى الملكية الخاصة وبالتالي تقسيم الجماعة البشرية إلى طبقات يوضح الكتاب: “كانت التجارة أعظم مثير للعالم البدائي، لأنه لم يكن هناك مِلكية، وبالتالي لم يكن هناك من نظم الحكم إلا قليل، قبل أن تدخل في حياة الناس وتجر وراءها ذيولها من أموال وأرباح، ففي المراحل الأولى من التطور الاقتصادي كانت الملكية محصورة- في الأعم الأغلب- في حدود الأشياء التي يستخدمها المالك لشخصه، وكان معنى الملكية هذا من القوة بحيث لازمت الأشياء المملوكة مالكها، فغالباً ما دفنت معه في قبره (وانطبق هذا على الزوجة نفسها)، وأما الأشياء التي لا تتعلق بشخص المالك فلم تكن الملكية مفهومة بالنسبة إليها مثل هذا الفهم القوي، فلا يكفي أن نقول إن فكرة الملكية ليست فطرية في الإنسان، إنما يجب أن تضيف إلى ذلك أنها في مثل هذه الأشياء البعيدة عن شخصية المالك، كانت من الضعف في أذهان الناس بحيث تحتاج إلى تقوية مستمرة وتلقين مستمر. فتكاد تجد الأرض في كل الشعوب البدائية ملكا للمجتمع بأسره، وكانت الآلات والمخزون من الطعام ملكا مشاعا بين الجميع”.
ويأخذ الكتاب الرأي الذي يقول أن الملكية المشاعية كانت عقبة في طريق المدنية: “نعم إن الشيوعية طمأنت هؤلاء الذين خلصوا بحياتهم من حوادث الفقر والجهل وما يترتب عليهما من مرض في المجتمع البدائي، لكنها لم تنتشلهم من ذلك الفقر انتشالا، وأما الفردية فقد جاءت بالثراء، لكنها كذلك جرَّت معها القلق والرق، نعم إن الفردية حركت في الممتازين من الرجال قواهم الكامنة، لكنها كذلك نفخت نار التنافس في الحياة فأشعلتها، وجعلت الناس يحسون الفقر إحساساً مريراً، مع أن هذا الفقر لم يكن ليؤذي أحداً حين استوى فيه الجميع.
تستطيع الشيوعية أن تعيش في سهولة أكثر في مجتمعات دائمة الانتقال، لا يزول عنها الخطر والعوز؛ فالصائدون والرعاة ليس بهم حاجة إلى مِلك يحتفظون به، لكن لمّا أصبحت الزراعة صورة الحياة المستقرة، لم يلبث الناس أن تبينوا أن العناية بالأرض تبلغ أقصاها من حيث غزارة الثمر إذا ما عاد جزاء تلك العناية إلى الأسرة التي قامت بها؛ فنتج عن ذلك بحكم الانتخاب الطبيعي الكائن بين النظم الاجتماعية والأفكار، كما هو كائن بين الأفراد والجماعات ينتج أن الانتقال من الصيد إلى الزراعة استتبع تحولا من الملكية القبلية إلى ملكية الأسرة وبذلك أصبحت أكثر الوحدات الاجتماعية اقتصادا في نفقات الإنتاج، هي كذلك وحدة الملكية؛ فلما أن أخذت الأسرة شيئاً فشيئاً تتخذ الصورة الأبوية التي تركز السلطة كلها في أكبر الذكور سنا.
أخذت الملكية كذلك يزداد تركزها شيئاً فشيئاً في أيدي أفراد، ثم نشأ التوريث لشخص معين عن شخص معين؛ ولما كان كثيراً ما يحدث لفرد مغامر أن يغادر مرفأ الأسرة الآمن، ليضرب بمغامراته خارج الحدود التي وقف عندها ذووه، ثم ينتهي به العمل المتصل الشاق أن يستولي على قطعة أرض من الغابة أو الحَرج أو المستنقع؛ فإنه يحرص عليها حرصاً شديداً لا يسمح لغيره بانتزاعها لأنها ملكه الخاص، حتى لتضطر الجماعة في النهاية أن تعترف بحقه فيها، وبهذا نشأ ضرب آخر من ضروب الملكية الفردية.
الاستيلاء على الأراضي..
ومثل هذا الاستيلاء على الأراضي أخذ يزداد اتساعاً حين ازداد السكان واستُنفِذَت قوة الأرض القديمة، حتى وصل الأمر في المجتمعات، الأكثر تعقيدا من سواها، إلى أن باتت الملكية الفردية هي النظام السائد، ثم جاء اختراع المال فساعدته هذه العوامل بتيسيره لجمع الثروة ونقلها وتحويلها؛ واتخذت حقوق القبيلة القديمة وتقاليدها صورة الملكية بمعناها الدقيق، وأما المالك عندئذ فهو أهل القرية جماعةً أو الملك، ثم خضعت الملكية لإعادة التوزيع حيناً بعد حين؛ ومضى هذا العصر الذي جعل أمر الملكية يتذبذب فيه على هذا النحو من طرف إلى طرف، بين النظام القديم والنظام الجديد، وبعدئذ استقرت الملكية الفردية الخاصة استقراراً لا شبهة فيه، وأصبحت هي النظام الاقتصادي الأساسي الذي أخذت به المجتمعات في العصور التي دوَّن أخبارها التاريخ”.
الزراعة والمدنية..
الزراعة عرفت الإنسان على المدنية، لكنها جرته إلى طريق استعباد أخيه الإنسان يحكي الكتاب: “لكن بينما كانت الزراعة تنشئ المدنية إنشاءً، فإنها إلى جانب انتهائها إلى نظام الملكية، انتهت كذلك إلى نظام الرق الذي لم يكن معروفا في الجماعات التي كانت تقيم حياتها على الصيد الخالص. لأن زوجة الصائد وأبناءه كانوا يقومون بالأعمال الأدَني، وكان فيهم الكفاية لذلك، وأما الرجال فقد كانت تتعاقب في حياتهم مرحلة تضطرب بنشاط الصيد أو القتال يتلوها مرحلة من فتور الاسترخاء والدَّعة بعد الإجهاد والعناء؛ ولعل ما تنطبع به الشعوب البدائية من كسل قد بدأ- فيما نظن- من هذه العادة، عادة الاستجمام البطيء بعد عناء القتال والصيد؛ ولو أنها لم تكن عندئذ كسلا بمقدار ما كانت راحة واستجماماً؛ فلكي تحول هذا النشاط المتقطع إلى عمل مطرد، لا بد لك من شيئين: العناية بالأرض عناية تتكرر كل يوم، وتنظيم العمل.
وأما تنظيم العمل فيظل مُنحَلَّ العرى لَدُنّىَّ النشاط ما دام الناس يعملون لأنفسهم؛ لكنهم إذا كانوا يعملون لغيرهم فإن تنظيم العمل لا بد أن يعتمد في النهاية على القوة والإرغام؛ وذلك أن نشأة الزراعة وحدوث التفاوت بين الناس انتهيا إلى استخدام الضعفاء اجتماعياً بواسطة الأقوياء اجتماعياً، ولم يتنبه الظافر في القتال قبل ذلك إلى أن الأسير الذي ينفعه هو الأسير الحي.
وبذلك قلت المجازر وقل أكل الناس بعضهم لحوم بعض، كلما زاد نظام الرق اتساعاً، وإذن فقد تقدم الإنسان من حيث الأخلاق تقدماً عظيماً حين أقلع عن قتل زميله الإنسان أو أكله، واكتفى من أعدائه باسترقاقهم؛ وإنك لترى تطورا كهذا يتم اليوم على نطاق واسع، إذا أقلعت الأمم الظافرة عن الفتك بالعدو المغلوب، واكتفت باسترقاقه عن طريق التعويض الذي تقتضيه إياه؛ ولما استقر نظام الرق على أسسه وبرهن على نفعه، أخذ يزداد نطاقه بأن أضيف إلى الرقيق طوائف أخرى غير الأسرى، فأضيف إليهم المَدِينون الذين لا يوفون الدَّين، والمجرمون الذين يعاودون الإجرام، هذا إلى إغارات تُشَنُّ عمداً لاجتلاب الرقيق؛ وهكذا كانت الحرب بادئ الأمر عاملا على نشأة الرق؛ ثم أصبح الرق عاملا على شن الحروب”.
الرق..
وعن علاقة الرق بتقدم المدنية يقول الكتاب: “ولعل نظام الرق حين امتدت به القرون قد اكسب الجنس البشري تقاليده وعاداته من حيث العمل، فلن تجد بيننا أحداً يقدم على عمل شاق عسير إذا كان في مقدوره أن يتخلص منه بغير أن يتعرض لشيء من العقاب البدني أو الاقتصادي، وإذن فقد بات الرق جزءاً من النظام الذي استعد به الإنسان للقيام بالصناعة، هذا فضلاً عن أنه عمل على تقدم المدنية بطريق غير مباشر، بأن زاد من الثروة فَخَلق الفراغ لفئة قليلة من الناس، ولما مَضَت قرون على هذا النظام، جعل الناسُ ينظرون إليه كأنه نظام فطري لا غنى عنه، بهذا قال أرسطو وكذلك بارك القديس بولس هذا النظام الاجتماعي الذي لا بد أن يكون قد بدا لعينيه في عصره نظاماً قضى به الله.
هكذا أخذت الزراعة وأخذ نظام الرق، كما أخذ تقسيم العمل وما يقتضيه من اختلاف بين الناس، أخذ كل هذا يستبدل شيئاً فشيئاً بالمساواة التي كانت قائمة في الجماعة الطبيعية تفاوتاً وانقساماً إلى طبقات “ففي الجماعة البدائية لا ترى- على وجه العموم- فارقاً بين حرّ وعبد، ولا تجد فيها رقا ولا طبقات”.
إنشاء الدولة..
وعن الحاجة لإنشاء الدولة: “وكان كلما ظهر اختراع جديد، أصبح سلاحاً جديداً في أيدي الأقوياء، فزاد من سلطانهم على الضعفاء واستغلالهم لهم ثم عمل نظام التوريث على اتساع الهوة بأن أضاف إلى الامتياز في الفُرَص السانحة امتيازاً في الأملاك، فقسمت المجتمعات التي كانت يوماً متجانسة إلى عدد لا يحصيه النظر من طبقات وأوساط؛ وأحس الأغنياء والفقراء بغناهم أو فقرهم إحساساً يؤدي إلى التشاحن، وأخذت حرب الطبقات تسري خلال عصور التاريخ كأنها خيط أحمر، فاقتضى هذا النزاع بين الطبقات قيام الدولة التي لم يعد عن قيامها محيص لتنظيم تلك الطبقات ولحماية الأملاك ولشن الحروب ولتنظيم السلام”.