خاص: قراءة- سماح عادل
انتقل الكتاب إلى الحديث عن الكتابة والأدب في الحضارة البابلية، وعن الكتابة المسمارية وفك رموزها، وعن الآثار الأدبية التي تخلفت من الحضارة البابلية وهي ملحمة جلجامش. في الحلقة السابعة والعشرين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الكتابة والأدب..
عن الكتابة والأدب لدى البابليين يحكي الكتاب: “ترى هل خلدت هذه الحياة، حياة الشهوات والتقوى والتجارة، في الأدب أو الفن، تخليداً رائعاً نبيلاً؟ لعل هذا قد كان لأننا لا نستطيع أن نحكم على مدينة ما من شذرات متفرقة من حطام بابل قذف بها بحر الزمان. إن هذه الشذرات تتصل معظمها بشئون الصلات والسحر والتجار؛ وليس ما خلفته من تراث أدبي بالشيء الكثير إذا قيس إلى ما تركته مصر وفلسطين، كانت هذه القلة شبيهة بأشور وفارس، ولسنا ندري أكان هذا من أثر الظروف والمصادفات أم كان من أثر فقرها الثقافي. أما فضلها على العالم في ميدان التجارة وفي القانون.
لكن الكتبة رغم هذا كانوا في مدينة بابل التي كان يسكنها خليط من جميع الأجناس لا يقلون عنهم في منف أو طيبة. ذلك أن فن الكتابة كان ما يزال في بداية عهده فناً ينال به من يجيده مركزاً عظيماً في المجتمع، فقد كان الطريق الموصل إلى المناصب الحكومية والكهنوتية؛ ولم يكن صاحبه يغفل قط عن الإشادة بفضله فيما يرويه من أعماله، وكان من عادة الكاتب أن ينقش ما يفيد هذا على خاتمه الأسطواني كما كان العلماء والمتعلمون في العالم المسيحي من وقت قريب يذكرون مؤهلاتهم العلمية على بطاقاتهم”.
الخط المسماري..
ويواصل الكتاب: “وكان البابليون يكتبون بالخط المسماري على ألواح من الطين الرطب بقلم ذي طرف شبيه بالمنشور الثلاثي أو الإسفين. فإذا امتلأ اللوح كتابة جففوه أو حرقوه، فكان بذلك مخطوطاً غريباً طويل البقاء. وإذا كان المكتوب رسالة نثر عليها التراب الناعم، ووضعت في مظروف من الطين، وبصمت بخاتم مرسلها الأسطواني، وكانت الألواح الطينية المحفوظة في جرار مصنفة ومرتبة على رفوف تملأ عدداً كبيراً من المكتبات في هياكل الدولة البابلية وقصورها.
وقد ضاعت هذه المكتبات، ولكن واحدة من أعظمها وهي مكتبة بورسبا قد نسخت وحفظت في مكتبة أشور بانيبال. كان ألواحها البالغ عددها 30 ألف لوح أهم مصدر استقينا منه معلوماتنا عن الحياة البابلية”.
حل الرموز..
وعن حل رموز الكتابة البابلية يقول الكتاب: “ولقد حيرت الكتابة البابلية العلماء فضلوا مئات السنين عاجزين عن حل رموزها، وكان نجاحهم في حلها آخر الأمر عملا من أجلّ الأعمال في تاريخ العلم. وتفصيل ذلك أن جورج جروتفند أستاذ اللغة اليونانية في جامعة جوتنجن أبلغ المجمع العلمي في تلك المدينة عام 1802م أنه ظل عدة سنين يواصل البحث في بعض مخطوطات مسمارية وصلت إليه من بلاد الفرس القديمة، وأنه استطاع آخر الأمر أن يتعرف على ثمانية من الاثنين والأربعين حرفاً المستعملة في هذه النقوش، وأنه ميز ثلاثة من أسماء الملوك المدونة فيها.
