قصة الحضارة (252): كانت التماثيل اليونانية تنبض بالحياة

قصة الحضارة (252): كانت التماثيل اليونانية تنبض بالحياة

خاص: قراءة- سماح عادل

يحكي الكتاب عن الفنون في الحضارة اليونانية، وعن المزهريات والخزف الدقيق الملون. وذلك في الحلقة الثانية والعشرين بعد المائتين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

النحت..

ينتقل الكتاب إلي الحكي عن النحت في الحضارة اليونانية القديمة: “كان من أثر استيطان اليونان غرب آسية وفتح مصر للتجارة اليونانية حوالي عام 660 ق.م أن دخلت أشكال الشرق الأدنى ومصر وأساليبهما إلى أيونيا وبلاد اليونان الأوربية. ذلك أن مثالين كريتين هما دبوئينوس وسيلوس استدعيا حوالي عام 580 إلى سكيون وأرجوس ليقوما فيهما بمهمة فنية. ولما أن غادراهما لم يتركا فيهما تماثيل فحسب بل تركا فيهما تلاميذ أيضاً. ونشأت من ذلك الحين مدرسة للنحت قوية في بلاد البلوبونيز.

وكان لهذا الفن أهداف كثيرة فكان أولا يخلد الموتى بالأعمدة البسيطة، ثم برؤوس تماثيل قائمة على قواعد، ثم بتماثيل كاملة أو لوحات جنائزية منقوشة. وكانت التماثيل تصنع للفائزين في الألعاب الرياضية فكانوا أولا ينحتون نماذج لتماثيل هؤلاء الفائزين. وكان خيال اليونان الحي الخصيب من أسباب تشجيع هذا الفن، فقد جعلهم يصنعون للآلهة تماثيل يخطئها الحصر”.

الخشب..

وعن استخدام الخشب: “وكان الخشب هو المادة التي تصنع منها أكثر التحف حتى القرن السادس قبل الميلاد، وشاهد ذلك ما نسمعه كثيرا عن صندوق سبسيلوس طاغية كورنثة ويقول بوزنياس إنه صنع من خشب الأرز المطعم بالعاج والذهب، وزين بالنقوش المعقدة المحفورة. ولما زاد الثراء كانت التماثيل الخشبية تغطى كلها أو بعضها بالمواد الثمينة. وبهذه الطريقة صنع فيدياس تماثيله الذهبية والعاجية لأثينة بارثنوس ولزيوس الأولمبي. وظل البرونز ينافس الحجر في صنع التماثيل إلى آخر عصر اليونان الزاهر.

وقد صهر العدو الأكبر من هذه التماثيل البرونزية ولم يبق منها إلا القليل، ولكن في وسعنا أن نستدل من تمثال سائق العربة الخاضع الذليل المحفوظ في متحف دلفي (حوالي 490 ق.م) على ما بلغته صناعة التماثيل المجوفة من الإتقان الذي يقرب من الكمال مذ أدخلها ريكوس وثيودورس الساموسيان في بلاد اليونان. وقد صبت مجموعة التماثيل الأثينية للطاغيتين (هرموديوس وأرستوجيتون)، وهي المجموعة الذائعة الصيت، من البرونز على يد أنتنور في أثينة بعد قليل من طرد هبياس. وكان مثالو أثينة يستخدمون أنواعا كثيرة من الحجارة اللينة قبل أن يعمد مثالو اليونان إلى تشكيل الحجارة الصلبة المختلفة الأنواع باستخدام المطرقة والإزميل، فلما أن عرفوا كيف يستخدون هاتين الأداتين كادوا يأتون على كل ما في نكسوس وباروس من رخام. وكثيراً ما كانت التماثيل في العهد القديم (1100-490) تطلى بالألوان، ولكنهم وجدوا في آخر سني ذلك العهد أن ترك الرخام المصقول من غير طلاء اصطناعي أوقع في النفس وأدنى إلى تمثيل بشرة النساء الرقيقة”.

الثياب..

