خاص: قراءة- سماح عادل
يتناول الكتاب امبراطورية فارس، التي ورثت المجد من الامبراطوريات الأقدم منها واستولت على دولها بعد ذلك، وحكي كيف كان ملوك فارس أقوياء. وذلك في الحلقة التاسعة والثلاثين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
فارس..
وينتقل الكتاب للحكي عن دولة فارس والتمهيد لها: “ترى من هم الميديون الذين كان لهم شأن أيما شأن في تحطيم دولة أشور؟ أما معرفة أصلهم فأمر معجز الدرك عزيز المطلب، ذلك أن التاريخ كتاب يجب أن يبدأه الإنسان من وسطه. وأول ما وصل إلينا من أخبارهم في لوحة تسجل حملة بعث بها شلما نصّر الثالث إلى بلد يسمى بارسوا في جبال كردستان (837 ق. م). ويلوح أنه كان في ذلك البلد سبعة وعشرون من الرؤساء- الملوك، يحكمون سبعاً وعشرين ولاية قليلة السكان يسمى أهلها أماداي أو ماداي أو ميديين. وهم أقوام من الجنس الهندوربّي يرجح أنهم جاءوا من شواطئ بحر الخزر إلى غرب آسيا قبل المسيح بنحو ألف عام، ويشيد الزند- أبستاق وهو كتاب الفرس المقدس بذكر هذا الموطن القديم ويصفه بأنه جنة من الجنان.
ذلك أن الأرض التي نقضي فيها شبابنا، وأيام هذا الشباب نفسه، جميلة على الدوام على شريطة ألا نضطر إلى الحياة من جديد في تلك الأرض أو في تلك الأيام. ويلوح أن الميديين كانوا يضربون في إقليم بخارى وسمرقند، وأنهم توغلوا منه نحو الجنوب شيئاً فشيئاً، حتى وصلوا آخر الأمر إلى بلاد فارس، فوجدوا النحاس والحديد والرصاص والذهب والفضة والرخام والحجارة الكريمة في الجبال التي اتخذوها موطناً لهم جديداً، ولما كانوا قوماً أشداء بسطاء في معيشتهم، فقد أخذوا يفلحون أرض السيول وسفوح التلال وعاشوا عيشة رخية”.
دولة الميديين..
ويواصل عن نشأة دولة الميديين: “في إكباتانا أي “ملتقى الطرق الكثيرة” الواقعة في واد جميل المنظر أخصبته المياه الذائبة من الثلوج المغطية لقمم الجبال أنشأ ديوسيس أول ملوكهم عاصمته الأولى، وزينها بقصر ملكي يشرف عليها ويغطي ثلثي ميل مربع من الأرض. ويقول هيرودوت في فقرة من كتابه لم تجد ما يؤيدها: إن ديوسيس هذا قد وصل إلى ما وصل إليه من القوة بما اشتهر به من العدالة. فلما أن بلغ ما بلغ طغى وتجبر وأصدر أوامر تقضي “بأن لا يسمح لإنسان بالمثول بين يديه، بل عليه أن بعرض أمره على يد رسله، وأن يعد من سوء الأدب أن يضحك إنسان أو يبصق أمامه. وقد أراد بهذه المراسم التي فرضها حوله… أن يبدو لمن لا يرونه أنه من طبيعة غير طبيعتهم”.
واشتد ساعد الميديين في أيامه بفضل حياتهم الطبيعية الاقتصادية، وأصبحوا بتأثير عاداتهم وبيئتهم ذوي جلد وصبر على ضرورات الحروب، فكانوا بزعامته خطراً يهدد أشور، فأغارت هذه على بلاد ميديا مرة بعد مرة. وظنت أنها قد هزمتها هزيمة منكرة لا تجرؤ معها على مناوئتها ولكنها وجدتها لا تمل الكفاح لنيل حريتها. واستطاع سياخار (سيساكزارس) أعظم ملوك الميديين أن يحسم هذا النزاع بتدمير نينوى. وأوحى هذا النصر آمالاً كباراً فاجتاحت جيوشه بلاد آسيا الغربية حتى وصلت إلى أبواب سرديس، ولم يَرُدّ هذه الجيوش عنها إلا كسوف الشمس.