وبقيت الحال كذلك، أو ما يقارب من ذلك، حتى عام 1835 حين استطاع هنري رولنسن أحد موظفي السلك السياسي البريطاني في إيران، على غير علم منه بما توصل إليه جروتفند، أن يقرأ ثلاثة أسماء هي هستسبس، ودارا، وخشيارشاي (إكزركس) في نقش مكتوب بالخط الفارسي القديم وهو خط مسماري مشتق من الكتابة البابلية، وأمكنه بفضل هذه الأسماء أن يقرأ الوثيقة كلها في آخر الأمر. ولكن هذه الكتابة وان كانت مشتقة من الكتابة البابلية لم تكن هي البابلية نفسها، وقد بقى على رولنسن أن يعثر على حجر رشيد بابلي كما عثر شامبليون على حجر رشيد مصر، أي على نص واحد باللغتين الفارسية القديمة والبابلية.
وهذا ما عثر عليه في مكان يعلو عن سطح الأرض نحو ثلاثمائة قدم. وكان هذا النقش على صخرة يتعذر الوصول إليها عند بهستون في جبال ميديا، حيث أمر دارا الأول الحفارين أن يسجلوا حروبه وانتصاراته بثلاث لغات: الفارسية القديمة، والآشورية، والبابلية. وظل رولنسن يوماً بعد يوم يرقى هذه الصخرة معرضاً بذلك حياته لأشد الأخطار، وكثيراً ما كان يشد نفسه بحبل وهو ينسخ كل حرف من حروفها بعناية بالغة، حتى لقد كان أحيانا يطبع النقش كله على عجينة لينة. وبعد جهد دام اثنتي عشرة سنة كاملة نجح في ترجمة النصين البابلي والآشوري (1847).
وأرادت الجمعية الآسيوية الملكية أن تتثبت مما وصل إليه رولنسن وغيره من العلماء في هذه الوثيقة وفي غيرها من الوثائق فأرسلت إلى أربعة من علماء الآثار الآشورية أربعة صور من وثيقة مسمارية لم تكن قد نشرت وقتذاك وطلبت إلى كل منهم على انفراد أن يترجمها مستقلا عن الثلاثة الآخرين دون أن يتصل بهم أو يراسلهم. فلما جاءت الردود وجدت كلها متفقة بعضها مع بعض اتفاقا يكاد يكون تاماً. وبفضل هذا الكفاح العلمي المنقطع النظير اتسعت دائرة البحوث التاريخية بما دخل فيها من علم بهذه الحضارة الجديدة”.
اللغة البابلية القديمة..
ويشرح الكتاب عن اللغة البابلية القديمة يقول: “واللغة البابلية القديمة لغة سامية نشأت من تطور لغتي سومر وأكد. وكانت تكتب بحروف سومرية الأصل، ولكن مفرداتها اختلفت عنها على مر الأيام (كما اختلفت اللغة الفرنسية عن اللاتينية)، حتى استلزم هذا الاختلاف بين اللغتين السومرية والبابلية وضع معاجم وقواعد في النحو والصرف يستعين بها العلماء والكهنة من الشبان على تفهم اللغة السومرية “الفصحى” والكتابات السومرية الكهنوتية.
ومن أجل هذا نرى نحو ربع الألواح التي عثر عليها المنقبون في المكتبة الملكية بنينوى معاجم في اللغات السومرية والبابلية والآشورية وكتباً في نحوها وصرفها. وتقول الروايات التاريخية إن هذه المعاجم قد وضعت من عهد موغل في القدم وهو عهد سرجون ملك أكد. ألا ما أقدم عهد الدراسات العلمية! والعلامات في اللغة البابلية كعلامات في اللغة السومرية لا تدل على حروف وإنما تدل على مقاطع. ذلك أن البابليين لم يضعوا لهم حروفاً هجائية مستقلة بل ظلوا طول عهدهم قانعين بطائفة من المقاطع يرمزون لها بنحو ثلاثمائة علامة من العلامات. وقد كان حفظ هذه الرموز المقطعية عن ظهر قلب ودراسة قواعد الحساب والتعاليم الدينية المنهج المقرر في مدارس الهياكل، حيث كان الكهنة يلقنون الشبان ما هو خليق بالدرس والمعرفة.
وقد كشفت بعض أعمال الحفر عن حجرة دراسية قديمة وجدت على أرضها ألواح طينية لبنين وبنات كتبت فيها حكم أخلاقية تحث على الفضيلة قبل مولد المسيح بنحو ألفي عام، كانت كارثة مفاجئة نكاد نحن أن نحمد الله على وقوعها دهمت التلاميذ، فقطعت عليهم درسهم وحفظت لنا ألواحهم، ومصائب قوم عند قوم فوائد.
وكان البابليون كالفينيقيين، ينظرون إلى الكتابة على أنها مجرد وسيلة لتيسير بعض الأعمال التجارية، ولذا لم يضيعوا كثيراً من طينهم في كتابة الأدب. ونجد في ألواحهم قصصاً منظومة على لسان الحيوان- وهي نوع من أنواع لا حصر لها من القصص الخرافية- كما نجد فيها ترانيم دقيقة الوزن، مقسمة إلى سطور وإلى مقطوعات مفصولة بعضها عن بعض؛ لكن لا نجد من الشعر غير الديني الذي يصف شئون الناس العادية إلا القليل الذي لا يستحق الذكر؛ ونرى في المراسم الدينية ما يبشر بنشأة المسرحيات، وان لم تصل إلى مسرحيات بالفعل، ونجد عندهم قناطير مقنطرة من كتب التاريخ.
ذلك أن المؤرخين الرسميين كانوا يسجلون تقى الملوك وفتوحهم، وما يصيب كل هيكل من الهياكل من عوادي الدهر، وما يقع في كل مدينة من أحداث هامة. ويقص علينا بروسس أشهر المؤرخين البابليين وأنبههم ذكراً في اطمئنان العالم الواثق من علمه، تفاصيل وافية عن خلق العالم وتاريخ الإنسان في عهده الأول. ويقول إن الله قد اختار أول ملك من ملوك بابل ليتولى حكمها، وأنه حكمها ستة وثلاثين ألف عام، كما يقدر في الدقة، جديرة في حد ذاتها بالثناء، وباعتدال ليس فيه ما في تقدير غيره من إسراف الزمن الذي مضى من خلق الأرض إلى أيام الطوفان الأعظم بستمائة وواحد وتسعين ألفاً ومائتين من السنين”.
الآثار الأدبية وجلجامش..
وعن الآثار الأدبية التي خلفتها الحضارة البابلية يقول الكتاب: “ومن أروع الآثار الأدبية التي خلفتها أرض الجزيرة اثنا عشر لوحاً محطماً وجدت في مكتبة أشور بانيبال، وهي الآن في المتحف البريطاني. وقد كتبت على هذه الألواح ملحمة جلجميش الذائعة الصيت، وتتألف من طائفة من القصص غير الوثيقة الاتصال ضمت بعضها إلى بعض في عهود مختلفة يرجع بعضها إلى أيام السومريين أي إلى ما قبل المسيح بثلاثة آلاف عام.
ومن هذه القصص النص البابلي لقصة الطوفان. وكان جلجميش بطل القصة السالفة الذكر حاكماً أسطورياً لأروك أو إرك وهو من نسل شمش- نيشتين الذي نجا من الطوفان ولم يمت قط. ويدخل جلجميش في القصة في صورة مركبة من صورتي أونيس وشمشون، فهو طويل القامة ضخم الجسم، ومفتول العضلات، جرئ مقدام، جميل يفتن الناس بجماله.
ثلثاه إله،
وثلثه آدمي،
لا يماثله أحد في صورة جسمه…،
يرى جميع الأشياء، ولو كانت في أطراف العالم،
كابد كل شيء، وعرف كل شيء،
واطلع على جميع الأسرار،
واخترق ستار الحكمة الذي يحجب كل شيء،
ورأى ما كان خافياً،
وكشف الغطاء عما كان مغطى،
وجاء بأخبار الأيام التي كانت قبل الطوفان،
وسار في طريق بعيد طويل،
كابد فيه المشاق والآلام،
ثم كتب على لوح حجري كل ما قام به من الأعمال.