وعن الثنايا في الأقمشة: “وكان يونان أيونيا أول من عرفوا فوائد جعل الثياب عنصراً من عناصر صناعة النحت. ذلك أن الفنانين في مصر والشرق الأدنى كانوا يجعلون الأثواب جامدة ملتصقة بالجسم، ولم تكن تزيد على مئزر حجري كبير يخفي الجسم الحي، ولكن المثالين اليونان في القرن السادس أدخلوا الثنايا في الأقمشة، واستخدموا الثياب للكشف عن مصدر الجمال الأول وطرازه وهو الجسم البشري الصحيح السليم. غير أن أثر المصريين والآسيويين في الفن اليوناني ظل له من القوة ما جعل التماثيل في كثير من آثار النحت اليونانية العتيقة ثقيلة جامدة خالية من الرشاقة، وجعل الساقين مشدودتين حتى في حالة الراحة، والذراعين مسترخيتين متدليتين على الجانبين، والعينين لوزيتي الشكل مائلتين أحيانا كعيون معظم الشرقيين، والوجه ذا شكل ثابت لا يتغير في جميع التماثيل خاليا من الحركة والعاطفة، وكانت التماثيل اليونانية في ذلك العهد تتبع القاعدة التي جرى عليها المصريون في صنع تماثيلهم، وهي أن يصنعوها على الدوام متجهة بوجوهها نحو الناظر إليها، ومتناسبة الجانبين أدق التناسب، حتى لو أنك رسمت خطا عموديا في وسطها لمر هذا الخط في منتصف الأنف، والفم والسرة، وأعضاء التناسل لا يحيد عن ذلك قيد شعرة إلى اليمين أو اليسار، ولا يتأثر موضعه بحركة الجسم أو سكونه.

ولعل العرف هو سبب هذا الجمود المقبض الممل؛ فقد كان قانون الألعاب اليونانية يحرم على الفائز فيها أن يصنع له تمثال أو ترسم له صورة إلا إذا كان قد فاز في جميع المباريات ذات الألعاب الخمس، ويقولون إن الفائز فيها جميعاً هو وحده الذي يستمتع بالنمو الجثماني المتناسق الخليق بأن يكون أنموذجا للجسم البشري السليم”.

العرف الديني..

وعن تحكم الأعراف الدينية في النحت: “وهذا السبب مضافا إليه في أغلب الظن أن العرف الديني قبل القرن الخامس كان هو المسيطر على تمثيل الآلهة في اليونان، كما كان مسيطرا عليه في مصر، هو الذي جعل المثال اليوناني يقتصر على عدد قليل من الأوضاع والأنماط ويصرف كل جهوده ومواهبه في إتقانها.

وكان أهم ما صرف فيه جهوده وأتقن دراسته نمطان من التصوير هما تصوير الشاب العاري إلا من القليل الذي يستحق الذكر من الملابس، ذي اليدين المقبوضتين والوجه الهادئ الصارم؛ وتصوير العذراء المصففة الشعر ذات الوقفة والثبات المتواضعة، تمسك ثوبها بإحدى يديها، وتقرب القربان للآلهة باليد الأخرى. وقد ظل المؤرخون إلى عهد قريب يسمون التماثيل الأولى “أبلو” ولكنها كانت في أغلب الظن تماثيل للرياضيين أو تماثيل جنائزية. وأشهر هذا النوع هو أبلو تينيه، وأكبرها حجما تمثال أبلو سونيوم، وأدلها على التفاخر عرض أبلو في أمكلي قرب إسبارطة، ومن أجملها كلها تمثال أبلو استرانج فورد المحفوظ في المتحف البريطاني. وأجمل منه أبلو شوازول جوفييه، وهو صورة رومانية مأخوذة عن التمثال الأصلي الذي صنع في القرن الخامس.

وتماثيل العذارى أوقع في عين الذكور على الأقل من تماثيل الرجال: فأجسامهن رشيقة هيفاء، ووجوههن تعلوها ابتسامة ظريفة أشبه بابتسامة صورة موناليزا، وثيابهن قد بدأت تتحرر من الجمود العرفي. وبعض التماثيل كالتماثيل المعروضة في متحف أثينة خليق بأن يعد من روائع الفن في أي قطر آخر من أقطار العالم”.

عذراء طشيوز..