فقد ارتاع القائدان المتقاتلان لهذا الذي ظناه نذيراً لهما من السماء، فوقّعا معاهدة للصلح أبرماها بأن شرب كل منهما جرعة من دماء عدوه. ومات كيخسرو في السنة التالية بعد أن وسع رقعة دولته في خلال حكمه وحده فأصبحت إمبراطورية تشمل أشور وميديا وفارس بعد أن كانت خاضعة لسلطان غيرها. لكن هذه الإمبراطورية قضي عليها ولم يمض على وفاة هذا الملك جيل واحد”.
الحضارة..
وعن المظاهر الحضارية لتلك الدولة يضيف: “وقد كانت هذه الدولة قصيرة الأجل، فلم تستطع لهذا السبب أن تسهم في الحضارة بقسط كبير، إذا ما استثنينا ما قامت به من تمهيد السبيل إلى ثقافة بلاد الفرس. فقد أخذ الفرس عن الميديين لغتهم الآرية، وحروفهم الهجائية التي تبلغ عدتها ستة وثلاثين، وهم الذين جعلوا الفرس يستبدلون في الكتابة الرق والأقلام بألواح الطين، ويستخدمون في العمارة العمد على نطاق واسع. وعنهم أخذوا قانونهم الأخلاقي الذي يوصيهم بالاقتصاد وحسن التدبير ما أمكنهم في وقت السلم، وبالشجاعة التي لا حد لها في زمن الحرب؛ ودين زردشت وإلهيه أهورا- مزدا، وأهرمان، ونظام الأسرة الأبوي، وتعدد الزوجات، وطائفة من القوانين بينها وبين قوانينهم في عهد إمبراطوريتهم المتأخر من تماثل ما جعل دانيال يجمع بينهما في قوله المأثور عن “شريعة ميدي وفارس التي لا تنسخ”. أما أدبهم وفنهم فلم يبق منهما لا حرف ولا حجر”.
أفول دولة الميديين..
وعن النهاية يقول: “على أن انحطاط الميديين كان أسرع من نهضتهم نفسياً. فقد أثبت استياجس، الذي خلف أباه سياخار، ما أثبته التاريخ من قبل، وهو أن الملكية مغامرة لا تؤمن مغبتها، وأن الذكاء المفرط والجنون يتقاربان كل القرب في وراثة المُلك.
لقد ورث المُلك مطمئن القلب هادئ البال، وأخذ يستمتع بما ورث، وحذت الأمة حذو مليكها فنسيت أخلاقها الجافة الشديدة وأساليب حياتها الخشنة الصارمة، ذلك أن الثروة قد أسرعت إليها إسراعاً لم يستطع أهلها معه أن يحسنوا استخدامها، وأصبحت الطبقات العليا أسيرة الأنماط الحديثة والحياة المترفة، فلبس الرجال السراويل المطرزة الموشاة، وتجملت النساء بالأصباغ والحلي، بل إن الخيل نفسها كثيراً ما كانت تزين بالذهب
. وبعد أن كان هؤلاء الرعاة البسطاء يجدون السرور كل السرور في أن تحملهم مركبات بدائية ذات دواليب خشنة غليظة قطعت من سوق الأشجار، أصبحوا الآن يركبون عربات فاخرة عظيمة الكلفة ينتقلون بها من وليمة إلى وليمة.
وبعد أن كان الملوك الأولون يفخرون بعدالتهم جاء استياجس فغضب يوماً على هرباجس فقدم له أشلاء ابنه بعد أن قطع رأسه وأرغمه على أن يأكل لحمه، فأكله هرباجس وهو يقول إن كل ما يفعله المليك يسره، ولكنه انتقم لنفسه بأن أعان قورش على خلع استياجس؛ ذلك أن قورش الشاب النابه حاكم ولاية أنشان الفارسية التي كانت تابعة للميديين خرج على طاغية إكتابانا المخنث، وابتهج الميديون أنفسهم بانتصاره على ذلك الطاغية وارتضوه ملكاً عليهم، ولم يكد يرتفع من بينهم صوت واحد للاحتجاج عليه. وما هي إلا واقعة واحدة حتى انقلبت الآية فلم تعد ميديا سيدة فارس بل أصبحت فارس سيدة ميديا وأخذت تعد العدة لتكون سيدة عالم الشرق الأدنى كله”.
ملوك فارس..
وعن ملوك فارس يحكي: “وكان قورش من الحكام الذين خُلقوا ليكونوا حكاما والذين يقول فيهم إمرسن أن الناس كلهم يبتهجون حين يتوجون. فلقد كان ملكاً بحق في روحه وأعماله، قديراً في الأعمال الإدارية والفتوح الخاطفة المسرحية، كريماً في معاملة المغلوبين، محبوباً من أعدائه السابقين- فلا عجب والحالة هذه أن يتخذ اليونان منه موضوعاً لعدة روايات، وأن يصفوه بأنه أكبر أبطال العالم قبل الإسكندر.
ومما يؤسفنا أننا لا نستطيع أن نرسم له صورة موثوقاً بصحتها مما نقرئه عنه في هيرودوت أو زينوفون. ذلك بأن أول الرجلين قد خلط تاريخه بكثير من القصص الخرافية، وأن الثاني قد جعل السيروبيديا (سيرته) مقالة عن فنون الحرب تتخللها في بعض المواضيع محاضرات في التربية والفلسفة؛ ونرى زينوفون أحياناً يخلط بين قورش وسقراط. فإذا ما أخرجنا هذه الأقاصيص لم يبق لنا من شخصية قورش إلا أنه طيف خيال ممتع جذاب.
وكل ما نستطيع أن نقوله عنه واثقين أنه كان وسيماً بهي الطلعة- لأن الفرس اتخذوه نموذجاً لجمال الجسم حتى آخر أيام فنهم القديم؛ وأنه أسس الأسرة الأكمينية أسرة “الملوك العظام” التي حكمت بلاد الفرس في أزهى أيامها وأعظمها شهرة، وأنه نظم قوات ليديا وفارس الحربية فجعل منها جيشاً قوياً لا يقهر، وأنه استولى على سرديس وبابل، وقضى على حكم الساميين في غرب آسيا فلم تقم له بعدئذ قائمة، مدى ألف عام كاملة، وضم إلى الدولة كل البلاد التي كانت من قبل تحت سلطان أشور، وبابل، وليديا، وآسيا الصغرى، حتى أصبحت تلك الإمبراطورية أوسع المنظمات السياسية في العالم القديم قبل الدولة الرومانية، ومن أحسنها حكماً في جميع عصور التاريخ.
ويبدو- على ما نستطيع أن نتصوره فيما يحيط به من سُدُم الأساطير والأوهام- أنه كان أحب الفاتحين إلى النفوس، وأنه أقام دولته على قواعد من النبل وكريم السجايا؛ وأن أعداءه كانوا يعرفون عنه لين الجانب فلم يحاربوه بتلك القوة المستيئسة التي يحارب بها الرجال حين لا يجدون بداً من أن يَقتلوا أو يُقتلوا. ولقد مر بنا من قبل- على ما يرويه هيرودوت- كيف أنجى كروسس من الحطب المحروق الذي وضع عليه في سرديس، وكيف أكرمه وجعله من أعظم مستشاريه، ومر بنا كذلك كرمه وحسن معاملته اليهود.
القواعد السياسية..
وعن القواعد السياسية التي التزم بها قورش: ” وكانت أولى القواعد السياسية التي تقوم عليها دولته أن يترك للشعوب المختلفة التي تتألف منها حرية العبادة والعقيدة الدينية، لأنه كان عليماً كل العلم بالمبدأ الأول الذي يبني عليه حكم الشعوب، وهو أن الدين أقوى من الدولة؛ ومن أجل ذلك لا نراه ينهب المدن ويخرب المعابد، بل نراه يبدي كثيراً من الإكبار والمجاملة لآلهة الشعوب المغلوبة، ويساهم بماله في المحافظة على أضرحتها؛ بل إن البابليين أنفسهم، وهم الذين قاوموا طويلاً، قد التفوا حوله وتحمسوا له حين رأوه يحافظ على هياكلهم ويعظم آلهتهم. وكان أينما سار في فتوحه التي لم يسبقه إليها فاتح من قبله قرب القرابين إلى الآلهة المحلية في تقى وورع. وكان كنابليون يعترف بالأديان كلها على السواء، ويفوقه فيما يظهره من بشاشة وكياسة وهو يكرم جميع الآلهة.
وهو يشبه نابليون من ناحية أخرى، وهو أنه مات ضحية الإسراف في المطامع. ذلك أنه لما فرغ من فتح الشرق الأدنى بأجمعه وضمه إلى ملكه،
أراد أن يحرر ميديا وفارس من غزو البدو الهمج الضاربين في أواسط آسيا. ويلوح أنه أوغل في حملاته حتى وصل إلى ضفاف نهر جيحون شمالاً وإلى الهند شرقاً؛ فلما وصل إلى ذروة مجده قتل فجأة وهو يحارب المسجيتة إحدى القبائل المجهولة التي كانت نازلة على السواحل الجنوبية لبحر الخزر، فكان كالإسكندر افتتح إمبراطورية متسعة الرقعة ولكن المنية عاجلته قبل أن ينظمها. لكن أخلاق قورش قد شابتها شائبة كبيرة، تلك هي قسوته المفرطة في بعض الأحيان”.
قمبيز..
ويكمل الكتاب عن الملوك: “وجاء بعده ابنه قمبيز وكان به شِبْهُ جِنّة، فورث عن أبيه قوته وإن لم يرث عنه شيئاً من كرمه. وبدأ قمبيز حكمه بأن قتل أخاه سمرديس منافسه في المُلك، ثم أغوته ثروة مصر الطائلة فزحف عليها ليمد حدود الإمبراطورية الفارسية إلى نهر النيل. وأفلح فيما كان يبتغيه، ولكنه على ما يظهر أضاع في سبيل ذلك رشده. ولم يكلفه الاستيلاء على منف كبير مشقة، ولكن الجيش الذي أرسله للاستيلاء على واحة أمون هلك في الصحراء، كما أخفقت حملة سيرها إلى قرطاجنة لأن بحارة الأسطول الفارسي الفينيقيين أبوا أن يهاجموا مستعمرة فينيقية؛ وجن جنون قمبيز، فذهبت عنه حكمة أبيه، وما كان يتصف به من رحمة وتسامح، فأخذ يسخر من دين المصريين، وطعن بخنجره العجل أبيس معبودهم وموضع إجلالهم وتقديسهم وهو يستهزئ به.
ولم يكفه هذا، بل أخرج الجثث المحنطة من مدافنها ونبش قبور الملوك ولم يبال في ذلك بما كان عليها من لعنات قديمة، ودنس الهياكل وأمر بإحراق ما فيها من الأصنام، ظناً منه أن عمله هذا سوف يشفي المصريين من خرافاتهم وأوهامهم، فلما انتابه المرض- ويلوح أن مرضه كان نوبات مرض تشنجية- لم يبق لدى المصريين شك في أن مرضه إنما هو عقاب حل به من قبل آلهتهم وأن دينهم لم يبق فيه بعدئذ ريبة لمرتاب.
وكأن قمبيز قد أراد أن يبرهن مرة أخرى على مساوئ الملكية المطلقة، ففعل ما فعله نابليون في بعض ساعات امتعاضه، إذ أعدم ركسانا أخته وزوجته، وقتل ابنه بركسبيس بسهم من قوسه، ودفن اثني عشر من أعيان الفرس أحياء، وقضى بإعدام كروسس، ثم ندم على ما فعل، وسر حين علم أن حكمه لم ينفذ، ثم عاقب الموظفين الذين تأخروا عن تنفيذه. وعلم وهو عائد إلى بلاده أن مغتصباً قد استولى على عرش فارس وأن ثورة صماء اندلع لهيبها في طول البلاد وعرضها لتأييده. ومن هذه اللحظة يختفي قمبيز من التاريخ، وفي بعض الروايات أنه انتحر”.
دارا بن هشتسبش..
وقام حكمه بعد ثورات: “وكان المغتصب قد ادعى أنه سمرديس وأنه نجا بإحدى المعجزات من حسد أخيه قمبيز واعتزامه قتله. أما الحقيقة فإنه كان أحد رجال الدين المتعصبين من أتباع المذهب المجوسي القديم، وكان يعمل جاهداً للقضاء على الزردشتية دين الدولة الفارسية الرسمي. ثم شبت في البلاد ثورة أخرى أطاحت بعرشه، وكان الذين نظموها سبعة من أشراف البلاد اختاروا بعدئذ واحداً منهم هو دارا بن هشتسبش ورفعوه على العرش. وبهذه الوسيلة الدموية بدأ أعظم ملوك الفرس حكمه.
وكانت وراثة العرش في الممالك الشرقية تقترن بالفتن في القصور الملكية تقوم بين المتنازعين على أزمة الحكم، كما تقترن بالثورات في المستعمرات الخاضعة لحكمها، فقد كانت هذه المستعمرات تنتهز فرصة ما ينشأ عن الفتن الداخلية من فوضى واضطراب، أو عن تولي المُلك حاكم غير مجرب فتعمل لاسترداد حريتها. وكان اغتصاب المُلك في هذه المرة واغتيال سمرديس فرصة ثمينة انتهزتها الولايات الخاضعة لفارس، فخرج عليها حكام مصر وليديا، وثارت عليها في وقت واحد سوزانه، وبابل وميديا، وأشور، وأرمينية، وساكيا، وغيرها من الولايات. ولكن دارا أخضعها جميعا واستخدم في إخضاعها منتهى القسوة. من ذلك أنه لما استولى على مدينة بابل بعد حصار طويل أمر بصلب ثلاثة آلاف من أعيانها ليرهب بذلك بقية الأهلين ويرغمهم على طاعته، ثم أتبع ذلك بسلسلة من الوقائع الحربية السريعة “هدأ” بها الولايات الثائرة واحدة بعد واحدة.
ولما رأى أن هذه الإمبراطورية الواسعة قد تتقطع أوصالها إذا حلت بها أزمة من الأزمات، خلع دروع الحرب وأصبح من أعظم الحكام الإداريين وأعلمهم كعباً في التاريخ كله، وأخذ يعيد تنظيم ملكه على نسق أصبح مثالاً يحتذى في جميع الإمبراطوريات القديمة إلى سقوط الدولة الرومانية. وبفضل هذا النظام نعمت بلاد غربي آسيا بفترة من الطمأنينة والرخاء لم ينعم هذا الصفح المضطرب بمثلها من قبل”.
الحفاظ على الامبراطورية..
واستمر دارا في حروبه: “وكان يرجو بعدئذ أن يحكم بلاده في ظل السلام، ولكن سنة الأقدار قد جرت على ألا تنقطع الحروب في الإمبراطوريات، ذلك بأن الشعوب المقهورة يجب أن يعاد قهرها من آن إلى آن، وأن الغالبين يجب أن يحافظوا في شعوبهم على فنون الحرب وعادات المعسكرات وميادين القتال، وأن الأقدار التي لا تترك شيئاً على حاله قد تتمخض عن إمبراطورية جديدة تتحدى الإمبراطورية القديمة؛ وتلك ظروف تحتم خلق الحروب إن لم تشتعل نارها من تلقاء نفسها؛ ولابد إذن من أن يعود كل جيل على احتمال مشاق القتال، وأن يعلم بالمران كيف يستسيغ الموت في سبيل الأوطان.
ولعل هذا كان من الأسباب التي حدت بدارا إلى أن يزحف بجيوشه إلى جنوب الروسيا مجتازاً مضيق البسفور ونهر الدانوب إلى الفلجا ليؤدب السكوذيين الذين كانوا لا ينفكون يغيرون على أطراف الإمبراطورية الفارسية، وأن يقودها مرة أخري مخترقاً أفغانستان، ويجتاز العشرات من سلاسل الجبال حتى يصل إلى وادي نهر السند، وأن يضم بذلك إلى مملكته أقاليم واسعة الرقعة وآلاف من الأنفس والكثير من الأموال. أما حملته على بلاد اليونان فيجب أن نبحث لها عن سبب أقوى من هذا.
ويريد هيرودوت أن يحملنا على الاعتقاد بأنه خطا هذه الخطوة التاريخية الموفقة لأن أتوسا إحدى زوجاته كايدته بها في فراشه. لكن أكرم من هذا أن نعتقد أن الملك أدرك ما تتمخض عنه دويلات المدن اليونانية ومستعمراتها من إمبراطورية أو من حلف يهدد سيادة الفرس على غربي آسيا. فلما ثارت أيونا وتلقت العون من إسبارطة وأثينا رضي دارا أن يخوض غمار الحرب وهو كاره لها. والعالم كله يعرف قصة اجتيازه بحر إيجه، وهزيمة جيشه في سهل مراثون، وعودته كسير القلب إلى فارس. وهناك أخذ يستعد استعداداً عظيماً ليحاول ضرب اليونان ضربة أخرى، ولكنه أصيب في هذه الأثناء بمرض مفاجئ أضعفه وقضى على حياته”.