ويشكوه الآباء إلى إشتار قائلين إنه يخرج أبنائهم من دورهم ليكدحوا في “بناء الأسوار بالنهار وبالليل”؛ ويقول الأزواج إنه “لا يترك زوجة لزوجها ولا عذراء واحدة لأمها” وتذهب إشتار إلى أرورو عَرَّابة جلجميش ترجوها أن تخلق ابناً آخر مساوياً لجلجميش وقادراً على أن يشغله في نزاع بينهما، حتى يستريح بال الأزواج في أروك ويأمنون شره. وتعجن أرورو قطعة من الطين، وتبصق عليها، وتصور منها إنجيدو، وهو رجل له بأس الخنزير، ولبدة الأسد، وسرعة الطير.
ولا يعبأ إنجيدو هذا بصحبة الآدميين، بل يعتزلهم ويعيش مع الحيوانات، “يرعى الأعشاب مع الظباء، ويلعب مع مخلوقات البحار، ويروي ظمأه مع وحوش الحقول”. ويحاول أحد الصيادين أن يقتنصه بالشباك والفخاخ ولكنه يعجز عن اقتناصه، فيذهب الصياد إلى جلجميش ويرجوه أن يعيره كاهنة توقع إنجيدو في شراك حبها. فيقول له جلجميش: “اذهب أيها الصياد، وخذ لك كاهنة، فإذا جاءت الوحوش إلى مورد الماء لتستقي فلتكشف عن جمالها، فإذا رآها انفضّت من حوله الوحوش”.
وينطلق الصياد والكاهنة ويلتقيان بإنجيدو
هاهو ذا أيتها المرأة!
فحلي أزرارك،
أسفري عن مفاتنك،
حتى ينال كفايته منك!
ولا تحجمي، وأجيبيه إلى ما يشتهي!
فإذا رآك فسوف يقترب منك.
وافتحي ثوبك، حتى يرقد عليك!
وأثيري شهوته، كما تفعل النساء،
وإذن سيصبح غريباً عن وحوشه البرية،
هي التي درجت معه فوق السهوب،
وسيلتصق صدره بصدرك.
وحلت الكاهنة أزرارها،
وكشفت عن مفاتنها،
حتى ينال كفايته منها،
ولم تحجم، وأخذت شهوته،
وفتحت ثوبها لكي يرقد عليها،
وأثارت نشوته كما تفعل النساء،
والتصق صدره بصدرها.
فنسى إنجيدو أين ولد.
ويبقى إنجيدو مع الكاهنة ستة أيام وسبع ليال، يعب فيها السعادة حتى إذا مل هذه اللذة استيقظ فرأى أصدقائه من الحيوانات قد فارقته فيغشى عليه من شدة الحزن، فتزجره الكاهنة بقولها: “أنت يا من بلغت عظمة الآلهة، كيف يطيب لك العيش بين وحوش الحقول؟ تعال آخذك إلى أروك، حيث يعيش جلجميش الذي لا يدينه أحد في جبروته”. ووقع إنجيدو في شرك الكاهنة التي خدعته بثنائها عليه، فسار ورائها إلى أروك وهو يقول: “أريني المكان الذي فيه جلجميش، أقاتله وأظهر له قوتي”، فتسر بذلك الآلهة والأزواج؛ ولكن جلجميش ينتصر عليه بقوته أول الأمر ثم بعطفه وشفقته عليه بعد ذاك، ويصبح الاثنان صديقين وفيين؛ ويسيران جنبا إلى جنب يحميان أروك من عيلام، ويعودان ظافرين بعد أن يقوما بأجل الأعمال. “وخلع جلجميش عدته الحربية، ولبس ثيابه البيض، وزين نفسه بالشارة الملكية ولبس التاج”.
وسرعان ما تقع إشتار الشرهة في حبه وترنو إليه بعينيها الكبيرتين، وتقول:
“تعال يا جلجميش، وكن لي زوجاً! وقدم لي حبك هدية، ستكون أنت، زوجي، وأكون زوجتك، وسأضعك في عربة من اللازورد والذهب، لها دواليب ذهبية مطعمة بالعقيق؛ وستجرها لك آساد عظيمة، وستدخل بيتنا ومن حولك البخور المنطلق من خشب السدر… وستحتضن قدميك كلُّ الأراضي المجاورة للبحر، وسيخر الملوك كلهم سجداً لك، ويأتون بثمرات الجبال والسهول جزية يؤدونها لك عن يد”.