ويواصل الكتاب: “ومنها تمثال نستطيع أن نسميه عذراء طشيوز، وهو يعد آية فنية في بلاد اليونان نفسها. وإن ما في هذه التماثيل من مسة أيونية شهوانية لينفي عنها بعض ما بها من جمود مصري وصرامة دورية كالتي نشاهدها في تماثيل “أبلو”. وقد ابتدع أركرموس الطشيوزي طرازا آخر من التماثيل، أو لعله أعاد إلى الوجود طرازا منسيا منها، في تمثال النصر المقام في ديلوس. ومن هذا الطراز نشأ فيما بعد طراز تماثيل النصر الجميلة التي صنعها بينيوس في أولمبيا، وتماثيل النصر المجنحة المقامة في سمثريس، وصور الملائكة المجنحة في الفن المسيحي.

وقد نحت مثالون مجهولون بالقرب من ميليتس طائفة من تماثيل النساء المكسوة الجالسة لتوضع في هيكل البرنشيدي، وهي تماثيل قوية لكنها فجة، مهيبة لكنها ثقيلة، عميقة لكنها ميتة .

وقد بلغت صناعة الحفر درجة من القدم يسرت لإحدى القصص الظريفة أن تصف منشأها. وتقول هذه القصة أن فتاة من كورنثة رسمت على جدار الخطوط الخارجية ظل رأس حبيبها الذي يلقيه ضوء مصباح على جدار.ثم جاء أبوها بوتاديس وهو فخراني فملأ ما بين هذه الخطوط بالصلصال، وضغطه حتى جمد، ثم رفعه، وحرقه؛ ويؤكد لنا بلنى أن هذه هي الطريقة التي نشأ بها النقش القليل البروز.وأصبح هذا الفن أكثر أهمية من صناعة التماثيل في تزيين الهياكل والقبور، وقد صنع أرسطاطاليس نقشا جنائزيا لأرستيون في عام 520 ق.م وهو تحفة من التحف الثمينة الكثيرة المحفوظة في متحف أثينة.

وإذ كانت هذه النقوش البارزة تلون على الدوام تقريبا، فقد كانت فنون النحت والنقش والتصوير وثيقة الاتصال بعضها ببعض، وكانت كلها تستخدم في العمارة، وكان معظم الفنانين مهرة في هذه الفنون جميعها، وكانت بروز الهياكل وأصنافها، وما بين هذه الأصناف، وما وراء القواصر كانت هذه كلها تطلى عادة بالألوان، على حين إن البناء الرئيسي كان يترك عادة بلون الحجارة الطبيعي.أما الرسم الملون بوصفه فنا مستقلا فليس لدينا من آثاره في البلاد اليونانية إلا القليل الذي لا يستحق الذكر ولكننا نعرف من بعض أقوال الشعراء أن التصوير على الخشب بالألوان الممزوجة في الشمع السائح كان من الفنون التي مارسها اليونان من عهد أنكريون.وكان هذا الفن آخر ما ازدهر من الفنون في بلاد اليونان وآخر ما اندثر منها”.

مناصرة الفنون..

وجملة القول أن القرن السادس لم يبلغ فيه أي فن من فنون اليونان، إذا استثنينا فن العمارة، ما بلغته الفلسفة اليونانية والشعر اليوناني في هذا القرن نفسه من جرأة في التفكير وكمال في التصوير.ولعل مناصرة الفنون كانت بطيئة النشأة بين أرستقراطية كانت لا تزال ريفية فقيرة، أو بين طبقة رجال الأعمال التي كانت لا تزال ناشئة لم يخلق فيها الثراء حاسة الذوق.ومع هذا فقد كان عهد الطغاة فترة تحفز وتحسين في كل فن من الفنون اليونانية  وبخاصة في عهد ببسستراتس وهبياس في أثينة. وفي أواخر هذا العهد بدأ الجمود القديم الذي كان يلازم فن النحت يزول شيئا فشيئا، وقضي على القاعدة القديمة قاعدة نحت التماثيل مواجهة لناظرها، وأخذت الساقان تتحركان، والذراعان تبتعدان عن الجانبين، واليدان تنفتحان، والوجه ينم عن الإحساس والأخلاق، والجسم ينثني ويتخذ أوضاعا مختلفة تكشف عن دراسات جديدة في التشريح والحركة.

وكان هذا  الانقلاب العظيم في فن النحت، وما بعثه في الحجارة من حياة حادثا خطيرا في تاريخ اليونان؛ كما كان التحرر من المواجهة في التماثيل من أجل أعمال اليونان الفنية. ومن ذلك الحين نبذ الفن اليوناني تأثير المصريين والشرقيين، وأصبح فنا يونانيا خالصا.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة