خاص: قراءة- سماح عادل
رغم أن هذا القسم خصصه الكتاب للحديث عن الفلاسفة لدى الحضارة البابلية، إلا أنه انصرف للحديث عن تلك الأفكار التي تمردت على الدين لدى البابليين، واعتبر هذا التمرد، وتلك التساؤلات التي سألها بعض البابليون حول مصائرهم، والمصائب التي تحدث لهم في الحياة، اعتبرها الكتاب افكارا فلسفية، وقدم نصوصا تتساءل عن دور الإله فيما يحدث للإنسان من كوارث. وذلك في الحلقة الثلاثين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الفلاسفة..
عن علاقة الفلسفة بالدين لدى البابليين يقول الكتاب: “إن الأمم تولد رواقية وتموت أبيقورية، يقوم الدين إلى جانب مهدها (كما يقول المثل القديم)، وتصحبها الفلسفة إلى قبرها. ففي بداية الثقافات كلها ترى عقيدة دينية قوية تخفي عن أعين القوم كنه الأشياء وترقق من طبائعها، وتبث في قلوبهم من الشجاعة ما يستطيعون به أن يتحملوا الآلام ويقاسوا الصعاب وهم صابرون، تقف الآلهة إلى جانبهم في كل خطوة يخطونها، ولا تتركهم يهلكون إلا حين يهلكون؛ وحتى في هذه الحال يحملهم إيمانهم القوى على الاعتقاد بأن خطاياهم هي التي أغضبت الآلهة فانتقموا منهم. ذلك أن ما يصيب الناس من شر لا يفقدهم إيمانهم، بل يقويه في قلوبهم.
فإذا جاء النصر، وإذا نسوا الحرب لطول ما ألفوه من الأمن والسلام، ازدادت ثروتهم؛ واستبدلت الطبقات المسيطرة بحياة الجسم حياة الحواس والعقل، وحلّت اللذة والراحة محل الكدح والمتاعب؛ وأضعف العلم الدين بينما يضعف التفكير والدعة ما في الناس من رجولة وصبر على المكاره. وأخيراً يبدأ الناس يرتابون في آلهتهم، ويندبون مأساة المعرفة، ويلجئون إلى كل لذة عاجلة زائلة يعتصمون بها من سوء مصيرهم. فهم في البداية كأخيل، وفي النهاية كأبيقور؛ وبعد داود يأتي أيوب، وبعد أيوب يأتي سفر الجامعة.
وإذ كنا لا نستدل على تفكير البابليين إلا من أيام ملوكهم المتأخرين، فإن من الطبيعي أن نجد هذا التفكير تسري فيه حكمة الجلالة الصادرة من أفواه الفلاسفة المتعبين الذين يستمتعون بالملاذ كما يستمتع بها الإنجليز. فترى على أحد الألواح مثلاً بلطا- أرتوا يشكو من أنه التزم أوامر الآلهة أشد مما التزمها جميع الناس. ولكنه مع هذا أصابته طائفة من البلايا، ففقد أبويه، وخسر ماله، وحتى القليل الذي بقي له منه سرق في الطريق. ويجيبه أصدقاؤه- كما يجيب أيوب أصدقاؤه- بأن ما حل به من بلاء ليس إلا عقابا له على خطايا خافية عنه- وربما كان جزاء له على صلفه العاتي المنبعث من طول عهده بالرخاء، وهو أشد ما يثير غضب الآلهة وحسدها. ويؤكدون له أن الشر ليس إلا خيراً مقنعاً، وأنه جزء من السنن الإلهية ينظر إليه نظرة جد ضيقة بعقله الضعيف، وهو غافل عن هذه السنن في مجموعها، وأنه إذا ما استمسك بإيمانه وشجاعته، فإنه سيجزى في آخر الأمر خير الجزاء؛ وسينال ما هو خير من هذا وهو أن أعداءه سيلقون عقابهم”.
صعاب في الحياة..
ويواصل الكتاب: “وينادى بلطا- أرتوا الآلهة يطلب إليها العون- ثم تختتم القطعة الباقية من اللوح ختاماً مفاجئاً. وتعرض قصيدة أخرى وجدت ضمن بقايا مجموعة الآداب البابلية التي خلفها أشور بانيبال هذه المشكلة بعينها عرضا أدق حين يتحدث تابي- أتول- أنليل، وهو كما يلوح أحد حكام نبور، عن نفسه فيقول في وصف ما لاقاه من الصعاب:
(طمس على مقلتي كأنما أغلقهما) بقفل؛
(ووقر أذني) كأذني الشخص الأصم.
وكنت ملكاً فصرت عبداً؛
وأساء رفاقـ(ى) معاملتي كأن بي جنة.
ابعث إليَّ العون ونجني من الوهدة التي احتفرت (لي)!…
بالنهار حسرات عميقة، وبالليل بكاء؛
وطول الشهر- صراخ؛ وطول العام- شقاء…
ثم يواصل قوله فيخبرنا كيف كان طول حياته إنساناً تقياً، وكيف كان آخر شخص في العالم يصح أن يكون مصيره هذا المصير القاسي:
كأني لم أخصص للإله نصيبه على الدوام؛
ولم أبتهل إلى الآلهة وقت الطعام؛
ولم أعنُ بوجهي وآتي بخراجي؛
وكأني إنسان لم يكن التضرع والدعاء دائمين على لسانه.
لقد علّمت بلدي الاحتفاظ باسم الإله؛
وعودت شعبي أن يُعظم اسم الإلهة…
وكنت أظن أن هذه الأشياء مما يسرّ أي إله.
ولما أصابه المرض على الرغم من كل هذا التقى الشكلي، أخذ يفكر في استحالة الوقوف على تدبير الآلهة، وفي تقلبات شئون البشر.
من ذا الذي يدرك إرادة آلهة السماء!
إن تصاريف الإله كلها غموض- فمن ذا الذي يدركها؟…
إن من كان بالأمس حياً أصبح اليوم ميتاً،
وما هي إلا لحظة حتى تتقسمه الغموم، ويتحطم قلبه فجأة،
فهو يغني ويلعب لحظة؛
وما هي إلا طرفة عين حتى يندب حظه كالمحزون…
لقد لفّني الهم كأنه شبكة،
تتطلع عيناي ولكنهما لا تبصران…،
وأذناي مفتوحتان ولكنهما لا تسمعان،…
وقد سقط الدنس على عورتي،
وهاجم الغدد التي في أحشائي…
وأظلم من الموت جسمي كله…
يطاردني المطارد طوال النهار؛
ولا يترك لي بالليل لحظة أتنفس فيها…
لقد تفككت أطرافي، فلم تعد تمشي مؤتلفة،
وأقضى الليل بين أقذاري كما يقضيه الثور؛
وأختلط ببرازي كما يختلط الضأن.
ثم يعود فيجهر بإيمانه كما فعل أيوب فيقول:
ولكن أرى اليوم الذي تجف فيه دموعي،
اليوم الذي يدركني فيه لطف الأرواح الواقية،
ويومئذ تكون الآلهة رحيمة بي.
ثم تنقلب الأحوال كلها سعادة وهناءة، فيظهر أحد الأرواح الطيبة، ويشفى تابي من جميع أمراضه؛ وتهب عاصفة هوجاء فتطرد شياطين المرض كلها من جسمه. ويسبح بحمد مردك، ويقرب له القرابين النفيسة، ويهيب بالناس جميعاً ألا يقنطوا من رحمة الآلهة”.
الاستمتاع بالحياة..
ويستمر الكتاب في الاستشهاد بالنصوص: “وليس بين هذا وبين ما ورد في سفر أيوب إلا خطورة واحدة؛ كذلك نرى في الآداب البابلية أمثلة سابقة لا يمكن الخطأ فيها مما ورد في سِفر الجامعة من الكتاب المقدس. من ذلك ما ورد في ملحمة جلجاميش من نصح الإله سبيتو لهذا البطل بأن يكف عن شوقه إلى الحياة بعد الموت، وأن يأكل ويشرب ويستمتع على ظهر الأرض:
أي جلجميش، لم هذا الجري في جميع الجهات؟
إن الحياة التي تسعى لها لن تجدها أبداً.
إن الآلهة حين خلقت بني الإنسان قدّرت الموت على بني الإنسان؛
واحتفظت بالحياة في أيديها.
أي جلجميش، املأ بطنك؛
وكن مرحاً بالنهار وبالليل؛…
بالنهار وبالليل كن مبتهجاً راضياً!
وطهر ثيابك.
واغسل رأسك؛ اغتسل بالماء!
وألق بالك إلى الصغير الذي يمسك بيدك؛
واستمتع بالزوجة التي تضمها إلى صدرك “.
التمرد على الإله..
وعن الشك فيما يحدث للإنسان وهل هو من فعل الإله يضيف الكتاب: “وتستمتع في لوحة أخرى إلى نغمة أشد من هذه حزنا تختتم بالكفر والتجديف. ذلك أن جبارو وهو عند البابليين كأسبيديس عند اليونان، يسأل إنساناً يكبره أسئلة ملؤها الشك فيقول:
أيها العاقل الحكيم، يا صاحب الذكاء، تأوه من صميم قلبك!
إن قلب الإله بعيد بُعد أطباق السماوات الداخلية،
والحكمة صعبة، والناس لا يفهمونها.
ويجيبه الشيخ متشائماً تشاؤم عاموس وإشعيا:
استمع، يا صديقي، وافهم أفكاري.
إن الناس يمجدون عمل الرجل العظيم الذي يبرع في القتل،
ويحقرون الرجل الفقير الذي يرتكب ذنباً.
ويبررون أعمال الرجل الآثم الذي يقترف أشنع الأخطاء،
ويردون الرجل العادل الذي يسعى لما يريده الله.
وهم يسلطون القوي ليغتال طعام الضعيف؛
ويقوون القوي؛
ويهلكون الرجل الضعيف، ويطرده الرجل الغني.
وينصح جبارو مع هذا أن يفعل ما تريده الآلهة. ولكن جبارو يقطع صلاته بها وبالكهنة الذين ينصرون على الدوام أكبر الناس ثراء:
إنهم لم ينقطعوا عن عرض الأكاذيب والأضاليل.
يقولون باللفظ الشريف ما كان في صالح الرجل الغني.
هل نقصت ثروته إنهم يبادرون إلى معونته.
وهم يسيئون معاملة الضعيف كأنه لص،
وهم يهلكونهم في خلجة عين،
ويطفئونه كما يطفئون اللهب”.
جحيم أبدي..
ويفصل في تناول تأثير الكهان وتلاعبهم بالدين: “وليس لنا مع ذلك أن نبالغ في شأن ما نجده عند البابليين من مزاج سوداوي، وما من شك في أن الناس كانوا يصغون في رضا ومحبة إلى ما يقوله كهانهم، ويزدحمون في الهياكل يطلبون رضاء الآلهة. لكن الذي يدهشنا بحق هو طول إيمانهم بدينهم الذي لا يعرض عليهم إلا القليل من أسباب المواساة والسلوى؛ وهل ثمة شيء من هذين في قول الكهنة أن لا شيء يمكن أن يعرف إلا بالوحي الإلهي؛ وأن هذا الوحي لا يصل إلى الناس إلا عن طريقهم هم؟ ويحدثنا الفصل الأخير من هذا الوحي عن هبوط الروح الميتة صالحة كانت أو طالحة إلى أرالو أي الجحيم لتبقى فيها أبد الدهر في ظلام وعذاب مقيم. فلا عجب والحالة هذه إذا انصرف البابليون للقصف والمرح في الوقت الذي جن فيه نبوخد نصر بعد أن ملك كل شيء ولم يدرك أي شيء، وأمسى يرهب كل شيء.