ويرفض جلجميش طلبها ويذكرها بما جنته على عشاقها الكثيرين ومنهم تموز، ومنهم باشق، وحصان، وبستاني، وأسد، ويناديها قائلا: “إنك تحبينني الآن، ولكنك ستضربينني بعد كما ضربت هؤلاء جميعاً”. وتطلب إشتار وهي غضبى إلى أنو الإله الأعظم أن يخلق ريماً مفترساً يقتل جلجميش. ويرفض أنو طلبها ويزجرها بقوله: “ألا تستطيعين السكوت وقد ذكرك جلجميش بغدرك وفضائحك؟” وتنذره بأنها سوف تعطل كل ما في الكون من غرائز الحب والشهوة، حتى يهلك كل شيء حي. ويخضع أنو لإرادتها، ويخلق الريم المفترس، ولكن جلجميش يتغلب على هذا الوحش بمعونة إنجيدو، وتصب إشتار على البطل لعنتها فيلقى إنجيدو بأحد أطراف الريم في وجهها. ويبتهج لذلك جلجميش ويتيه عجباً، ولكن إشتار تصرعه وهو في عنفوان مجده، وذلك بأن تصيب إنجيدو بداء عضال”.
حلم الخلود..
ويواصل الكتاب حكي ملحمة جلجامش يقول: “ويحزن جلجميش ويبكي صديقه الذي كان أحب إليه من النساء، ويفكر في أسرار الموت، وهل ثمة وسيلة للفرار من هذا المصير المحتوم. إن رجلا واحداً قد نجا منه وهو شمش- نيشتيم فهو إذن يعرف سر الخلود. ويقرر جلجميش أن يذهب للبحث عن شمش- نيشتيم، ولو اضطره هذا البحث إلى الطواف في العالم كله. ويجتاز الطريق الموصل إليه جبلاً يحرسه ماردان جباران يلمس رأساهما قبة السماء ويصل ثدياهما إلى الجحيم. ولكنهما يأذنان له بالمرور، ويسير اثني عشر ميلاً في نفق مظلم، ويخرج بعده إلى شاطئ بحر عظيم، ويرى من وراء مائه عرش سبيتو العذراء إلهة البحار.
ويناديها تعينه على عبور الماء ويقول: “إذا لم أفلح في هذا، فسألقي بنفسي على الأرض وأقضي نحبي”. وتشفق عليه سبيتو وتسمح له أن يجتاز البحر في أربعين يوماً كلها عواصف وزعازع حتى يصل إلى الجزيرة السعيدة التي يسكن فيها شمش- نيشتيم المخلد أبد الدهر.
ويتوسل إليه جلجميش أن يفضي إليه بسر الخلود ويرد عليه شمش- نيشتيم بأن يقص عليه قصة الطوفان، وكيف ندمت الآلهة على ما سببته في ثورة جنونها من دمار، وكيف أبقت عليه هو وزوجته فخلدتهما لأنهما أنجيا النوع الإنساني من الفناء ويقدم إلى جلجميش نبتة تجدد ثمارها شباب من يأكلها؛ ويبدأ جلجميش رحلته الطويلة إلى بلده مغتبطاً سعيداً ولكنه يقف في طريقه ليستحم، وبينا هو يفعل هذا إذ تخرج إليه أفعى وتسرق النبتة .
ويصل جلجميش إلى أروك يائساً حزيناً، ويطوف بالهياكل هيكلاً بعد هيكل يصلي ويدعو الآلهة أن ترد الحياة إلى إنجيدو ولو لم تطل حياته إلا ريثما يكلمه كلمة واحدة. ويظهر إنجيدو ويسأله جلجميش عن حال الموتى، فيرد عليه إنجيدو بقوله: “لا أستطيع أن أجيبك لأني لو فتحت الأرض أمامك، ولو أخبرتكما بما رأيت، لقضيت من شدة الهول، ولغشي عليك”. ولكن جلجميش رمز الفلسفة، وهي تلك البلاهة الجريئة، يصر على طلب الحقيقة ويقول: “سيقضى عليّ الرعب، ويغشى عليّ، ولكن خبرني عنه”. ويصف له إنجيدو أهوال الجحيم، وبهذه النغمة الحزينة تختتم الملحمة الناقصة”.